تبدو عمادة زهران ممداني لمدينة نيويورك مميزةً من نواحٍ عدة؛ فهو شاب حديث العهد بالعمل السياسي، وابن لمهاجرين ملونين جاؤوا يحلمون بغدٍ أفضل في مجتمع أبيض تفوقيّ، ويحمل فكراً اشتراكياً واضحاً في مدينة تمسك الرأسمالية المتوحشة بتلابيبها، وهو فوق هذا مسلم ولا يخفي هويته الدينية بل ويحتكم إليها في كبريات المظالم العالمية، كالقضية الفلسطينية مثلاً رغم حساسيتها لبعض أكثر فئات المدينة نفوذاً وثروة.
لكنّ عمادة ممداني تحمل أثراً أكبر على الفئات التي خرج منها، والتي لطالما عانت من الظلم والتهميش في المدينة؛ المسلمون الذين عانوا من حملات إسلاموفوبيا مخيفة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي شهدتها مدينة نيويورك، والمهاجرون الذين يحاصرهم ترامب في الشوارع والأزقة، والمناصرون للحق الفلسطيني الذين شهدت المدينة منذ عامين أكبر انتفاضةٍ طلابية ومجتمعية لهم تنديداً بالمقتلة الشنيعة في القطاع والتي تساهم نيويورك بمؤسساتها المالية والتعليمية بجزء غير يسير من فاتورتها.
فأي أثرٍ تحمله عمادة ممداني على ملف الحريات الدينية في المدينة؟ وكيف سيتعامل مع الحركة الصهيونية الممسكة بتلابيبها؟ هل سيكون ممداني مستعداً لصدام مبكر معها؟ أم سيضحي بجزء من مبادئه التي ضمنت له فوزاً بمنصب العمادة؟ وماذا عن حركة المناصرة للقضية الفلسطينية؟ هل يتبنى ممداني الحركة بكليتها من مظاهرات وحركة مقاطعة وفعاليات مناصرة معرضاً نفسه لانتقام الحركة الصهيونية؟ أم يتبع نهجاً دبلوماسياً يوازن بين الفرص والتحديات؟
الإسلاموفوبيا تظلل ممداني
تعرّض ممداني بسبب هويته الدينية لهجمات شرسة معادية للمسلمين قادتها جهات عدّة في المدينة والولايات المتحدة بشكل عام، فقد رصد مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية في تقريره الخاص بحملة انتخابات عمادة نيويورك صعوداً حاداً في حوادث الإسلاموفوبيا بين 24 حزيران و31 تشرين الأول من العام الجاري وصلت لما مجموعه 35.522 منشوراً معادياً للإسلام والمسلمين على منصة إكس.
وفقاً لتقرير المجلس؛ فقد تلقف السياسيون والجهات الإعلامية المعادية لممداني هويته الدينية وآراءه السياسية الإشتراكية بهستيريا من التخويف والاتهامات الجزافية بكونه “تهديداً خارجياً لأمن وثقافة المدينة”، لا ابنها الذي كبر وترعرع في أزقتها وحواريها. إضافة لإلصاق التهم الجاهزة بكونه “جهادياً” و”إرهابياً” و”مسلماً راديكالياً” يسعى لتطبيق “الشريعة” ويتبنى فكراً لا يتماشى مع الثقافة والمبادئ الأمريكية معرضة بذلك المسلمين كمجموعة دينية لخطر هجمات الكراهية والإنتقام.
وقد كانت حملة الإسلاموفوبيا ضد ممداني شرسة إلى الحد الذي سجلت فيه ارتفاعاً بنسبة 450% في شهر أكتوبر وحده مقارنة بشهر سبتمبر؛ فقد احتلت المنشورات المعادية للمسلمين 43% من مجموع منشورات منصة إكس مسجلة ارتفاعاً غير مسبوق في فترة وجيزة، ما دفع بممداني لعقد مؤتمر صحفي في الـ24 من أكتوبر الماضي للتصدي للاتهامات التي طالته وطالت حملته الإنتخابية.
