أثار التعميم رقم 17 الصادر عن وزارة العدل السورية في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 جدلًا واسعًا في الشارع السوري، بعدما رأت فيه قطاعات حقوقية واجتماعية خطوة قد تُقيّد دور الأمهات في الوصاية على أطفالهن القُصّر.
فالتعميم، الذي بدأ تطبيقه مطلع ديسمبر/كانون الأول، أعاد التأكيد على ترتيب الأولياء الشرعيين وفق نظام العصبة الذكورية، من دون إدراج الأم ضمن هذه السلسلة، ما فتح الباب أمام مخاوف متزايدة من تكريس إقصائها عن القرارات القانونية المصيرية المتعلقة بأبنائها.
مضمون التعميم
رغم الجدل الذي أثاره التعميم، إلا أنه في جوهره لا يقدم نصًا قانونيًا جديدًا، بل يركز على تعديل نصوص موجودة بالفعل في قانون الأحوال الشخصية، وخاصة طريقة تطبيق القانون فيما يخص إذن سفر الأطفال دون الخامسة عشر في حال عدم وجود الأب، إذ أصبح غياب الأب لكثير من الأسر قضية من أكثر القضايا تعقيدًا في ظل الواقع السوري الذي شهد غياب آلاف الآباء بسبب حرب دامت 14 عامًا.
ما أضافه التعميم عمليًا هو إنهاء هامش المرونة القضائية الذي كان معمولًا به سابقًا، إذ شدّد على المحاكم الشرعية في جميع المحافظات بأن “الولاية على النفس”، أي حق تمثيل القاصر في القضايا الجوهرية مثل السفر واستخراج جوازات السفر، تخضع حصراً لنظام “العَصَبَة”. ويستند هذا النظام إلى أحكام الفقه الإسلامي، حيث تُرتّب الولاية وفق القرابة الذكورية من جهة الأب، بدءًا بالأب، ثم الجد، ثم الأخ الشقيق، فالأخ لأب، ثم أبناء الإخوة، وصولًا إلى الأعمام وأبنائهم، وفق تسلسل ممتد لا تُدرج فيه الأم.
وقبل صدور التعميم، كان القاضي الشرعي يتمتع في بعض الحالات، ولأسباب إنسانية وواقعية، بسلطة تقديرية تتيح له منح الأم صلاحية الوصاية، بما يمكّنها من اتخاذ قرارات أساسية تتعلق بحياة الطفل، مثل السفر، دون عوائق إجرائية معقّدة. أما التعميم الحالي، فقد ألغى هذه التسهيلات، وأعاد فرض ترتيب الولاية التقليدي، بحيث تصبح موافقة أحد أفراد العصبة شرطًا مسبقًا لأي إذن قضائي، وهو ما فُسّر على نطاق واسع باعتباره إقصاءً للأم من دائرة القرار القانوني المتعلق بأطفالها.
توضيح صادر عن فضيلة القاضي الشرعي الأول بدمشق
القاضي المستشار “أحمد حمادة”
حول مضمون التعميم رقم ١٧ لعام ٢٠٢٥ الصادر عن السيد وزير العدل.#الجمهورية_العربية_السورية #وزارة_العدل pic.twitter.com/0g73l5gKsB— وزارة العدل السورية (@SyrMOf) December 19, 2025
حملات واسعة تطالب بإلغائه
أثار التعميم موجة من الرفض الواسع في الأوساط الحقوقية والنسوية السورية، حيث اعتبرته منظمات مثل مجلس المرأة السورية والحركة السياسية النسوية السورية انتهاكًا صريحًا لحقوق الأم والطفل، مشيرات إلى أنه يعزّز التمييز الجنسي عبر حرمان الأم من الولاية على أطفالها القاصرين، بما يجعلها عرضة للانتقام العائلي في حالات النزاعات. وترى هذه الجهات أن التعميم يرسّخ نظرة تقليدية تتعامل مع المرأة بوصفها غير مؤهلة قانونيًا لاتخاذ قرارات مصيرية مثل السفر أو إدارة شؤون الأطفال، ولا سيما في سياق النزاع السوري الذي أسفر عن غياب الآباء في آلاف الأسر، ما يعرّض الأطفال لعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي.
وفي السياق نفسه، نشر الخبير القانوني السوري المعتصم الكيلاني منشورًا على فيسبوك انتقد فيه التعميم بشدة، معتبرًا أنه يُقصي الأم تمامًا عن الولاية ويحصرها بالذكور من أقارب الطفل، بما يضر بمصلحته النفسية والقانونية ويعزّز التمييز على أساس الجنس، في مخالفة للمبادئ الدولية المتعلقة بعدم التمييز وحماية الأسرة. وطالب الكيلاني بمراجعة فورية للتعميم، محذّرًا من آثاره الاجتماعية الخطيرة، فيما انضم إليه ناشطون آخرون في حملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تطالب بتعديل يراعي الواقع السوري بعد سنوات النزاع.
وفي حديثها مع العربي الجديد، وصفت الناشطة الحقوقية أفين جمعة نظام الوصاية الحالي بأنه تمييزي جوهريًا ضد المرأة، إذ يقيّد قدرتها على حماية نفسها وأطفالها، خاصة في ظروف النزاع والأزمات التي تفاقمت بعد سنوات الحرب. وأشارت إلى أن الأم غالبًا ما تجد نفسها خاضعة لسلطة أقارب الزوج الذكور، ما يفتح الباب أمام ممارسات انتقامية في الخلافات العائلية، ويترك الأطفال عاجزين عن الدفاع عن حقوقهم، معتبرة أن هذا الإقصاء يعامل المرأة على أنها غير كاملة الأهلية، رغم تحمّلها المسؤولية اليومية الكاملة.
