في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، وصل عشرات الفلسطينيين من غزة إلى جنوب أفريقيا في رحلة غامضة وغير معتادة نظمتها جهة غير نظامية ومشبوهة قيل إنها استخدمت أساليب الخداع والاستغلال المالي، ما أثار شبهات بعملية تهجير “ناعم” تنظمها وتمولها “إسرائيل”.
لم تكن الرحلة من غزة إلى جوهانسبرغ مشهدًا عاديًا في سياق النزوح القسري الذي تعرّض له سكان غزة على مدار أكثر من عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية، بل صارت نموذجًا مكثفًا لمخطط إسرائيلي يهدف إلى تفريغ القطاع من سكانه، ويُدار بدقة عبر شبكات مشبوهة ومنظمات بواجهة إنسانية، وتمويل يُدفع من جيوب الضحايا أنفسهم.
من غزة إلى جوهانسبرغ.. الرحلة التي كشفت المستور
لم تبدأ رحلات خروج الغزيين بإعلان رسمي أو بيان حكومي أو حتى تغطية إعلامية مسبقة، بل عبر رسالة على تطبيق “واتساب” مرفقة برابط تسجيل، ووعود مقتضبة بالخروج الآمن، وحديث عن علاج، أو أمان للأطفال، أو فرصة مؤقتة للنجاة من جحيم الحرب، لم يكن كثيرون ممن سجلوا على دراية بالجهة المنظمة، أو الوجهة النهائية، أو الوضع القانوني بعد الوصول.
العنصر الأبرز في هذه العملية كان الغموض المنهجي، فقبل ساعات قليلة فقط من المغادرة، تلقَّى المسافرون إشعارًا عاجلًا بالاستعداد. لم يكن مسموحًا لهم بحزم الحقائب، ولا اصطحاب أمتعة شخصية، ولا حتى إبلاغ الأقارب.
تجمّع المسافرون في نقاط محددة جنوب قطاع غزة، قرب مقار الصليب الأحمر في خان يونس ورفح، ورغم نفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر أي دور لها، فإن اختيار هذه المواقع لم يكن بريئًا، فهي نقاط محايدة ظاهريًا، وتوفر غطاءً إنسانيًا يوحي بالأمان، ومن تلك النقاط، نُقلوا بحافلات ذات ستائر مغلقة، في مشهد وصفه شهود بأنه أقرب إلى “الترحيل الصامت”.
عبرت الحافلات معبر كرم أبو سالم، حيث خضع الركاب لإجراءات تفتيش إسرائيلية قاسية، صودرت خلالها معظم أمتعتهم، ولم يُسمح لهم إلا بالاحتفاظ بجوازات السفر وهواتفهم المحمولة. في تلك اللحظة، كان كثيرون يعتقدون أنهم يغادرون مؤقتًا، وأن العودة ستبقى ممكنة، لكن ما جرى لاحقًا كشف أن الأمر أبعد من ذلك بكثير.
من هناك، انطلقت الحافلات تحت حراسة عسكرية عبر صحراء النقب باتجاه مطار رامون، حيث وُضعوا هناك في قاعات منفصلة عن باقي المسافرين، وصعدوا إلى طائرة مستأجرة غير معلّمة، في مشهد يعيد إلى الأذهان مسارات التهجير الأولى، لكن بأدوات أكثر حداثة وأقل صخبًا.
أحد أكثر التفاصيل خطورة في هذه المرحلة كان غياب أختام الخروج، لم تُختم جوازات السفر الفلسطينية بختم مغادرة “إسرائيل”، وهو إجراء لم يكن إداريًا عشوائيًا، بل خطوة محسوبة تهدف إلى محو الدليل القانوني على مسار الرحلة. لاحقًا، سيُستخدم هذا الغياب لتبرير القول إن هؤلاء لم يغادروا عبر “إسرائيل” أصلًا.
أمَّا الوجهة، فظلت مجهولة حتى اللحظات الأخيرة، فبعض الركاب أُبلغوا بأنهم متجهون للعلاج، وظن آخرون أن الرحلة إلى دولة أوروبية، قبل أن تقلع الطائرة أولًا نحو العاصمة الكينية نيروبي. هناك، لم يكن التوقف تقنيًا فقط، بل جزءًا مما يشبه “غسيل المسار”، إذ يُفصل الراكب جغرافيًا وقانونيًا عن نقطة انطلاقه الأولى.