ولم يسلم ممداني من معاداة المسلمين حتى من منافسيه؛ إذ وجّه له منافسه الديمقراطي أندرو كومو الذي شغل منصب حاكم ولاية نيويورك فيما مضى إهانة عنصرية حين سأل في إحدى برامج الراديو “كيف سيتولى هجمات حادي عشر من سبتمبر جديدة في عهده؟” لينفجر ضاحكاً على تعليق المقدم بأنه سيحتفل بذلك. وقد اعتبر مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية CAIR تعليقات كومو “معادية بشدة للمسلمين”.
علاقة مميزة بيهود المدينة
خصّص ممداني، ضمن جولته الانتخابية، لقاءات مع قادة المجتمع اليهودي في المدينة؛ إذ زار عدة كُنُس، منها كنيس بارك سلوب، أحد أكبر وأهم الكُنُس اليهودية في مدينة نيويورك، مطمئنًا روّاده إزاء المخاوف التي يبثّها خصومه بشأن هويته الدينية. وقد ادّعت أوليفيا رينغولد، صحفية منصة “الصحافة الحرة” (The Free Press)، أن ممداني أكد للحضور أنه سيقوم بتعيين عدد من الصهاينة في إدارته، وهو ما لم يؤكده مكتبه أو ينفه.
ينقسم قادة المجتمع اليهودي في المدينة حول عمادة ممداني، إذ يرى الحاخام إليوت كوسغروف قائد كنيس بارك أفينيو أن ممداني يمثل تهديدًا لليهود نتيجة مواقفه السياسية تجاه إسرائيل خاصة في ظل مناداته لوقف إطلاق النار في غزة وانتقاده اللاذع لتزويد إسرائيل بالأسلحة الأمريكية، بينما تُشيد جيمي بيرن من منظمة “بيند ذا آرك” بخطط ممداني لمكافحة معاداة السامية، معتبرةً أنه يشكل أملاً بتغيير إيجابي في مدينة نيويورك وأنه لا يجب الخلط بين يهود المدينة ومناهضة السياسات الإسرائيلية.
ورغم محاولات التضليل المتعلقة بإتهام ممداني بمعاداة السامية، فقد حصل وفقاً لاستطلاعات الرأي على 33% من تصويت يهود مدينة نيويورك. بينما صوّت 3% من يهود المدينة لسليوا و63% لكومو وهو حليفهم المعروف منذ فترة خدمته كحاكم لولاية نيويورك.
في المقابل، حصد ممداني 75% من أصوات غير المنتمين لدين معين، و70% من أصوات مسلمي المدينة، و42% من أصوات المسيحيين البروتوستانت، و33% من المسيحيين الكاثوليك.
كما يتمتع ممداني بشعبية كبيرة بين مجتمعات ساتمار الحسيدية، وهم مجتمع يهودي له وجود ضخم ومعتبر في نيويورك، حيث بلغ تعدادهم في المدينة قبل خمس سنوات 156,744 ألف بنسبة نمو سكاني تقارب 4.3%، وتعود أصولهم إلى المجر ورومانيا ويتمتعون بثقافة محافظة وعداء جذري مع الصهيونية وإسرائيل. وقد إلتقى بهم ممداني في عدة مناسبات وسط حفاوة كبيرة.
محاولات صهيونية لشيطنة ممداني
تحاول الحركة الصهيونية في مدينة نيويورك اللعب على حبل الحريات الدينية ليهود المدينة وحقهم الدستوري في تبني أي فكر أو فلسفة يريدون بما في ذلك الفكر الصهيوني.
فقد سارعت منظمة مناهضة التشهير “ADL”، إحدى أهم المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة بتشكيل مبادرة تحت مسمى “مراقبة ممداني: محاسبة إدارة مدينة نيويورك”، بحجة مراقبة أدائه في ملفات عدة أهمها حقوق اليهود والصهاينة في المدينة. وقد أوضحت المبادرة أنها ستقوم على مراقبة لا سياسات ممداني في المدينة وقرارات التمويل والمشاريع وحسب ولكن أيضاً تعييناته والفريق المحيط به والذي ستطاله ولا بد إتهامات بمعاداة السامية بمجرد ثبوت أي صلة وطنية أو حقوقية له بالقضية الفلسطينية.
