مع اقتراب بدء تشغيل أولى وحدات محطة أكويو النووية، لا يبدو أن الطموح التركي في مجال الطاقة يقف عند حدود المفاعلات التقليدية الكبرى، بل يتجه نحو مسار أكثر مرونة وطموحًا، يتمثل في المفاعلات النووية الصغيرة.
ففي موازاة استكمال مشاريعها النووية الضخمة، تضع أنقرة هذه التكنولوجيا المعيارية على طاولة خياراتها الاستراتيجية، باعتبارها أداة لتسريع تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتعزيز أمن التزوّد بالكهرباء، وتقليص الارتهان لواردات الوقود.
كما تفتح هذه الخطوة الباب أمام إعادة تشكيل المشهد الصناعي والطاقة الجيوسياسية لتركيا، عبر تمكين الصناعة المحلية وترسيخ موقع البلاد لاعبًا فاعلًا في معادلة الطاقة الإقليمية والدولية.
لماذا الآن؟
على مدى عقود، واجهت تركيا معضلة هيكلية في قطاع الطاقة، تمثلت في الاعتماد الواسع على الاستيراد لتلبية معظم احتياجاتها. ففي عام 2022، استوردت البلاد جميع احتياجاتها من الغاز الطبيعي تقريبًا، و91% من منتجات النفط، و77% من الفحم، وكانت روسيا المورد الرئيسي في هذه المجالات.
هذا الاعتماد الكثيف جعل أمن الطاقة التركي رهينة مباشرة للتقلبات الجيوسياسية وتقلبات الأسعار العالمية، وهو ما تجلّى بوضوح خلال الحرب في أوكرانيا والارتفاعات الحادة في أسعار الغاز خلال الفترة الأخيرة.
في المقابل، يتنامى الطلب على الطاقة بوتيرة متسارعة مدفوعًا بالنمو الاقتصادي والديمغرافي، في وقت اقتربت فيه بعض الموارد المحلية التقليدية، وفي مقدمتها الطاقة الكهرومائية، من حدودها القصوى. ورغم التوسع السريع في مصادر الطاقة المتجددة، ولا سيما الشمس والرياح، فإن هذه المصادر لا تزال غير قادرة بمفردها على توفير كهرباء أساسية مستقرة على مدار الساعة تلبي احتياجات اقتصاد صناعي واسع.
• أعلن وزير الطاقة التركي أن شركة بايكار لصناعة الطائرات المسيّرة بدأت العمل على تطوير مفاعل نووي معياري صغير، وذلك ضمن خطة تركيا لزيادة الاعتماد على الطاقة النووية.
• كشف الوزير أن النموذج الأولي الذي تعمل عليه الشركة تبلغ قدرته 40 ميغاواط، في حين تسعى الحكومة للوصول إلى… pic.twitter.com/4wfnlCdLFq
— نون بوست (@NoonPost) December 4, 2025
أمام هذه المعطيات، وضعت أنقرة التحول إلى الطاقة النووية في صلب استراتيجيتها لمعالجة معادلة أمن الطاقة والاستدامة. فقد أعلنت خططًا لرفع القدرة النووية المركبة إلى 20 جيجاواط بحلول عام 2050، ضمن رؤيتها للوصول إلى الحياد الكربوني في عام 2053. وفي هذا السياق، يجري تنفيذ مشروع محطة أكويو النووية بالتعاون مع روسيا، إلى جانب طرح خطط لمحطات تقليدية أخرى في سينوب وتراقيا.
غير أن التحول الأبرز الذي يفرض نفسه في هذه المرحلة يتمثل في التوجه نحو المفاعلات النووية الصغيرة، بوصفها تقنية أكثر حداثة ومرونة، قادرة على تجاوز القيود التي ارتبطت تاريخيًا بالمشاريع النووية الضخمة، من خلال مزيج يجمع بين تعزيز الأمان الطاقي، وتحسين الجدوى الاقتصادية، ودعم الاستقلالية التقنية لتركيا في قطاع الطاقة.