من جهته، يرى المحامي رامي هاني الخيّر أن قانون الأحوال الشخصية السوري، رغم تفوقه على بعض التشريعات العربية الأخرى عند المقارنة الإقليمية، مثل تونس، إلا أنه من منظور داخلي يظل قانونًا ذكوريًا بحاجة ماسّة إلى تحديث وتعزيز حقوق المرأة. وأكد أن هناك مواد تُنصف المرأة، لكن على صعيد الوصاية لم تُنصف.
وانتشرت على منصات التواصل الاجتماعي حملات واسعة تطالب بإلغاء التعميم رقم 17، معتبرة أنه يُهين دور الأم كمعيلة وحاضنة رئيسية في آلاف الأسر المتضررة من الحرب والنزوح، ويعيد إنتاج التمييز في مرحلة انتقالية تتطلب مرونة أكبر لضمان استقرار الأسر. وأضاف كثيرون أن القرار يمس كرامة الأم، ويعاملها بوصفها “أقل أهلية”، ويتجاهل الواقع الاجتماعي في سوريا، ويضع مصلحة الطفل بيد أقارب قد يكونون غير مطّلعين على تفاصيل حياته.
أجوبة الحكومة
وهذا ما أكده أيضاً المحامي عبد الرحمن العبد الله في مقابلة سابقة مع “نون بوست“، موضحاً أن التعميم الصادر هو تعميم إداري وُجّه إلى المحاكم الشرعية، ولم يتضمن إطلاقاً أي تعديل على القانون، أو على التعليمات أو الأنظمة أو التشريعات النافذة. وأضاف أن التعميم قد يشوبه بعض النقص أو الغموض، لا سيما فيما يتعلق بتحديد صلاحيات الأم الحاضنة تجاه أطفالها القُصّر.
وأوضح العبد الله أن التعميم اقتصر على شرح ترتيب العَصَبة الذين يحق لهم تولي الولاية على نفس القاصر، مبينًا أنه في السابق كان يتوجب على الأم مراجعة القاضي الشرعي والحصول على وصاية شرعية، ثم الانتقال إلى إدارة الهجرة والجوازات، في حين أن هذا الإجراء لم يعد مطلوبًا بعد صدور التعميم عند التقدم بطلب إصدار جواز سفر للقاصر.
وأشار إلى أن تعميم وزير العدل يقتصر حصرًا على مسألة إصدار جواز السفر، ويهدف إلى تبسيط الإجراءات على الأهالي وتخفيف العبء الإداري، لا تعقيده، فإذن السفر ما يزال يحتاج إلى موافقة الأبوين، وفي حال كان الأب خارج البلاد تُمنح الأم الموافقة بشكل مباشر وتلقائي، معتبرًا أن التعميم جاء لتسهيل المعاملات، وليس لتقييدها أو إضافة تعقيدات جديدة.
الفرق بين الوصاية وبين مفهومي الحضانة والولاية
يُظهر الجدل الدائر حول التعميم وجود خلطٍ واسع بين مفاهيم قانونية متمايزة في قانون الأحوال الشخصية السوري، هي: الولاية، والوصاية، والحضانة.
-
الولاية: تُعد الإطار الأوسع، وتشمل سلطة اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالقاصر، مثل السفر خارج البلاد، وإدارة الأموال الكبيرة، وتغيير الاسم. وهي من حيث المبدأ حق للولي الجبري، أي الأب أولًا، ثم الجد، ثم العصبة الذكورية وفق ترتيب الإرث (الذي ذُكر سابقًا).
-
الوصاية: هي صلاحية أكثر تحديدًا، وغالبًا ما تُمنح بقرار قضائي أو بموافقة الولي، وتقتصر على تصرفات معيّنة مثل استخراج جواز السفر أو السماح بالسفر أو التنقل بين المحافظات، خاصة في حالات الطلاق أو غياب الأب.
-
الحضانة: تتعلق بالرعاية اليومية والعيش مع الطفل، وهي مقرّرة لمصلحة الطفل أولًا، وتكون للأم حتى بلوغ الطفل سن الخامسة عشرة، دون أن يطرأ أي تعديل على هذا الحق في القانون السوري الحالي.
وفي هذا السياق، أكد المحامي رامي هاني الخيّر لـ”نون بوست” أن حق الحضانة لم يتغير إطلاقًا، وما يزال كما هو منصوص عليه قانونًا: للأم أولًا، ثم للأب، ثم لأم الأم. وأوضح أن التعميم لم يُلغِ أو يُعدّل أي نص يتعلق بالحضانة، وأن الخلط بين هذه المفاهيم يُعد أحد الأسباب الرئيسية للجدل.
وأشار إلى أن الوصاية قد تُمنح للأم في حالات محددة وبقرارات قضائية مؤقتة، كما كان معمولًا به سابقًا، وأن ما صدر مؤخرًا لا يشكّل تغييرًا جوهريًا في بنية القانون، بل أعاد التأكيد على آليات قائمة مع تضييقٍ على المرونة القضائية السابقة.
وأضاف أن تصريحات القاضي الشرعي الأول ووزارة العدل أكدت أن الوصاية لم تُسقط، وأن الفيصل الحقيقي سيكون في التطبيق العملي، لا في القراءة الأولى للتعميم، التي أثارت التباسًا واسعًا لدى الرأي العام، خاصة في ظل الواقع السوري الذي يشهد غياب الآباء في آلاف الأسر.
