في خطوة كفيلة بخلط الأوراق في منطقة القرن الأفريقي وإرباك كافة الحسابات الإقليمية والدولية وإعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية لتلك المنطقة اللوجستية، شديدة الحساسية، أعلنت حكومة الاحتلال وبشكل أحادي اعترافها الرسمي بـ أرض الصومال (صومالي لاند) بوصفها “دولة مستقلة وذات سيادة”.
وأوضح مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أن الإعلان جاء بتوقيع مشترك بين نتنياهو ووزير الخارجية جدعون ساعر ورئيس جمهورية أرض الصومال عبد الرحمن محمد عبد الله، وذلك بما يتماشى مع اتفاقات أبراهام التي تم التوصل إليها بمبادرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
بهذا القرار -غير المستغرب في ظل ما يشهده القرن الأفريقي من فوضى- يعد الكيان المحتل أول عضو في الأمم المتحدة يمنح “أرض الصومال” اعترافًا رسميًا منذ إعلان انفصالها عام 1991، ما يكسر فعليًا “الحظر الدبلوماسي” المفروض على الإقليم منذ 34 عامًا، في تحول سيكون له ارتداداته المستقبلية على الإقليم الهشّ ودول المنطقة بأسرها.
أعلنت حكومة الاحتلال اعترافها الرسمي بإقليم "أرض الصومال" دولةً مستقلة وذات سيادة، لتصبح "إسرائيل" أول من تُقدِم على هذه الخطوة في العالم.
جاء الإعلان عقب توقيع مشترك بين رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير خارجية الاحتلال ورئيس إقليم "أرض الصومال" عبد الرحمن محمد عبد… pic.twitter.com/ehmGqqw0m4
— نون بوست (@NoonPost) December 26, 2025
وقد قوبلت هذه الخطوة الإسرائيلية، التي تستبق زيارة نتنياهو لواشنطن بساعات قليلة، بموجة تنديد عربي وإقليمي واسع، في ظل ما تحمله من تهديد مباشر لوحدة الأراضي الصومالية وتقويض لأسس الأمن والاستقرار في منطقة تعاني أصلًا من هشاشة سياسية وصراعات ممتدة.
وفي هذا السياق، تتصاعد التساؤلات حول الدوافع الحقيقية الكامنة خلف القرار الإسرائيلي، والأهداف الاستراتيجية التي تسعى تل أبيب إلى تحقيقها من خلال تعزيز حضورها السياسي والأمني في هذه البقعة الجيوسياسية شديدة الأهمية، حيث تتمتع “أرض الصومال” بموقع استثنائي يمتد على ساحل بطول 800 كيلومترًا تقريبًا على خليج عدن، وموقع استراتيجي عند نقطة التقاء المحيط الهندي مع البحر الأحمر في منطقة القرن الأفريقي.
محاولة لفهم السياق
لا يمكن قراءة التطورات الجارية في الساحة الصومالية بمعزل عن المستجدات المتسارعة في المنطقة خلال الآونة الأخيرة، أبرزها:
- ما يحدث في الجنوب اليمني، حيث يفرض المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتيًا وإسرائيليًا، سيطرته على مناطق الجنوب، في سياق مساعٍ واضحة لإعادة إحياء مشروع الانفصال وإعلان دولة يمنية جنوبية بشكل رسمي، تهيمن بشكل أساسي على الجهة الشرقية لمضيق باب المندب.
- المستجدات في المشهد السوداني، حيث تعزيز حضور ميليشيات الدعم السريع ميدانيًا في مواجهة الجيش السوداني، بفضل الدعم الذي تتلقاه من جهات خارجية وعلى رأسها الإمارات، والحديث عن تقسيم السودان إلى دويلات صغيرة.
- اتساع رقعة التوتير بين إثيوبيا وإريتريا، حيث تسعى أديس أبابا، بدعم إسرائيلي إماراتي، للحصول على موطئ قدم لها على البحر الأحمر على حساب الجار الإرتيري، وهي المساعي التي أججت الأجواء بين البلدين ولاقت ردود فعل إقليمية ودولية في ظل ما تحمله من تهديدات جيوسياسية واضحة.
الدوافع والأهداف الإسرائيلية
تنطلق تل أبيب في قرارها هذا من خلال بعض الأهداف التي تحاول تحقيقها، أهمها:
الاعتراف مقابل التطبيع.. تُقدَّم الخطوة الإسرائيلية الأحادية بالاعتراف بإقليم أرض الصومال كـ”دولة مستقلة” بوصفها امتدادًا مباشرًا لـ”روح اتفاقات أبراهام” التي تحاول تل أبيب توسعة رقعتها قدر المستطاع، وهو الإطار الذي استند إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي في توصيف الإعلان المشترك المتعلق بهذه الخطوة.