وقد صرّحت المنظمة في صفحتها التعريفية بالمبادرة بكونها تعتبر ممداني معادياً للسامية ويحيط نفسه بأشخاص كارهين لإسرائيل ما سيساهم في تعميق أزمة يهود المدينة ومؤسساتهم التي تتعرض للعنف والتحرش والمضايقات منذ إندلاع أحداث السابع من اكتوبر وفقاً لجوناثان جرينبلات، المدير التنفيذي للمنظمة. حيث ادعت المنظمة أن حوادث معاداة السامية ارتفعت بالمئات في مدينة نيويورك لوحدها العام الجاري. وأن عام 2024 شهد 976 حادثاً معادياً لليهود في المدينة تستهدف الكنس اليهودية والإسرائيليين والداعمين لإسرائيل في الجامعات والأماكن العامة.
فوز #ممداني لم يعد حدثًا محليًا؛ بل دليلًا على ثورة سياسية يقودها شباب يرفضون توظيف معاداة السامية كسلاح انتخابي، ويتعاملون مع #فلسطين كقضية أخلاقية مركزية
🔴القصة في تقريرنا المترجم: “أيباك جعلتني راديكاليًا”: اليهودي الذي وضع استراتيجية ممداني تجاه جيل زد… pic.twitter.com/nA0GwiwpLs
— نون بوست (@NoonPost) December 1, 2025
كما أطلقت المنظمة ضمن مبادرتها خطاً ساخناً للإبلاغ عن هجمات معاداة السامية التي سيتعرض لها يهود المدينة في الشوارع والمدارس وأماكن العمل عازية ذلك لتاثير الإدارة الجديدة على سلامة وأمن اليهود في نيويورك.
كما تسابقت المنظمات الصهيونية على إتهام ممداني بمعاداة السامية مستغلة كل حدث في المدينة لصالح دبغه بالتحيز للمناصرين للقضية الفلسطينية؛ إلا أن ممداني بذكائه المعتاد كان قادراً على الإلتفاف على هذه الإدعاءات مع الثبات على مواقفه قدر الإمكان.
ففي ردّه على الإتهام الذي طاله بتأييد مهاجمة فعالية نظمتها مؤسسة نيفيش بينيفيش الداعمة لهجرة اليهود إلى إسرائيل في كنيس بارك إيست بالمدينة حيث تجمّعت مظاهرة تهتف ب”عولمة الإنتفاضة” و”الموت لجيش الإحتلال” نوفمبر الماضي، لم يكن ممداني إعتذارياً بل قال بوضوح أن أماكن مقدسة لا يجب ان يتم استخدامها لإنتهاك القانون الدولي. وقد وضح المتحدث باسم مكتبه فيما بعد بأنه يعني المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
فهو من ناحية أقر للكنس في المدينة بالقداسة والحق بالحماية وفقاً للتعديل الدستوري الأول ومن ناحية أخرى لم يعب على التظاهرة الهتاف الذي استخدمته ابتداءً وارتكن في ذلك للمشروعية وفق القانون الدولي وضرورة تناغم قوانين المدينة مع مبادئ حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي التي تحترم الإنسانية وتقوم على العدالة والمساواة.
لكنه عاد تحت تأثير الضغط ووضح لصحيفة نيويورك تايمز أن حق التعبير مكفول للجميع لكن دون المناداة بموت أحد وأن هتافاً كهذا غير مقبول البتة.
أظهر فوز مامداني أن الناخبين اليهود والتقدميين في نيويورك يضعون قضايا المعيشة وحقوق الإنسان فوق الدفاع المطلق عن الحكومة الإسرائيلية، مما يعكس تراجع شعبية “إسرائيل” وتأثير ذلك حتى على الحليف الأمريكي الرئيسي.
📍ممداني يزعزع قواعد الدعم الأمريكي لـ “إسرائيل” 👇… pic.twitter.com/Ngthl6MwNo
— نون بوست (@NoonPost) November 28, 2025
لم تفوت مناهضة التشهير فرصتها بالانقضاض على ممداني وإتهامه بتأييد معاداة السامية في المدينة والفشل في حماية يهود المدينة والانتقاص من حقهم بالتعبير عن أنفسهم وحقهم بتقرير المصير في وطنهم الأم وفقاً لتعبير المنظمة.
بوق آخر حشد الكراهية والعداء لممداني تحت مظلة حماية يهود المدينة كانت اللجنة الأمريكية اليهودية “AJC”، حيث ضخمّت جو التوتر السائد إبان حملة ممداني الإنتخابية ولعبت على مخاوف اليهود المحافظين والارثوذوكس الداعمين لإسرائيل في المدينة بوصفهم “اليهود الأساسيين” والمتحدثين باسم هذه الجماعة الدينية في نيويورك في تهميشٍ لبقية اليهود الليبراليين والمناوئين للصهيونية والمناصرين في الآن ذاته للحق الفلسطيني.