تعزيز أمن الطاقة وتقليل الاعتماد على الواردات
تطرح المفاعلات النووية الصغيرة نفسها كأداة عملية لدعم أهداف تركيا في أمن الطاقة وتقليص فاتورة الاستيراد، مستندة إلى مجموعة من الخصائص التي تميزها عن المفاعلات النووية التقليدية.
ففي مقدمة هذه الخصائص انخفاض الكلفة الاستثمارية الأولية، إذ لا تتطلب هذه المفاعلات رؤوس أموال ضخمة كما هو الحال في المحطات النووية الكبرى، ما يتيح تمويلها وتنفيذها على مراحل. ويمنح هذا النموذج أنقرة مرونة في إضافة قدرات إنتاج جديدة تدريجيًا، وفق حاجات الطلب وإمكانات التمويل، دون تحميل الموازنة العامة أعباء ثقيلة دفعة واحدة.
وتبرز المرونة الجغرافية والحجمية بوصفها ميزة إضافية، إذ تسمح الطبيعة المدمجة للمفاعلات المعيارية الصغيرة، وإجراءات السلامة الأبسط المرتبطة بها، بنشرها بالقرب من مراكز الاستهلاك، مثل المناطق الصناعية أو التجمعات الحضرية، من دون الحاجة إلى استثمارات كبيرة في شبكات النقل.
أربع وحدات للطاقة ستؤمن 10% من كهرباء البلاد لتكون أكبر محطة نووية في العالم.. #تركيا تستعد لإطلاق منشأة “آق قويو” النووية، تعرف على تفاصيلها pic.twitter.com/EiDyGvGKCs
— نون بوست (@NoonPost) October 31, 2021
كما تفتح هذه المرونة المجال أمام إيصال الكهرباء إلى مناطق نائية أو معزولة كانت تعتمد سابقًا على وقود مستورد، كوقود الديزل، في توليد الطاقة، فضلًا عن إمكانية مواءمة عدد المفاعلات وقدراتها مع الاحتياجات الفعلية لكل منطقة. كذلك، تتمتع المفاعلات النووية الصغيرة بسرعة أعلى في البناء والتشغيل، بفضل تصميمها المعياري وإمكانية تصنيع وحداتها في المصانع قبل تركيبها ميدانيًا.
وتكمن أهمية هذه الميزة في تسريع دخول قدرات إنتاج جديدة إلى الشبكة الكهربائية، بما يعزز أمن التزوّد، ويحد من الحاجة الطارئة لاستيراد الطاقة خلال فترات الذروة أو في أوقات الأزمات.
أما على مستوى التشغيل، فتوفّر هذه المفاعلات كهرباء أساسية مستقرة ومنخفضة الكربون على مدار الساعة، ما يقلل اعتماد منظومة التوليد على الغاز المستورد، الذي تتأثر إمداداته وأسعاره بعوامل خارجية. وكلما ارتفعت حصة الطاقة النووية المحلية في مزيج الكهرباء التركي، تراجع تلقائيًا استهلاك الوقود الأحفوري المستورد.
ويُذكر في هذا السياق أن محطة أكويو وحدها يُتوقع أن تؤمن نحو 10% من احتياجات تركيا من الكهرباء عند اكتمالها، ما يعني أن إضافة سلسلة من المفاعلات النووية الصغيرة مستقبلًا، بقدرة قد تصل إلى 5 جيجاواط، كفيل برفع هذه النسبة بشكل ملموس.
وتوازي هذه الرهانات التقنية خطوات رسمية لتهيئة الإطار القانوني والمؤسسي اللازم، إذ أعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية ألب أرسلان بيرقدار عن العمل على إعداد مشروع قانون يُعرض على البرلمان لتنظيم ودعم نشر المفاعلات النووية المعيارية الصغيرة، بما يشمل حوافز حكومية مماثلة لتلك المعتمدة في مشاريع الطاقة الشمسية والرياح.
ويهدف هذا التشريع المرتقب إلى جذب استثمارات القطاع الخاص وبناء شراكات دولية في مجال المفاعلات النووية الصغيرة، عبر تسهيلات تمويلية وهيكل تنظيمي أكثر مرونة مقارنة بنموذج المشاريع النووية الحكومية الضخمة، مثل محطة أكويو.