في المقابل، أعلن رئيس ما يُعرف بـ”صومالي لاند” عزمه الانضمام رسميًا إلى اتفاقات أبراهام، معتبرًا أن هذا المسار يمثّل “بداية شراكة استراتيجية” تهدف إلى تعزيز السلام والاستقرار في كل من الشرق الأوسط وأفريقيا، مع تركيز خاص على منطقة القرن الأفريقي والانفتاح على البحر الأحمر بوصفه فضاءً استراتيجيًا بالغ الأهمية.
مخطط التهجير القسري لسكان غزة.. في مارس/آذار وأغسطس/آب 2025، تداولت وسائل إعلام تقارير تفيد بأن “إسرائيل” أجرت اتصالات مع إقليم أرض الصومال بوصفه خيارًا محتملًا لإعادة توطين الفلسطينيين الذين تعتزم تهجيرهم من قطاع غزة، في خطوة أثارت موجة واسعة من الإدانة.
وفي هذا السياق، تطرق الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى القضية خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض مطلع أغسطس/آب الماضي، حيث قال، ردًا على سؤال حول إمكانية دعم الاعتراف بأرض الصومال مقابل قبول الفلسطينيين: “نحن نبحث في الأمر الآن”، وأضاف: “إنه سؤال جيد ومعقّد في الوقت ذاته، لكننا نعمل عليه حاليًا”، من دون أن يقدم موقفًا حاسمًا.
البحث عن موطئ قدم على باب المندب.. يقود الدفع نحو الاعتراف بإقليم أرض الصومال إلى تمكين تل أبيب من بسط هيمنتها على الضفة الغربية لباب المندب، حيث الموانئ الصومالية المطلة على البحر الأحمر بشريط حدودي طوله قرابة 800 كم على خليج عدن، وهو ما يفضي عمليًا إلى السيطرة على النصف الآخر من هذا المضيق ذي الأهمية اللوجستية الفائقة، ومن ثم التحكم في حركة الملاحة في هذا الشريان الحيوي.
مناهضة النفوذ الإيراني.. تمنح تلك الخطوة “إسرائيل” طوقًا لتعزيز عملياتها في البحر الأحمر، ساعية إلى تحويل أرض الصومال إلى “مركز إنذار مبكر” استخباراتي وعسكري متقدم، مما يقلص زمن الاستجابة للهجمات القادمة من اليمن، في خطوة من شأنها مناهضة النفوذ الإيراني في تلك البقعة السحرية من العالم، من جانب آخر خنق الحوثيين وتحجيم نشاطهم الصاروخي الذي يستهدف تل أبيب سواء عبر القصف المباشر أو استهداف السفن الإسرائيلية العابرة من المضيق، خاصة بعد الفشل في التصدي لها على مدار عامين كاملين.
الضغط على الوسطاء في ملف غزة.. من الأهداف التي لا يمكن إغفالها على هامش قراءة الخطوة الإسرائيلية، محاولة نتنياهو ابتزاز الدول الوسطاء في اتفاق غزة، مصر وقطر، ومن خلفهم القوى العربية ذات النفوذ الإقليمي كالسعودية، عبر استراتيجية المقايضة المعروفة إسرائيليًا، المزيد من المرونة في المواقف بشأن مستقبل غزة بما يخدم الأجندة الإسرائيلية مقابل التوقف عن العبث بالأمن القومي العربي في خاصرته الأفريقية، والعكس صحيح.
تعزيز الحضور الاقتصادي أفريقيًا.. تشير تقارير اقتصادية إلى أن الاعتراف الإسرائيلي بإقليم أرض الصومال سيعزز مكانة ميناء بربرة، الذي تديره “موانئ دبي العالمية”، ويتيح تحويل جزء كبير من الحركة الملاحية من جيبوتي -التي تستضيف قواعد عسكرية صينية وفرنسية وأميركية- نحو بربرة، ليصبح ميناءً مخصصًا لحلفاء الغرب و”إسرائيل”، بجانب ما يمكن لتل أبيب أن توفره من تكنولوجيا الموانئ الذكية وأنظمة المراقبة بالطائرات بدون طيار لضمان حماية الاستثمارات وتأمين السواحل في الإقليم.
ماذا عن دوافع أرض الصومال؟
تعتبر حكومة “أرض الصومال” أن الاعتراف الإسرائيلي يمثل فرصة تاريخية لتحويل طموحاتها الانفصالية من شعارات دبلوماسية إلى واقع ملموس، حيث يمنحها هذا الاعتراف شرعية دولية طويلة الأمد ويفتح آفاقًا واسعة للشراكات الاستراتيجية والاقتصادية في مجالات الزراعة والصحة والتكنولوجيا والتنمية.