من نيروبي، استقل الفلسطينيون رحلة ثانية إلى جوهانسبرغ، عاصمة جنوب أفريقيا، وعند الهبوط، بدأت الأسئلة أكثر من الإجابات: كيف يصل أكثر من 150 فلسطينيًا إلى جنوب أفريقيا دون أختام خروج، ودون تذاكر عودة، ودون تنسيق مسبق مع السلطات؟ ومن الجهة التي نظّمت الرحلة؟ ولماذا لم تُنسّق مع السلطات المحلية؟
لحين الوصول إلى إجابة، أوقفت السلطات في جنوب أفريقيا الركاب داخل الطائرة نحو 12 ساعة، وهو ما استغلته وسائل إعلام إسرائيلية لتسارع إلى اتهام جنوب أفريقيا بممارسة “النفاق وازدواجية المعايير”، ففي الوقت الذي تقود فيه حملة دولية لمحاكمة “إسرائيل” بتهمة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل، ترفض استقبال فلسطينيين.

السلطات في جنوب أفريقيا سوغت تأخير دخول الفلسطينيين لأراضيها بالتحقق من إجراءات رسمية، قبل أن تسمح لاحقًا بدخول 130 منهم، فيما توجه 23 شخصًا إلى وجهات أخرى كانت لديهم تأشيرات إليها، معلنةً فتح تحقيق رسمي في ملابسات الرحلة، وأكدت أن جهة غير مسجلة نظّمت الرحلة بطريقة غير مسؤولة ومخالفة للقواعد.
ما بدا في البداية أزمة إدارية، سرعان ما تبيّّن أنه رأس جبل جليد، فرحلة جوهانسبرغ لم تكن الأولى التي تقل فلسطينيين من “إسرائيل”، ففي 27 مايو/ أيار الماضي، غادر 57 فلسطينيًا غزة، في رحلة بدأت من معبر كرم أبو سالم، وانطلقت القافلة إلى مطار رامون، ومن هناك استقلوا طائرة مستأجرة إلى بودابست، ثم واصلوا رحلتهم إلى إندونيسيا وماليزيا.
أما ثاني الرحلات التي سلكت نفس مسار الرحلة الأخيرة، فكانت بعدها بـ5 أشهر، وتحديدًا في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وغادر فيها أكثر من 170 فلسطينيًا إلى جنوب أفريقيا، من دون أن تعلن السلطات عن تلك الرحلة، وفقًا لمؤسس منظمة “وقف الواقفين”، إحدى أبرز منظمات الإغاثة في جنوب أفريقيا، الدكتور امتياز سليمان، الذي عمل على تمكين الركاب من النزول في جنوب أفريقيا، وتكفل بإيوائهم ورعايتهم مؤقتًا.
“المجد أوروبا”… واجهة إنسانية لكيان وهمي
في قلب شهادات مئات الفلسطينيين الذين خرجوا عبر رحلات غامضة من غزة إلى جنوب أفريقيا وإندونيسيا وماليزيا ودول أخرى، تكرّر اسم واحد: “المجد أوروبا“، وهي جهة تقدَّم نفسها على موقعها الإلكتروني بوصفها منظمة إنسانية أوروبية، تأسست في ألمانيا عام 2010، وتعمل على إغاثة المجتمعات المسلمة في مناطق النزاع.
غير أن التدقيق في هذا الاسم – المستوحى من الجهاز الأمني الداخلي للمقاومة الفلسطينية المكلّف بملاحقة العملاء – والتعريف بنشاطها الذي يبدو مصممًا بعناية لاستدعاء الثقة، قابله غياب شبه كامل في الواقع القانوني والمؤسسي، وكشف سلسلة من التناقضات التي لا يمكن فصلها عن فرضية التهجير المنظّم.
وأظهرت تحقيقات رقمية عدم وجود أي سجل قانوني للمنظمة في القدس أو ألمانيا أو في أي دولة أوروبية أخرى، كما تبيّن أن العنوان المعلن في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة لا يشير إلى مقر منظمة، بل إلى مقهى ومستشفى، حتى الصور المنشورة على الموقع، والتي زُعم أنها توثق أنشطة طبية وإغاثية في غزة، تبيّن أنها إما مسروقة من مؤسسات إغاثية أخرى أو مولّدة بالذكاء الاصطناعي، في محاولة لبناء واجهة إنسانية مصطنعة دون وجود فعلي على الأرض.
