في إحدى قرى محافظة الشرقية، يجلس محمد صلاح ضمن عدد من الأهالي يبحثون سبل البحث عن ذويهم الذين خرجوا في رحلة هجرة غير شرعية من ليبيا قبل سنتين، الرحلة التي انتهت بغرق المركب قبيل سواحل اليونان. ورغم عودة عدد من جثامين الضحايا، إلا أن أخاه وعددا من أبناء القرية لم يعودوا، وسط تأكيدات بأن عددا منهم لم يكن على متن المركب الغارق، وأنهم ما زالوا محتجزين في ليبيا، لكن دون تأكيد من أي جهة رسمية.
شقيق محمد من آلاف المصريين المفقودين في ليبيا، حيث تقدر منظمة الهجرة الدولية أعداد المحتجزين من المهاجرين غير الشرعيين في السجون الرسمية الليبية بنحو 4200 شخص، بينما تضيف التقديرات نحو 3 آلاف آخرين في مراكز احتجاز غير رسمية تسيطر عليها العصابات. ورغم أن هذه الأرقام تشمل جميع الجنسيات، إلا أن الجزء الأكبر منها مصريون، باعتبارها الدولة الأقرب إلى الحدود المصرية.
سيناريو الهجرة
في عام 2016، استفاقت مصر على خبر كارثة غرق مركب هجرة غير شرعية على بعد 12 كيلومترًا من سواحل مدينة رشيد بمحافظة البحيرة، وهي الكارثة التي عُرفت لاحقًا باسم “كارثة مركب رشيد”، وراح ضحيتها 237 مهاجرًا ما بين مصريين وسوريين وأفارقة. وكانت مصر حينها دولة معبر ومصدر للهجرة غير الشرعية؛ فدولة المصدر هي الدولة التي يرغب أبناؤها بالهجرة غير الشرعية، بينما دول المعبر هي الدول التي تُستخدم سواحلها للهجرة.
بعد كارثة رشيد، كثّفت الحكومة المصرية جهودها لمنع استخدام شواطئها للهجرة غير الشرعية، وخلال اجتماعات المؤتمر الأول لمصر والاتحاد الأوروبي في بروكسل يوم 22 أكتوبر 2025، شدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على نجاح بلاده في منع الهجرة “غير الشرعية” إلى أوروبا، قائلًا: “لم يخرج قارب واحد من مصر يحمل مهاجرين غير شرعيين إلى السواحل الأوروبية منذ 2016”.
ما قاله الرئيس المصري صحيح نظريًا، لكن على مستوى التطبيق العملي، فإن الهجرة غير الشرعية استمرت بكثافة خلال العقد الأخير. وبدلًا من أن تكون مصر دولة معبر عبر الشواطئ، أصبحت دولة معبر عبر الصحراء، حيث يسافر أبناؤها ومهاجرون من جنسيات أخرى عبر الصحراء للوصول إلى ليبيا، التي تُستخدم سواحلها للهجرة إلى إيطاليا أو اليونان.
وبحسب عبد القادر عبد الرحمن – اسم مستعار – فإنه استطاع السفر عبر وسطاء للذهاب إلى ليبيا من قريته بمركز أبنوب في محافظة أسيوط، حيث استقل الطيران إلى مطار برج العرب، ومنه إلى الحدود المصرية، حيث تسلّمه أحد المهرّبين ليسلّمه بدوره إلى مهرّب آخر على الجانب الآخر.

عبد القادر، وهو شاب حاصل على مؤهل متوسط، جذبه عدد من الأصدقاء الذين سبقوه للسفر عبر محادثات وصور لحياتهم في إيطاليا، وأغروه بالحياة الجميلة والأجور المرتفعة، وبالفعل حصل، عبرهم، على رابط لصفحة المهرّب الذي تواصلوا معه، لكنه وجد الأمر مختلفًا تمامًا في ليبيا.
يقول عبد القادر إن الوصول إلى ليبيا كان صادمًا؛ فأصدقاؤه الذين تواصلوا معه كانوا في ليبيا لا في إيطاليا، ويعملون في إحدى مزارع الزيتون دون أجر، وأُجبروا على التواصل معه ومع غيره من أبناء القرية لإغرائهم بالهجرة، وإلا كان المقابل هو الموت.