ادعت اللجنة أن حوادث معاداة السامية في الشهر الذي شهد إنتخابات عمادة نيويورك وصلت لنسبة 62% وهي نسبة كبيرة مقارنة بالنسبة العالية أصلاً التي ادعتها عام 2024 بـ54%. وتلا هذه الإدعاءات مطالبات من اللجنة بتخصيص النسبة الاكبر من تمويل برامج محاربة جرائم الكراهية التي تعهد بها ممداني للمجتمع اليهودي بوصفه الأكثر تأثراً بهذه الجرائم وفقاً لادعائها، ممارسة ضغوطًا على إدارة ممداني قبل حتى أن تتولى مهامها بإتجاه الإقرار بأن معاداة الصهيونية هي جزء من معاداة السامية متفقة بذلك مع تعريف رابطة إحياء ذكرى الهولوكوست الجدلي لمعاداة السامية والذي يخلط بين اليهودية والصهيونية كوجهين لعملة واحدة.
مكاتب دينية مموهة لخدمة إسرائيل
من المنتظر أن يرث ممداني من سلفه آدامز إرثاً كبيراً فيما يتعلق بالمبادرات الدينية والمجتمعية؛ إذ يتبع لعمادة مدينة نيويورك مكتب “الإيمان والشراكة المجتمعية” الذي أسسه العمدة الحالي إريك آدامز في فبراير من عام 2022 لتعميق الشراكة بين المؤسسات الدينية المختلفة وإدارة مدينة نيويورك بهدف الوصول للفئات المجتمعية المهمشة وتقديم خدمات اجتماعية وحكومية لها. عمل المكتب على التعاون مع الكنائس ودور العبادة لتشجيع دورها بالرعاية للمهاجرين والفقراء والمعنّفين بشراكات وصلت قيمتها لـ1.5 مليون دولار أمريكي. لطالما كانت المؤسسات والكنس اليهودية والكنائس المسيحية أكبر المستفيدين من هذا المكتب تحت قيادة آدامز مع إلتفاتة متواضعة لهموم المسلمين في المدينة.
من المتوقع أن يكون هذا المكتب تحت قيادة ممداني محط أنظار المراقبين ومدخلاً لاتهامه بتثبيت الإسلام في المدينة وتفضيل مؤسسات ومساجد المسلمين في الخدمات وتمويل المشاريع. وهو ما بدأت مؤسسات وجهات إعلامية صهيونية تدق طبوله منذ اللحظة وقبل تولي ممداني لمنصبه مطلع يناير المقبل.
كما تشرف المدينة على عدة مبادرات للتقارب النظري بين الأديان منها برنامج “تشارك الخبز: بناء الصلات” والذي يجمع أتباع الأديان المختلفة على مائدة واحدة تتولى المدينة تمويلها. وقد بدأ العمدة الحالي آدامز هذا البرنامج عام 2023 بجمع عشرة أفراد، معظمهم من أطفال المدارس، يومياً من خلفيات دينية وثقافية مختلفة في المدينة على مائدة واحدة، مقدماً ألف وجبة بواقع 100 عشاء بالمحصلة بهدف معلن هو مقاربة وجهات النظر وتشجيع التفاهم والتسامح بين الأعراق والأديان المتنوعة في المدينة.
عمدة نيويورك، زهران ممداني يؤكد من جديد التزامه باعتقال نتنياهو في حال قام بزيارة مدينته. pic.twitter.com/DGw4YLRmJ4
— نون بوست (@NoonPost) November 18, 2025
بينما يشير واقع البرنامج لاستخدامه أداة للتثقيف حول معاداة السامية ويخلط بشكل سافر بين اليهودية والصهيونية بدعوى حماية وخدمة المجتمعات اليهودية في المدينة وكونها أكثر المجتمعات تعرضاً لإساءة الفهم بالتالي الإضطهاد. مرة أخرى يستتر العمدة آدامز الصهيوني بإمتياز تحت رداء الحريات الدينية لخدمة الصهيونية وأتباعها بقلبٍ ناعمٍ لوجهات النظر والآراء الممتعضة من حرب الإبادة في القطاع.