أما الموقع الإلكتروني نفسه، فقد تبيّن أنه لم يُنشأ إلا قبل أشهر قليلة فقط من تنظيم الرحلات المثيرة للجدل، وتحديدًا في فبراير/ شباط 2025، تزامنًا مع إعلان حكومة الاحتلال إنشاء إدارة رسمية لـ”الهجرة الطوعية” لتسهيل مغادرة سكان قطاع غزة، غير أن القليل فقط معروف عن طريقة عمل هذه الإدارة التي أسندت رئاستها إلى الضابط السابق ونائب مدير وزارة الدفاع الإسرائيلية، رئيسًا لهذه الإدارة يعقوب بليتشتاين (المعروف باسم كوبي).
الأخطر من ذلك كان ما سُمّي بـ”فريق العمل” المزعوم الذي يتكون من أسماء مثل “عدنان” و”مؤيد” كمسؤولين عن مشاريع في القدس وغزة، لكن تحقيق رقمي نشره موقع “الجزيرة” كشف أن شخصية “عدنان” لا تملك أي بصمة رقمية حقيقية، وأن صوره تحمل خصائص صور مولّدة بالذكاء الاصطناعي.
شخصيات أخرى كانت بلا أي وجود رقمي حقيقي، باستثناء شخص واحد فقط يدعى مؤيد هشام صيدم، وهو فلسطيني من غزة، ظهر في صور أمام طائرات، وفي مدن مثل جاكرتا في إندونيسيا، في توقيتات تطابقت مع رحلات خروج فلسطينيين من غزة، ولم يكن اختباره تفصيلًا عابرًا، بل عنصرًا أساسيًا في بناء الثقة مع الضحايا، وتخفيف الشكوك حول طبيعة الجهة المنظمة.
الرجل الحقيقي خلف الواجهات الوهمية
بين الوجوه الرقمية المزيّفة، ظهر اسم واحد حقيقي يتكرر في أكثر من مسار، ويُدعى توم ليند، وهو رجل أعمال يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والإستونية، ويظهر كحلقة وصل بين الشركات الوهمية والمنظمات الرقمية والمؤسسة الإسرائيلية الرسمية، ما يجعله شخصية محورية في تنظيم عمليات خروج الفلسطينيين من غزة تحت عنوان “الهجرة الطوعية”.
لم يكن اسم ليند حاضرًا في الخطاب العلني للرحلات، ولا في الرسائل الموجهة للغزيين، لكنه ظهر في تحقيقات صحفية ربطته بشركات مسجلة في إستونيا وبريطانيا، تعمل بواجهات رقمية فقط، دون نشاط مادي واضح، لكنها تُستخدم كأدوات تنفيذية لعمليات حساسة.
إحدى هذه الشركات تُدعى “تالنت غلوبز”، وظهر شعارها في نسخة محذوفة من موقع “المجد أوروبا” قبل أشهر من رحلة جوهانسبرغ. ورغم أن الشركة تُعرّف نفسها على أنها منصة لتوظيف المواهب عالميًا إلا أنها ظهرت في سياقات مرتبطة بنقل أشخاص، وتنسيق إقامات، وترتيب مسارات قانونية بديلة، واعترف ليند نفسه في منشورات على حسابه في “لينكد إن” بمشاركته في مساعدة الغزيين على “حياة أفضل خارج مناطق الحرب”، في إشارة مبطنة لعملية التهجير.
غير أن “الحياة الأفضل” هنا تكتسب معنى مختلفًا حين تُقرأ في سياق تصريحات حكومة الاحتلال، وخططها المعلنة لإفراغ غزة من سكانها، فبحسب تحقيق نشرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، فإن “مديرية الهجرة الطوعية” الإسرائيلية كلّفت جهات غير رسمية، من بينها شركات ومنظمات مرتبطة بليند، تنفيذ المهام الأكثر حساسية المتعلقة بخروج الغزيين، والتي جعلت منه ليس فقط مجرد رجل أعمال مغامر، بل حلقة أساسية في خصخصة التهجير.