وتنظر هرجيسا -بشكل برغماتي بحت- إلى هذه الخطوة الصادرة من كيان عضو في الأمم المتحدة، كنقطة تحوّل تدعم مزاعمها بالحق التاريخي والقانوني في الاستقلال، وتمهد الطريق لعلاقات دبلوماسية كاملة تشمل تعيين سفراء، وافتتاح سفارات في الخارج، وإقامة شراكات متكاملة مع دول أخرى.
ماذا تعني تلك الخطوة عمليًا؟
بصرف النظر عن جدوى هذه الخطوة على الصعيد الدولي، خاصة بعد إعلان ترامب عدم الإقدام عليها في الوقت الحالي على الأقل، فإنها عمليًا تنطوي على مجموعة من التداعيات المحتملة، في مقدمتها أبعاد استراتيجية بالغة الخطورة على أمن المنطقة:
- إتاحة الفرصة أمام تل أبيب لبسط نفوذها على الضفة الغربية لمضيق باب المندب، ومع ربط ذلك بالتطورات الجارية في جنوب اليمن، حيث تسعى “إسرائيل”، بدعم إماراتي، إلى تعزيز حضورها في الموانئ اليمنية والسيطرة على الضفة الشرقية للمضيق، فإن هذا المسار قد يفضي إلى تحكم إسرائيلي شبه كامل في مضيق باب المندب من جانبيه اليمني والصومالي.
- انتقال “إسرائيل” من موقع الشريك المتعاون مع بعض دول القرن الأفريقي، ولا سيما أرض الصومال وإثيوبيا، إلى موقع الفاعل المباشر واللاعب المؤثر في الإقليم، خاصة إذا ما أعقب الاعتراف خطوات عملية، مثل إنشاء قواعد عسكرية وبحرية على البحر الأحمر، وهو ما يشكل تحولًا جيوسياسيًا نوعيًا في خريطة النفوذ وموازين القوى الإقليمية.
- تعميق الشراكة الإسرائيلية–الإثيوبية، بما قد يمهد لتشكيل تحالف إقليمي أوسع، يضم أطرافًا مسلحة أو قوى غير دولية من السودان والصومال وإريتريا وغيرها من دول المنطقة، الأمر الذي من شأنه توسيع نطاق النفوذ الإسرائيلي داخل القارة الأفريقية، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وتعزيز حضورها في واحدة من أكثر المناطق حساسية على المستوى الاستراتيجي.
اختراق مباشر للأمن القومي العربي
من الأمور اللافتة في هذا الإعلان تعبير نتنياهو عن شكره العلني لجهاز الموساد ورئيسه دافيد برنياع، على جهودهم في دفع مسار الاعتراف المتبادل، وهو الموقف الذي تراه صحيفة “لوموند” الفرنسية، يشير بوضوح إلى الطابع الأمني والاستخباراتي للقرار، وليس البعد الدبلوماسي فحسب، مضيفة أن إبراز دور “الموساد” يوضح أن الاعتراف بإقليم يقع في منطقة ذات حساسية جيوسياسية عالية، مثل القرن الإفريقي، يرتبط مباشرة بالاعتبارات الأمنية الإقليمية والممرات البحرية الحيوية.
من هذا المنطلق يأتي الاعتراف الإسرائيلي بإقليم أرض الصومال كونه اختراقًا مباشرًا وخطيرًا للأمن القومي العربي، لا سيما عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بوصفهما من أهم شرايين التجارة العالمية وركيزة أساسية لأمن مصر ودول الخليج واليمن.
وفي ذات السياق تكمن خطورة هذه الخطوة في أنها تنقل الحضور الإسرائيلي من الأطراف إلى قلب أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في النظام الدولي، ما يحولها كـ “لاعب محوري” وربما اللاعب الأبرز في هذا المضمار اللوجستي.
وفي قراءة لهذا التطور بات واضحًا أنه لم يأت من فراغ، بل جاء كنتيجة منطقية ومتوقعة لفراغ عربي مزمن في الصومال ومنطقة القرن الأفريقي على مدار عقود، وهو فراغ أتاح لقوى خارجية التغلغل واستثمار الانقسامات الداخلية، ما أسهم في تحويل البحر الأحمر وباب المندب من عمق استراتيجي عربي إلى مصدر تهديد مباشر، وفرض وقائع جيوسياسية جديدة على الأرض يصعب تجاهلها.