وفي هذا الإطار، قال بيرقدار إن بلاده تعمل على “صياغة نموذج حوافز لتشجيع ريادة القطاع الخاص في نشر المفاعلات النووية الصغيرة، على غرار ما تحقق في توسيع طاقتي الرياح والطاقة الشمسية”، في إشارة واضحة إلى حجم الرهان الرسمي على هذه التقنية لتأمين الطاقة محليًا بالاعتماد على قوى السوق الوطنية.
مكاسب اقتصادية
لا يقتصر أثر المفاعلات النووية الصغيرة على سد فجوة الكهرباء أو تعزيز أمن التزوّد بالطاقة، بل يتجاوز ذلك ليطال بنية الاقتصاد والصناعة في تركيا على نحو أعمق، إذ تراهن أنقرة على هذه التقنية بوصفها مدخلًا لتوطين التكنولوجيا النووية وبناء قاعدة صناعية وطنية جديدة، وهو ما عبّر عنه الرئيس رجب طيب أردوغان حين أعلن، في مارس الماضي، التوجه نحو إنشاء “تكنوبارك نووي” وتطوير مفاعلات نووية معيارية محلية بهدف إحداث نقلة نوعية في قطاع الطاقة النووية.
ويعني هذا التوجه أن جزءًا معتبرًا من منظومة المفاعلات الصغيرة، من المكونات الهندسية إلى التصميم والبرمجيات، سيُطوَّر داخل تركيا بأيدٍ محلية، بما يعزز السيادة التقنية ويفتح الباب أمام نشوء قطاع صناعي عالي القيمة المضافة.
وعلى المستوى التطبيقي، بدأ هذا التوجه يستقطب فاعلين صناعيين أتراكًا بارزين. فقد دخلت شركة بايكار للصناعات الدفاعية، المعروفة بريادتها في مجال الطائرات المسيّرة، على خط تطوير مفاعل نووي صغير بقدرة 40 ميجاواط، وهو ما يكفي لتأمين الكهرباء لأكثر من 100 ألف منزل.
ووفق تصريحات وزير الطاقة والموارد الطبيعية ألب أرسلان بيرقدار، تمثل هذه المبادرة نواة تكنولوجية لخطة تركيا الهادفة إلى امتلاك قدرة إجمالية تصل إلى 5 جيجاواط من المفاعلات النووية الصغيرة، بما يعني عمليًا إطلاق سلسلة توريد محلية جديدة تمتد من الصناعات الهندسية والكهربائية إلى التعدين وتصنيع الوقود النووي.
– أكد وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، ألب أرسلان بيرقدار، أن العمل يسير بشكل مكثف في الموقع، حيث تم الانتهاء من أجزاء كبيرة من البنية التحتية للمفاعل الأول في ولاية مرسين، مع استمرار العمل بالتوازي في المفاعلات الثلاثة الأخرى.
– يمثل المشروع دخول تركيا عصر الطاقة النووية،… pic.twitter.com/ddueGHzyvW
— نون بوست (@NoonPost) December 20, 2025
ويؤكد مسؤولون أتراك أن توطين نسبة مهمة من مكونات وتقنيات هذه المفاعلات سيخلق فرص عمل نوعية، ويدعم النمو الصناعي، ويمكّن تركيا من دخول أسواق تصديرية جديدة في مجال تقنيات ومكونات المفاعلات النووية الصغيرة.
إلى جانب ذلك، تفتح المفاعلات النووية المعيارية الصغيرة آفاقًا مباشرة لدعم الصناعات الوطنية القائمة، عبر تزويدها بالكهرباء والحرارة النظيفة بشكل مستقر، فالقطاعات الثقيلة، مثل صناعة الفولاذ والإسمنت والبتروكيماويات، تعتمد على مصادر طاقة كثيفة وموثوقة لتشغيل منشآتها، وهو ما توفره المفاعلات النووية الصغيرة من خلال إمدادات ثابتة من الكهرباء والحرارة منخفضة الكربون داخل مواقع الإنتاج نفسها. ويحقق هذا النموذج عائدًا مزدوجًا، إذ يساهم في خفض كلفة الطاقة على الصناعات وتعزيز قدرتها التنافسية، وفي الوقت ذاته يساعدها على تقليص انبعاثاتها الكربونية والامتثال للمعايير البيئية الدولية.