يُتوقع أن يسلك ممداني سبيلاً مخالفاً تماماً لما أرساه آدامز؛ فمن ناحية سيكون حريصاً على المساواة والعدالة بين أتباع الأديان المختلفة في المدينة ومن ناحية أخرى سيحرص كل الحرص على أن لا يستفيد الصهاينة من الخلط السافر بين اليهودية والصهيونية فيها.
وقد وضع مركز الحقوق والحريات الدستورية- فرع نيويورك أجندة لإدارة ممداني تتعلق بحقوق وحريات أتباع الأديان المختلفة في المدينة وكيفية إتفاق سياسات مكتب العمدة معها. ركّزت الأجندة على حماية كافة السكان من خلفيات دينية متنوعة وملفات هجرة متباينة دون أن يعمل على تمكين أتباع دينٍ بعينه دون غيرهم في المدينة؛ مؤكداً أن أموال المدينة لا يجب أن توضع لتثبيت أركان أي دين كان.
بينما ترى القس كلوي بريير، المديرة التنفيذية للمركز المشترك بين الأديان في مدينة نيويورك ICNY، أن إنتخاب ممداني يعتبر ركناً أساساً في محاربة التحيز والعنف وإنعدام الفهم لأتباع الدين الإسلامي في المدينة منبهة إلى أن إنتخاب عمدة مسلم في مدين شهدت أحداث الحادي عشر من سبتمبر قبل عقدين من الزمان كان يبدو مستحيلاً ومعتبرة أن إنتخابه أمر رائع ويجلب الأمل للولايات المتحدة.
اللعب مع الأفاعي
تبدو مهمة ممداني الأعقد فيما يتعلق بملف الحريات الدينية على صلة وثيقة بالصهيونية وحركة المناصرة الفلسطينية في المدينة خاصة في ظل الخلط المقصود والمتزايد بين اليهودية والصهيونية والإستتار بدثار معاداة السامية لقمع أي حركة نضال مجتمعي وحقوقي مناصر للفلسطينيين. هذا الملف هو الأخطر والأكثر الحساسية بين يدي ممداني الآن.
من المؤكد أن ممداني لن يسعى إلى صدام مباشر وحاد مع صهاينة نيويورك؛ فمن ناحية هناك الحساسية الدينية خاصة لليهود منهم وهي ما ستسلط الأضواء على كافة تحركات ممداني وسياساته القادمة، ومن ناحية ثانية يمسك صهاينة مدينية نيويورك بتلابيب اقتصادها فهم أهل وول ستريت والمدراء التنفيذيين لكبريات الشركات والمجموعات المالية والتكنولجية والتجارية، كما أن لهم تواجداً معتبراً في مواقع حساسةٍ في كونجرس وحكومة الولاية ومجلس المدينة وإداراتها المختلفة من أعلى مستوياتها نزولاً إلى أصغر الإدارات فيها، الأمر الذي سيعقد مهمة ممداني ويحكم عليها بالفشل حال وضع نفسه على صدام مباشر معهم.
فعلى سبيل المثال، أشاد ممداني برئيسة جهاز شرطة مدينة نيويورك الحالية جيسيكا تيسش، وهي يهودية صهيونية معروفة بمواقفها المؤيدة لإسرائيل. ورغم قدرة ممداني على استبدالها، حيث تقع سلطة التعيينات في جهاز شرطة المدينة ضمن صلاحياته، إلا أنه قرر الإحتفاظ بتيسش في موقعها في إشارة منه لعدم رغبته بخلق ململة مباشرة في نظام المدينة الحالي.
غير أن مواقف ممداني النارية الرافضة للصهيونية والتي دفعت بالكثير لانتخابه في ظل المقتلة المستمرة في قطاع غزة، والتغيرات الجذرية التي طالت المؤسسة السياسية والشارع الأمريكي منذ أحداث السابع من أكتوبر والرافضة عموماً لدور الولايات المتحدة المشارك والمتواطئ في حرب الإبادة، حيث شهدت المدينة أهم فصول هذه الملحمة، سيكون في عين العاصفة، وتخلي ممداني عنه سيعد نكصاً لعهدٍ حمله ضمن عوامل أخرى لسدة العمادة.
