لن يقتصر انتشار قوات جنوب السودان، بناءً على اتفاق بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، في حقل هجليج لحماية البنية التحتية وضمان استمرار تدفق النفط، على الجدل الذي أثاره فقط، بل يمتد إلى ما يمكن اعتباره سابقة قد تتخذها دول الجوار للتدخل المباشر في أوضاع السودان.
وانتشرت القوات في الحقل الواقع على الحدود بين الخرطوم وجوبا، بعد سيطرة مليشيا الدعم السريع على المنطقة في 8 ديسمبر/كانون الأول الحالي، إثر انسحاب الجيش بكامل عتاده العسكري إلى جنوب السودان.
وتعتمد جوبا على محطة مركزية في هجليج تعالج 130 ألف برميل من النفط الذي يُنتج داخل أراضيها ويُصدَّر عبر خطوط أنابيب يملكها السودان إلى ميناء بورتسودان شرقي البلاد، مقابل رسوم مالية، فيما تضم هجليج نحو 75 بئرًا نفطية.
– يُعد حقل هجليج أكبر حقول النفط في السودان ويقع على الحدود مع جنوب السودان، كما أنه منشأة رئيسة لضخ نفط الجنوب عبر الأنابيب إلى ميناء بورتسودان للتصدير؛ مما يجعل سيطرة الدعم السريع ضربة قوية لقطاع الطاقة السوداني.
– أكد مصدر في الجيش السوداني للجزيرة أن الانسحاب من حقل هجليج… pic.twitter.com/UcKMorEGky
— نون بوست (@NoonPost) December 9, 2025
اتفاق انتشار جيش جنوب السودان في هجليج ينص على تحييد الحقل من العمليات القتالية، وحماية البنية التحتية النفطية من التدمير، وضمان استمرار تدفق البترول دون انقطاع، من دون تحديد سقف زمني لوجود قوات أجنبية داخل السودان.
وتواجد قوات جنوب السودان في حقل هجليج، مع غضّ الطرف عن مطامعها في المنطقة التي احتلتها لبضعة أيام في 2012، يُعدّ نقطة فاصلة في تاريخ النزاع القائم في السودان، حيث أصبح أول تدخل خارجي علني ينقل موارد الدولة من يد الحكومة المركزية إلى ميزان القوة في الميدان.
إن بداية تراجع سيادة السودان على أراضيه عبر اتفاق لحماية منشآت النفط ستكون بداية لتنازلات لدول الجوار التي لديها مصالح مباشرة، مثل مصر وإثيوبيا وربما تشاد وأفريقيا الوسطى أيضًا، تحت ذرائع تتراوح بين حماية المصالح الاقتصادية، وتأمين الحدود، والحفاظ على الأمن القومي.
من السر إلى العلن
رغم أن الجيش والدعم السريع لم يعلنا تفاصيل السماح لقوات جنوب السودان بتأمين حقل هجليج، إلا أن هذه الموافقة تعني قدرتهما على تأمين مصالحهما الاقتصادية، رغم استمرار القتال في جبهات عديدة، بما في ذلك غرب شمال دارفور وجنوب كردفان.
ولا تُعدّ الموافقة تقاربًا سياسيًا أو محاولة لإعادة بناء الثقة، حيث لا تزال الحكومة تتمسك بانسحاب جميع مقاتلي المليشيا من المدن ونزع سلاحها تحت رقابة دولية، مع إعادة تجميعهم في معسكرات متفق عليها تمهيدًا لعملية الدمج وإعادة الدمج، مع مساءلة العناصر التي ارتكبت جرائم، لذلك يُعدّ الاتفاق بمثابة محافظة على مصادر التمويل.
وعابت الأمم المتحدة على الجيش والدعم السريع وقف القتال للحفاظ على العائدات، وعدم فعل ذات الشيء لحماية السكان، كما أبدت خشيتها من استقرار الحدود بين الخرطوم وجوبا في ظل تحركات الجماعات، محذّرة من أن التطورات تعكس الطبيعة المتزايدة التعقيد للنزاع واتساع أبعاده الإقليمية، التي قد تدفع “جيران السودان للانخراط في صراع داخل وحول السودان حال عدم معالجتها”.