عمل عبد القادر لعدة شهور في المزرعة، تعرّض خلالها للتعنيف وسوء التغذية، قبل أن يُجبره المهرّب على التواصل مع والده لابتزازه مقابل 150 ألف جنيه لإعادته إلى مصر، وهو المبلغ الذي دبّره الأب عبر قروض من شركات التمويل متناهي الصغر، مقابل فوائد مرتفعة تصل إلى 100%، لإعادة ابنه. وبعد تحويل المبلغ عبر وسطاء مصريين، عاد عبد القادر إلى مصر بعد ثلاثة أشهر، لكن في صورة مختلفة تمامًا عن تلك التي سافر بها، بسبب الإعياء وسوء التغذية.
ما قاله عبد القادر يتطابق مع ما رواه محمد صلاح، الذي أوضح أن شقيقه كان على علم بمخاطر السفر، لكن كثيرًا من أبناء قريته جرى استدراجهم عبر ما يُسمّى بالسفر المجاني إلى ليبيا، حيث لا يطلب الوسيط منهم أموالًا، ويمنّيهم بأن تكاليف الرحلة ستُخصم لاحقًا من أجورهم في إيطاليا، لكن بعد السفر يُفاجأون بابتزاز ذويهم وتهديدهم بدفع تكلفة الرحلة التي تصل إلى 200 ألف جنيه، رغم أن غالبيتهم لا يستطيعون تحمّل هذه التكلفة، ومن لا يدفع يظل محتجزًا في المخازن، ويتعرّض للتعذيب أو للعمل القسري، أو حتى للقتل.
سجن الردع
خليفة مصطفى واحد من 200 من أهالي المفقودين الذين توجّهوا إلى مبنى وزارة الخارجية بالعاصمة الإدارية الجديدة في ديسمبر، لمعرفة مصير ابن شقيقه زياد مصطفى خليفة (16 سنة)، المفقود منذ ثلاث سنوات، بعد إقناع والده عبر وسيط بأن فرصة هجرة زياد إلى إيطاليا كبيرة، لأنه يُعدّ طفلًا وفق القانون، لعدم بلوغه السن القانونية، وهو ما يُجبر الحكومة الإيطالية على منحه اللجوء، ووضعه في أحد المعسكرات للتعليم والتأهيل للعمل قبل الحصول على الجنسية الإيطالية. وحصل المهرّب على 150 ألف جنيه نظير تهريبه.
إلا أنه، بحسب خليفة، فإن الزورق المستخدم للهجرة أُعيد إلى الشواطئ الليبية من قبل السلطات الليبية، وتم إيداعهم، مع غيرهم، داخل مراكز احتجاز ليبية. وكان مصير زياد، بحسب المعلومات التي حصلت عليها عائلته، سجن معيتيقة المعروف بسجن “الردع”.
وسجن الردع هو سجن تسيطر عليه قوة عسكرية تُعرف باسم قوة الردع، أو جهاز الردع، وهو جهاز تأسّس بعد سقوط القذافي بعام واحد، وكان يتبع المجلس العسكري في طرابلس، ثم انتقلت تبعيته إلى وزارة الداخلية. وفي عام 2018 جرى حلّه من قبل حكومة الوفاق الوطني، ليُعاد تشكيله مرة أخرى بميزانية مستقلة تحت اسم جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. ويقوده الرائد عبد الرؤوف كاره، ويدين بالولاء لحكومة الوفاق الوطني في غرب ليبيا، وهي الحكومة التي تناصبها القاهرة العداء، إذ تساند قوات الجيش الليبي الوطني بقيادة خليفة حفتر المسيطرة على شرق ليبيا.
هناك 14 محافظة تُعدّ الأكثر تصديرًا للهجرة غير الشرعية، على رأسها الدقهلية والبحيرة وكفر الشيخ والشرقية وأسيوط وسوهاج والفيوم
ولا يُعرف على وجه الدقة عدد المصريين المحتجزين في سجن الردع، لكنه أحد السجون التي يتردّد اسمها بقوة في بلاغات المصريين المفقودين، من بينهم عاطف محمد حبيب، ابن مركز أبنوب، الذي فُقد في أغسطس 2016، وكان يحمل حينها جواز سفر ساريًا. ومنذ فقدانه، تواصل مع الأسرة عدد من الأشخاص مطالبين بأموال، بزعم أنه موجود داخل سجن الردع، لكن الأسرة، التي طرقت كل الأبواب الرسمية لمعرفة مصير ابنها، لم تتوصل إلى أي نتيجة.