ومع اقتراب دخول آلية تعديل حدود الكربون حيز التنفيذ في الاتحاد الأوروبي، أحد أبرز أسواق الصادرات التركية، تصبح القدرة على الإنتاج بطاقة نظيفة عاملًا حاسمًا في الحفاظ على الحضور التركي في السوق الأوروبية.
وبذلك، لا تسهم المفاعلات النووية الصغيرة في تقليل فاتورة الواردات الطاقية فحسب، بل تدعم أيضًا استقلال تركيا الصناعي وتعزز قدرتها التصديرية في عالم يتجه بسرعة نحو اقتصاد منخفض الكربون.
انعكاسات جيوسياسية واستراتيجية
يحمل توجه تركيا نحو تبنّي المفاعلات النووية الصغيرة أبعادًا تتجاوز الحسابات التقنية والاقتصادية، ليطال موقعها الجيوسياسي في معادلة الطاقة الإقليمية والدولية.
فمن الناحية الاستراتيجية، فإن أي تقليص للاعتماد على واردات الطاقة، يمنح صانعي القرار في أنقرة هامش مناورة أوسع في السياسة الخارجية.
وعلى مدى سنوات، اضطرت تركيا إلى إدارة علاقاتها بحذر مع موردي النفط والغاز التقليديين لضمان استمرارية الإمدادات، غير أن تنويع مزيج الطاقة عبر التوسع في النووي، سواء التقليدي أو المعياري الصغير، يخفف هذا القيد تدريجيًا. فكل زيادة في القدرة النووية المحلية تعني تراجع الحاجة إلى الغاز المستورد، وبالتالي انحسار نفوذ مورديه على القرار التركي.
وفي السياق نفسه، يفتح تطوير المفاعلات النووية الصغيرة الباب أمام إعادة صياغة شبكة الشراكات الدولية لتركيا في المجال النووي. فبعد اعتماد شبه حصري على روسيا في مشروع أكويو، بدأت أنقرة بالانفتاح على شركاء جدد من الغرب وآسيا، عبر توقيع اتفاقيات تعاون مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لتطوير تقنيات المفاعلات النووية الصغيرة ونقل المعرفة، إلى جانب إجراء محادثات أولية مع كندا.
ومن منظور استراتيجي أوسع، يبدو أن الاختيار بين المفاعلات النووية التقليدية الكبرى والمفاعلات المعيارية الصغيرة سيترك أثرًا حاسمًا على شكل الدور التركي في القرن الحادي والعشرين. فالمسار التقليدي، الذي تتبناه بعض العروض الروسية والصينية لمحطات كبرى في سينوب وتراقيا، يضمن تلبية جزء مهم من الطلب المحلي على الكهرباء، لكنه يُبقي البلاد رهينة للتمويل والتكنولوجيا الخارجية.
في المقابل، يطرح النهج القائم على المفاعلات الصغيرة، والمدعوم من الولايات المتحدة وحلفائها، نموذجًا أكثر مرونة وتكاملًا، يقوم على توطين الصناعة النووية ودمجها في النسيج الاقتصادي الوطني. ولا يقتصر هذا الخيار على إضافة قدرات توليد جديدة، بل يؤسس لتحول نوعي في البنية الصناعية والتقنية، بما يعزز تنافسية الاقتصاد التركي، ويدعم تحقيق الأهداف المناخية، ويكرّس الاستقلالية الاستراتيجية لأنقرة على المدى الطويل.
في الخلاصة، تراهن تركيا اليوم على المفاعلات النووية الصغيرة لإعادة رسم مسارها الطاقي وتقليص اعتمادها التاريخي على الخارج. وإذا ما كُتب لهذا الرهان النجاح، فقد تنتقل البلاد من موقع المستورد الصافي للطاقة إلى فاعل يمتلك قدرًا متزايدًا من الاكتفاء الذاتي، بل ويسهم في توفير طاقة نظيفة على المستويين المحلي والإقليمي.