وفق هذا المنظور، يُقرأ اعتراف نتنياهو بأرض الصومال باعتباره خطوة مدروسة لتكريس حضور إسرائيلي فاعل في البحر الأحمر والبحر العربي، وتحديدًا في مضيق باب المندب، بما يتيح لتل أبيب موازنة النفوذ الإقليمي المنافس، وعلى رأسه الحضور المصري المتنامي في جمهورية الصومال، والذي تُوّج بتوقيع اتفاقية دفاع مشترك بين القاهرة ومقديشو.
وعلى الجانب الآخر، لا يمكن فصل هذا المسار عن الموقف الإثيوبي، إذ تبدي أديس أبابا انزعاجًا واضحًا من التواجد المصري في الصومال، ما يدفعها، وفق هذه القراءة، إلى دعم حضور إسرائيلي في إقليم أرض الصومال الساعي للانفصال، وذلك في إطار صراع نفوذ إقليمي تتقاطع فيه الحسابات الأمنية والسياسية على ضفاف البحر الأحمر.
ماذا عن الإمارات؟
تعكس التطورات المتسارعة في المنطقة دورًا محوريًا تلعبه أبو ظبي في إعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في جنوب البحر الأحمر، فبالتوازي مع الاعتراف الإسرائيلي بإقليم أرض الصومال، عملت الإمارات على تعزيز نفوذها في الجنوب اليمني عبر تمكين المجلس الانتقالي الجنوبي من السيطرة على محافظات ذات أهمية استراتيجية، في مسار يبدو منسجمًا ومتناغمًا بشكل متطابق مع التحرك الإسرائيلي المتزامن على الضفة الغربية لمضيق باب المندب عبر الصومال، ضمن مشروع أوسع يستهدف إحكام السيطرة على أحد أخطر الممرات الملاحية في العالم.
ولا يمكن فصل هذه التحركات عن استراتيجية إماراتية ممتدة منذ سنوات، تقوم على إعادة رسم خرائط النفوذ في محيط البحر الأحمر، من خلال تفكيك الكيانات التي تعاني من هشاشة سياسية وأمنية واقتصادية وبناء شبكة من القواعد العسكرية وأدوات النفوذ السياسي تمتد من اليمن إلى القرن الأفريقي وصولًا إلى السودان، بما يصب في نهاية المطاف في مصلحة الكيان الإسرائيلي عبر تأمين خطوط ملاحتها الجنوبية التي شكّلت تاريخيًا إحدى نقاط ضعفها الاستراتيجية.
الاتفاق الذي أغضب #الصومال بشدة، من المرجّح أيضًا أن يثير استياء مصر والسعودية، اللتين تنظران بتوجس إلى سعي #الإمارات للهيمنة الإقليمية
📍صفقة #إثيوبيا مع “أرض الصومال”.. توتر جديد يعصف بالقرن الأفريقي
المزيد من التفاصيل في تقرير @Moh_Gamea https://t.co/7AYybqUkj9— نون بوست (@NoonPost) January 7, 2024
وفي قلب هذه المعادلة، يبرز الأمن القومي العربي بوصفه المتضرر الأكبر، إذ إن إحكام السيطرة على مضيق باب المندب، بالتوازي مع التمدد في القرن الأفريقي والساحل السوداني، يعني تطويقًا مباشرًا للعمق العربي، وتحويل البحر الأحمر من فضاء استراتيجي عربي إلى ساحة نفوذ مفتوحة لتحالف إماراتي–إسرائيلي طويل الأمد، الأمر الذي يتطلب ردًا وحراكًا عربيًا يتجاوز الإدانات الدبلوماسية الجوفاء.
تنديد عربي… هل يكفي؟
ردًا على الاعتراف الإسرائيلي بإقليم أرض الصومال، أكد وزراء خارجية كل من مصر وتركيا والصومال وجيبوتي، خلال اتصال مشترك، على الرفض التام لهذه الخطوة، مؤكدين دعمهم الكامل لوحدة وسيادة وسلامة الأراضي الصومالية.
وشددوا، وفق بيان وزارة الخارجية المصرية، على رفض أي إجراءات أحادية تهدد السيادة الصومالية أو تقوض الاستقرار، وعلى دعم المؤسسات الشرعية للدولة ورفض أي محاولات لإقامة كيانات موازية تتناقض مع وحدة البلاد.
ورغم الطابع الرمزي للاعتراف الإسرائيلي، فإن تداعياته تدق ناقوس الخطر حول المخططات التي تُحاك في القرن الإفريقي ومضيق باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر، بدعم إماراتي واضح، حيث مُنحت “إسرائيل” الحبل الذي تخنق به العرب جميعًا، خصومًا وحلفاء.