الأمل الأخير
مع عدم وجود أي معلومات لدى الجهات الرسمية حول مصير أبنائهم، دشّنت الأسر المصرية عشرات المجموعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة مصير أبنائها، حيث ينشر الأهالي صور ذويهم بحثًا عن أي معلومة. من بين هؤلاء أبانوب عاطف، ابن عم الطفل إبرام خالد شمعون (16 عامًا)، المفقود في ليبيا منذ أكتوبر الماضي.
يقول أبانوب: “إبرام هو الابن الذكر الوحيد لعمي، وبسبب الفقر ورغبته في مساعدة والده قرر الهجرة غير الشرعية، لا سيما مع إغراءات أصدقائه الذين سافروا قبله”.
وبحسب أبانوب، لم تعرف الأسرة بسفر ابنها إلا بعد مغادرته، خاصة أن المهربين والوسطاء يغرون الشباب بأن تكلفة الرحلة ستُدفع من رواتب عملهم في إيطاليا، لكن في الطريق اتصل بهم إبرام طالبًا مبلغًا من المال، وعند وصوله إلى المخزن في ليبيا طلب المهربون مبلغًا آخر، ليصل إجمالي المبلغ إلى 420 ألف جنيه. واضطر الأب للاقتراض من شركات التمويل متناهي الصغر، إضافة إلى بيع البهائم التي يملكها. وبعد ذلك طلبوا مبلغ 30 ألف جنيه أخرى، لكن الأسرة لم تدفعه بسبب فقدان إبرام.
تواصلت الأسرة مع وزارة الخارجية المصرية والنائب العام المصري، خاصة مع وجود عدد كبير من المفقودين من القرية نفسها وفي التاريخ والرحلة ذاتيهما، لكنهم لم يحصلوا على أي رد شافٍ.
وبحسب وزارة الهجرة المصرية، فإن هناك 14 محافظة تُعدّ الأكثر تصديرًا للهجرة غير الشرعية، على رأسها الدقهلية والبحيرة وكفر الشيخ والشرقية وأسيوط وسوهاج والفيوم.
أعلنت وزارة الخارجية المصرية وفاة 14 مواطنًا في حادث غرق قارب هجرة غير نظامية قرب ميناء جزيرة كريت اليونانية.
تواصلت السفارة المصرية في أثينا مع السلطات اليونانية لتقديم الدعم للناجين، وإنهاء الإجراءات القانونية اللازمة لشحن جثامين الضحايا إلى مصر.
أشارت إلى أن جزيرة كريت تحولت… pic.twitter.com/MhoqPrmnu3
— نون بوست (@NoonPost) December 17, 2025
من جانبها تقول أميرة الطحاوي، الباحثة في شؤون الهجرة واللجوء، إنه منذ عام 2016 وحتى الآن وقعت أعداد كبيرة من حوادث الغرق، وأحيانًا يتم إعادة القوارب إلى الشواطئ الليبية من قبل خفر السواحل أو القوات الليبية النظامية وغير النظامية، ويتم احتجاز المهاجرين، ما يؤخر الإعلان عمّن عاد حيًا أو غرق. وتشير إلى أن السفارة المصرية لا تتواصل بطريقة كريمة ولائقة مع أسر المفقودين، إلا إذا ورد إليها اسم شخص محتجز في قضية جنائية، أما في ما يخص المهاجرين غير النظاميين فإنها لا تتدخل إلا إذا تدخلت منظمة الهجرة الدولية وجهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية في ليبيا، وأعلنا عزمهما ترحيل عدد من المهاجرين غير الشرعيين.
وأشارت الطحاوي إلى أنه في نوفمبر الماضي بدأت السفارة القيام بزيارات لبعض مراكز الاحتجاز، لكن هذا السلوك الإيجابي لم يستمر، وبالتالي لا يزال هناك عدد كبير من الأسر التي تأمل بأن أبناءها أحياء ومحتجزون لدى جهات غير نظامية، وهو ما يجعلهم عرضة للابتزاز بشكل دائم.
وأضافت الطحاوي أنه لا توجد تقديرات دقيقة لأعداد المصريين المفقودين في ليبيا، لكن هناك مراكز فُقد منها المئات، مثل مركز أبنوب في أسيوط. وأشارت إلى أن الانقسام في ليبيا بين حكومتي غرب وشرق البلاد يؤثر بشكل مباشر على أزمة المفقودين، ورغم وجود اتفاق غير رسمي بين الحكومتين يسمح بالترحيل عبر البوابات بين شرق وغرب ليبيا بمشاركة جهات دولية، إلا أن هذا الانقسام يؤخر معرفة مصير المفقودين، لا سيما في ظل أداء السفارتين المصريتين في ليبيا؛ سواء في شرق ليبيا، التي يُفترض أن تكون السفارة فيها قوية، أو في غرب ليبيا، حيث تعمل السفارة ليومين فقط، مؤكدة أن أداء السفارتين متراخٍ وغير مقدِّر لحجم أزمة وجود مصريين مختفين.