الدور المحوري في هذا السياق لعبته وحدة “منسق أعمال الحكومة في المناطق” (كوغات)، وهي الجهة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن الشؤون المدنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تتحكم فعليًا في معابر غزة، ولا يمكن لأي رحلة أن تمر دون موافقتها. وهذا يعني أن كل حافلة خرجت من غزة، وكل طائرة أقلعت من مطار رامون، جرت بعلم وموافقة إسرائيلية مباشرة.
في هذه المرحلة، يتكامل الدور بين “الرجل الحقيقي” توم ليند، والوجه الفلسطيني مؤيد صيدم، والبيروقراطي العسكري يعقوب بليتشتاين. كل واحد منهم يؤدي وظيفة محددة. ليند يؤمّن الغطاء الأوروبي والشركات الوهمية، صيدم يتولى تليين الضحايا بلغتهم ولهجتهم وأوجاعهم، وبليتشتاين يفتح البوابة الثقيلة باسم الدولة، ويمنح العملية ختم الشرعية السيادية.
الأخطر في هذه البنية أنها صُممت لتكون “قابلة للإنكار”. فإذا سُئلت “إسرائيل”، ستقول إن الفلسطينيين غادروا طوعًا، وإذا سُئلت الشركات، ستدّعي أنها تقدم خدمات هجرة، وإذا وُوجهت “المجد أوروبا”، ستختفي خلف مواقع محذوفة وأسماء وهمية، وفي كل الأحوال، يبقى الفلسطيني هو الطرف الوحيد الذي لا يملك رواية مضادة موثقة.
بهذا المعنى، لم تعد الرحلات مبادرات فردية أو أعمال إغاثية، بل جزءًا من سياسة حكومية جرى خصخصتها وإسناد تنفيذها لشركات ومنظمات وهمية، للسماح لـ”إسرائيل” بتحقيق هدفها الاستراتيجي في فرض التهجير، دون التورط المباشر في عمليات قد تُصنّف قانونيًا كترحيل قسري، ثم استخدام ذلك لاحقًا في المحافل الدولية بوصفه دليلًا على “الاختيار”.
التهجير كخدمة يدفع ثمنها الضحايا
في كل شهادة أدلى بها الفلسطينيون، يظهر عنصر مشترك لا يقل خطورة عن المسار السياسي والأمني للرحلات، وهو البعد المالي، فالهروب من أتون حرب الإبادة الإسرائيلية لم يكن مجانيًا، بل خدمة مدفوعة الأجر تُعرض على الفلسطينيين في أقصى درجات ضعفهم، وتُسعَّر وفق معايير السوق لا وفق معايير الحماية، ليضطر بعضهم إلى بيع ما يملك من ذهب أو أرض أو منزل مدمر أصلًا، أو حتى الاستدانة من أقارب في الشتات.
One of the women on the plane carrying a group of families from Gaza said they left two days ago, fleeing death and destruction… and now they are stranded at South Africa’s airport, with nowhere to go and no one hearing their cries. 💔 https://t.co/uiHcHTuIMU pic.twitter.com/0OBryfSe4w
— Mohammed jawad 🇵🇸 (@Mo7ammed_jawad6) November 13, 2025
لم تكتفِ “المجد أوروبا” بتقديم نفسها كوسيط إنساني، بل تولّت جمع مبالغ تراوحت بين 1500 و5000 دولار للفرد، جُمعت عبر سماسرة حوالة محليين في قطاع يعيش مجاعة ممنهجة، أو عبر تحويلات مالية غير تقليدية، من بينها العملات المشفرة، ما جعل تتبع المسار المالي شبه مستحيل، وفتح الباب أمام شبهات الاتجار بالبشر.
هكذا، تحوّل التهجير من جريمة سياسية إلى سوق مكتملة الأركان من يملك فيها المال يخرج، ومن لا يملكه يبقى تحت القصف، لكن الأخطر من الربح المالي هو منطق الانتقاء الذي فرضته هذه السوق، والذي لم يكن عشوائيًا، حيث استهدف العائلات الشابة والمتعلمة والقادرة على الاندماج اقتصاديًا في الخارج، ما يعني تفريغ غزة تدريجيًا من عناصر بقائها القادرين على إعادة البناء، بينما يُترك الآخرون في مساحة الموت البطيء، والأدهى أن الفلسطيني، في هذه الصيغة الجديدة من التهجير، يُجبر على تمويل اقتلاعه من أرضه بنفسه، ثم يُسجّل رسميًا كمغادر “طوعي”.