ربما يوحي صمت الجميع عن خطوة انتشار جيش جنوب السودان في حقل هجليج بأنه أخفّ الأضرار، حيث إن سيطرة الدعم السريع على آبار تنتج 20 ألف برميل يوميًا تعزّز قوته، لكن هذا الأمر يعني أن جميع موارد السودان، من البترول إلى المياه مرورًا بالحدود، تصبح أوراق تفاوض، تنقل التدخل الخارجي إلى العلن بعد أن كان سرًا أو يُقابَل بالنفي.
وظلّت الإمارات تنفي تقديم الدعم، بما في ذلك إمدادات من الأسلحة والعتاد المتطور الذي يصل عبر مطار نيالا ومهابط ترابية في دارفور وعبر تشاد وشرق ليبيا، رغم عشرات التقارير الاستقصائية المدعّمة بالأدلة.
صور ومقاطع ميدانية تكشف امتلاك مليشيات الدعم السريع أسلحة أوروبية وصلت إليها عبر شبكة تهريب واسعة تقودها الإمارات، رغم الحظر الدولي على تسليح السودان. pic.twitter.com/BLoQAPBOjY
— نون بوست (@NoonPost) December 5, 2025
وبدأت أول بوادر التدخل العلني في السودان بسماح إثيوبيا بتدريب مقاتلي المليشيا والحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، المتحالفة معها ضمن ائتلاف “تأسيس” الذي يضم جماعات مسلحة وسياسية وأهلية، داخل أراضيها مع خط إمداد مفتوح.
التهديد بالقوة
تتواجد الحركة الشعبية في شريط ضيق في إقليم النيل الأزرق على الحدود مع جنوب السودان وإثيوبيا، حيث تمركزت فيه المليشيا بعد الهزائم العسكرية التي مُنيت بها في الإقليم، قبل أن تستغله موقعًا لإعادة تجميع قواتها.
ونقلت الجزيرة نت عن مصادر سودانية قولها إن إثيوبيا فتحت معسكرًا لتدريب قوات الدعم السريع ومرتزقة أجانب من جنوب السودان وكولومبيا، لمهاجمة إقليم النيل الأزرق، حيث تنسق حكومة أديس أبابا مع المليشيا عبر قوى إقليمية تساندها، بما يشمل الاتفاق على خطوط إمداد وبناء معسكرات تدريب وتجهيز مهابط طائرات.
وأفادت المصادر بوجود تنسيق استخباراتي بين الجيش الإثيوبي والدعم السريع والحركة الشعبية المنتشرة على الحدود بين السودان وجنوب السودان بقيادة جوزيف توكا، فيما تُنقَل الأسلحة والمعدات القتالية والإمدادات اللوجستية إلى المليشيا والحركة عبر إقليم بني شنقول الذي يُقام عليه سد النهضة.
أول دليل مرئي على نشاط عسكري في الحدود الإثيوبية مع السودان:
“يبدو أن إثيوبيا تقترب من إتمام بناء حظيرتي طائرات جديدتين في مطار “أصوصا” عاصمة إقليم “بني شنقول-قمز” بالقرب من الحدود السودانية. ويُرجح أنهما مخصصتان لاستيعاب الطائرات المسيرة المقاتلة (UCAVs). كما تجري حاليًا أعمال… https://t.co/f758buLAFz
— Mohamed Mustafa – محمد مصطفى جامع (@Moh_Gamea) December 24, 2025
وتؤكد هذه التطورات أن إثيوبيا تُعدّ الدعم السريع لفتح جبهة قتال جديدة في إقليم النيل الأزرق لحماية مصالحها في سد النهضة الواقع قرب الحدود السودانية، وممارسة ضغط على الخرطوم والقاهرة، حيث يشكّل هذا التحرك المحتمل تهديدًا لسلامة سد الروصيرص، مما يلحق أضرارًا بمصر باعتبار أن النيل الأزرق يمثل الرافد الرئيسي لنهر النيل.
وتنظر مصر إلى أن أي تمدد إثيوبي تحت غطاء الدعم السريع في النيل الأزرق يُعدّ تهديدًا مباشرًا لأمنها المائي، مما يفسر تصاعد نبرة التحذير في الخطاب الرسمي المصري، والاستعداد المعلن للتدخل إذا اقتضت الضرورة.