ونفت الطحاوي وجود حالات اختطاف تنفذها عصابات بحق المهاجرين، موضحة أن ما يحدث في الغالب هو عدم اتفاق بين المهرّب والوسيط، كما جرى في حادثة سفينة اليونان، فبعد غرق السفينة، خاف من تبقى من الأطفال الموجودين في المخزن وطلبوا العودة، فقام المهرّب بابتزاز الأهالي وطلب 30 ألف جنيه إضافية، وهو ما يتكرر مع عدد كبير من المفقودين. كما يتعرض الأهالي أيضًا لابتزاز ونصب من نوع آخر، إذ يتصل بهم أشخاص يدّعون وجود أبنائهم في سجن معين ويطلبون مبالغ مالية للإفراج عنهم، فتضطر الأسر للدفع أملًا في عودة أبنائها.
وشددت الطحاوي على أن الجهات المصرية تتعامل مع الأهالي بتعالٍ، باعتبارهم المسؤولين عن سفر أبنائهم في رحلات الهجرة غير الشرعية.

وكانت وزارة الخارجية المصرية قد أعلنت، قبل يومين، في بيان لها عقب الوقفة الاحتجاجية لأهالي المختفين، عن اتصالاتها وتحركاتها على أعلى المستويات مع ليبيا لاستجلاء موقف المواطنين المصريين المفقودين، والوقوف على أوضاعهم، واتخاذ الإجراءات اللازمة للتعرّف على مصيرهم.
أوضحت فيه أن هذه الجهود تتم بتنسيق مكثف ومباشر بين السفارة المصرية في طرابلس والقنصلية العامة المصرية في بنغازي، وبالتعاون الكامل مع السلطات الليبية المعنية، وبمشاركة القطاعات المختصة بالوزارة، بما يعكس أولوية هذا الملف وحرص الدولة المصرية على متابعة أوضاع مواطنيها في الخارج دون استثناء.
ووفقًا للبيان، أسفرت هذه التحركات عن نتائج ملموسة، من بينها نجاح وزارة الخارجية في استعادة 131 مواطنًا مصريًا من أحد مراكز الاحتجاز في ليبيا يوم 27 نوفمبر الماضي، وذلك عقب جهود حثيثة ومتواصلة بذلتها السفارة المصرية في طرابلس بالتنسيق مع الجهات الليبية المختصة، ما أتاح إطلاق سراحهم وتيسير عودتهم الآمنة إلى أرض الوطن.
من جانبها، قالت غرفة الإنقاذ الليبية، وهي جهة تطوعية تُعنى بمتابعة أحوال المفقودين في ليبيا، إنه بحسب البلاغات التي وردت إليها فإن أعداد المصريين المفقودين في ليبيا، ولا سيما القُصّر، خلال العامين الماضيين كبيرة جدًا، وأن عددًا منهم دخلوا ليبيا بطرق شرعية عبر المطارات.
وأوضحت غرفة الإنقاذ أن ما يزيد تعقيد هذا الملف هو الوضع المتداخل في ليبيا وتعدد الجهات التي تتولى التعامل معه، حيث يُحال المقبوض عليهم إلى مراكز احتجاز تابعة لوزارة الهجرة، بينما يُحال آخرون إلى سجون تابعة لوزارة الداخلية بسبب الدخول غير النظامي، وهو ما يجعل عملية البحث معقدة، لا سيما مع وجود عصابات ومراكز احتجاز غير رسمية.
قد تكون مصر أغلقت شواطئها أمام الهجرة غير الشرعية، لكنها لم تحلّ الأزمات الاقتصادية التي تدفع الشباب والأطفال إلى الهجرة، ولم تُغلق أيضًا أبواب التهريب عبر الغرب، الأمر الذي جعل آلاف المصريين تحت رحمة وضع سياسي معقد، وعصابات تهريب وجدت فرصتها في التحول إلى نقطة عبور لأحلام آلاف آخرين، لتبقى الشواطئ المصرية آمنة، بينما المصريون أنفسهم غير آمنين.