النكبة بصيغة جديدة
لم تأتِ الرحلات الغامضة، ولا منظمة “المجد أوروبا”، ولا اقتصاد التهجير، في فراغ سياسي، بل تشكّل كل ذلك كجزء من استراتيجية أوسع تقوم على الجمع بين الإبادة الجماعية من جهة، وفتح مسارات خروج “طوعية” من جهة أخرى، في محاولة لإعادة إنتاج ما يمكن تسميته “النكبة الجديدة” بصيغة أقل صخبًا وأكثر قابلية للتسويق الدولي.
سياسيًا، لم يكن الإعلان عن خطة – تُرجمت لاحقًا إلى إدارة الانتقال الطوعي لسكان غزة – تفصيلًا إداريًا، بل لحظة كاشفة، فبعد أكثر من عام من القصف المكثف، والتجويع الممنهج، وتدمير المدن والمخيمات والبنية التحتية، انتقلت “إسرائيل” من مرحلة الإنكار إلى مرحلة التنظيم العلني للتهجير، ووفقًا لوسائل إعلام إسرائيلية، وافقت “إسرائيل” على أكثر من 95% من طلبات مغادرة سكان غزة.
هذه المرحلة ترددت كثيرًا على لسان قادة الاحتلال، فقد صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس في أكثر من مناسبة بأن “نحو 40% من سكان غزة مهتمون بالهجرة”. لم يشرح كيف قيس هذا “الاهتمام”، ولا في أي ظروف إنسانية جرى التعبير عنه.
وذهب وزير أقصى اليمين المتطرف بتسلئيل سموتريتش أبعد من ذلك، معلنًا عن خطة لنقل 1.8 مليون فلسطيني خلال 6 أشهر، أي 5000 شخص يوميًا تقريبًا، معتبرًا ذلك “حلًا واقعيًا” للصراع، وغرِّد مهنئًا بليتشتاين بعد تأسيسه إدارة الهجرة، قائلًا إنها “خطوة محورية للأجيال القادمة من الشعب اليهودي”.
هذا التزامن بين الخطاب السياسي الإسرائيلي المتطرف لم يكن معزولًا عن الواقع الميداني، بل جاء ليمنح الغطاء السياسي لما كان يُدار عمليًا بصمت، وبأدوات ناعمة، وبواجهات إنسانية زائفة، تسعى إلى إعادة تشكيل ديموغرافية غزة، لا عبر الطرد العلني، بل عبر هندسة اليأس، وخصخصة التهجير.
هكذا تُدار النكبة الجديدة دون الحاجة إلى أوامر عسكرية مكتوبة أو شاحنات ترحيل جماعي كما في 1948، يكفي أن تخلق “إسرائيل” بيدها اليمنى واقعًا معيشيًا غير قابل للحياة في غزة، لدفع السكان إلى حافة اليأس، ثم تعرض عليهم “الخلاص” في شكل تذكرة سفر، وتفتح لهم بيدها اليسرى باب خلفي للخروج، وتسميته “اختيارًا”.
في هذه الصيغة، لا يعود التهجير جريمة صاخبة، بل إجراءً إداريًا، ويصبح الفلسطيني شريكًا قسرًا في إخراجه، يدفع ثمن الرحيل بيده، ويُطلب منه أن يكون ممتنًا، أمَّا الاحتلال فلا يظهر في صورة الجهة التي تُهجّر شعبًا بالقوة، بل كطرف “يسمح” لمن يريد بالمغادرة “طوعًا”.
لكن التاريخ الفلسطيني مليء بمحاولات المحو الفاشلة، فكما لم تُلغِ صفة اللجوء عن فلسطينيي 1948 غياب الوثائق، لن تُلغي عن فلسطينيي غزة اليوم حقيقة ما جرى، وستبقى الرحلات التي قُدّمت بوصفها خلاصًا فرديًا، في الذاكرة الجمعية بوصفها جزءًا من مشروع اقتلاع منظم، ارتدى ثوب الإنسانية، وتحدّث بلغة السوق، لكنه ظل، في جوهره، نكبة.