وأعلنت مصر، في بيان صدر بالتزامن مع زيارة رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في 18 ديسمبر/كانون الأول الجاري، عن حقها في اتخاذ كافة التدابير التي يكفلها القانون الدولي واتفاقية الدفاع المشترك بين الخرطوم والقاهرة، لضمان عدم المساس بهذه الخطوط الحمراء أو تجاوزها.
وشملت الخطوط الحمراء، التي أوضحت أن تجاوزها يمس الأمن القومي المصري، الحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه وعدم انفصال أي جزء منه، إضافة إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة.
وجرى توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السودان ومصر في عام 1976، بهدف تنسيق الجهود الدفاعية وحماية أمن البلدين، فيما جرى تحديثها عبر بروتوكولات أمنية وعسكرية وُقّعت في عام 2021، شملت التدريب المشترك وتأمين الحدود وتبادل الخبرات، وفقًا لموقع مدى مصر.
مستقبل التدخل
إن دخول قوات جنوب السودان بذريعة حماية البنية التحتية، دون اتفاق معلن أو ترتيبات سياسية تنتهي بأجل محدد، لاستمرار تدفق النفط الذي يعتمد عليه اقتصادها بصورة شبه كلية، يبيّن أن أبعاد الصراع في السودان لم تعد شأنًا محليًا يُجبر الدول على عدم التدخل العلني.
وبالمثل، لم تقف إثيوبيا عند حماية مكاسبها في سد النهضة، بل تمتد إلى السيطرة شبه الكاملة على النيل الأزرق عبر حلفائها الجدد الذين يستعدون لشن هجوم جديد، وهو أمر سيدفع مصر إلى زيادة الدعم الذي تقدمه للجيش قبل التدخل المباشر.
لغة البيان المصري تلمح إلى إمكانية التدخل العسكري استناداً إلى “اتفاقية الدفاع المشترك” الموقعة عام 1976 والمحدثة في 2021، بالإضافة إلى حق الدفاع عن النفس في ميثاق الأمم المتحدة.#مصر #السودان https://t.co/x1lHze0qFV
— E Ibrahim (@FidzonTwit) December 23, 2025
وسابقًا، اتهم قائد المليشيا محمد حمدان “حميدتي” مصر بقصف قواته في منطقة جبل موية، بعد أن اتخذها قاعدة عسكرية استعدادًا لشن هجوم على مدينة سنار التي تضم خزانًا مائيًا يحمل ذات الاسم، وسرعان ما تمكن من استعادة المنطقة، التي شكّلت انهيارًا متسارعًا لتواجد الدعم السريع في النيل الأزرق والجزيرة والخرطوم.
يُرجَّح أن استمرار مصر في دعم الجيش سياسيًا، وإمداده بالمعلومات الاستخباراتية والذخيرة والأسلحة، مع شن غارات جوية محدودة، تمهيدًا لتدخل عسكري علني، حال استمرت إثيوبيا في إيواء مقاتلي المليشيا وجعل أراضيها قاعدة لهجوم على إقليم النيل الأزرق.
أصبح السودان بالفعل موقعًا لتقاسم النفوذ بين الجماعات المسلحة، بما في ذلك السيطرة على المدن والموارد الاقتصادية، بحيث بات الوضع مهيأً لشرعنة التدخل الإقليمي في ظل تآكل سيادة الدولة على الحدود والنفط وبعض مناجم الذهب التي تغذي النزاع بمزيد من الأموال.
ولا يبدو أن أطراف السودان، سواء السياسية أو المسلحة، على استعداد لتنحية خلافاتهم جانبًا – ولو مؤقتًا – للحفاظ على البلاد، حيث إن استمرار الحرب يعني أن هذا القطر سيصبح ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية لضمان مصالحها، مع غضّ الطرف عن تكلفة النزاع إنسانيًا.
والآن، بعد أن أصبح التدخل العلني أمرًا واقعًا، ومع عدم وجود مؤشرات لوقف القتال قريبًا، تعيد دول الجوار رسم خريطة النفوذ وفق مصالحها، دون أن يُستبعد أن يشمل هذا الرسم الحدود أيضًا.