“فلسطين هي محكّ الاختبار الحقيقي”.. الكوميديان والكاتب الفلسطيني الأمريكي عامر زهر تعليقًا على فوز زهران ممداني في انتخابات عمدة نيويورك. pic.twitter.com/upn7cuUVsd
— نون بوست (@NoonPost) November 5, 2025
فممداني الذي حاصرته منصات التواصل ووكالات الأنباء بمواقفه من إسرائيل، والتي تخضع لقواعد الصوابية السياسية التي تتبناها المؤسسة الديمقراطية، كان واضحاً بعدم إيمانه بحق إسرائيل بالوجود كدولة يهودية وأن حقها بالمساواة والوجود يرتبط بالعدالة الإجتماعية والتعددية وحقوق الإنسان التي يكفلها القانون الدولي. كما أنه كان مباشراً بإضفاء صفة “الإبادة” على الحرب التي تقودها حكومة نتنياهو في قطاع غزة منذ السابع من اكتوبر وعليها تعهّد بإعتقال نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب إذا ما فكّر يوماً بزيارة نيويورك. وهي مواقف أفزعت الصهاينة في واشنطن قبل نيويورك وأطلقت بوق إنذار من إمكانية تجنيد مدينة مهمة ومعقلٍ بارز من معاقل الصهيونية لمحاربة فكرها.
ورغم مواقفه الأولى التي تعد نوعاً من الإنتحار السياسي برفض إدانة شعارات مثل “من البحر إلى النهر” و “الموت لجيش الدفاع” و “عولمة الإنتفاضة”، وهي عبارات أقرب إلى شخصية ممداني وخلفيته الفكرية، إلا أن تصريحات لاحقة لممداني هذّبت من حدّية تلك المواقف التي استخدمها خصومه لإلصاق كافة الإتهامات به من التماشي مع “حركات إرهابية” كحماس وتبني الفكر الجهادي، غير أن أهم هذه الإتهامات وأكثرها تأثيراً في بيئة المدينة: التحريض على العنف وتعريض أمن فئات مجتمعية واسعة في نيويورك للخطر. ليعود ممداني فيما بعد ويقول أن الشعارات المنادية بالموت لأي كان لن تكون مسموحة في نيويورك وأنه لن يستخدم عبارة عولمة الإنتفاضة مرة أخرى وسيعمل على التثبيط من استخدامها في المجال العام.
في الحادي عشر من ديسمبر الجاري اجتمع ممداني سراً بقيادة مجلس حاخامات مدينة نيويورك، بما فيهم أشدهم عداء لممداني بسبب إنتمائهم الصهيوني الحاخام إليوت كوسجروف والحاخام أميل هيرسيش، بهدف مناقشة مواقفه المعادية لإسرائيل والمناهضة للصهيونية. تعامل ممداني يمنتهى الدبلوماسية مع مجلس الحاخامات وألقى أذنه واستمع لمخاوفهم حتى وصفه الحاخامات ب”الإجتماع البناء والقريب من القلب” مشيرين إلى أن ممداني تحول فيما يبدو من لغة الحملات الإنتخابية النارية للغة الحكم العقلانية.
حاول ممداني تهدئة مخاوف الحاخامات ووعد بمتابعة الملفات المطروحة وأخذ قلقهم بجدية بفتح قنوات تواصل والترتيب لمزيد من اللقاءات، إلا أنّ تغيراً مباشراً أو ملحوظاً في مواقف ممداني المعلنة سابقاً من الصهيونية أو إسرائيل لم يحصل. ما حدا بهيرسش للقول انه قلق بشدة من السنوات الأربع القادمة وأن مخاوف الحاخامات لم تهدأ بعد اللقاء.
سفير حركة المقاطعة
دعم ممداني لحركة المقاطعة بي دي أس هي معضلة أخرى لصهاينة المدينة. إذ يخطط ممداني لإجراء تغييرات على مستوى الدعم الإقتصادي الذي تقدمه مدينة نيويورك لإسرائيل؛ فعلى سيبل المثال ينوي ممداني إلغاء المجلس الإسرائيلي النيويوركي الإقتصادي. والذي نتج عن تفاهم بين عمدة المدينة الحالي إيريك آدامز ووزارة الإقتصاد الإسرائيلية بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية، وتسهيل الشراكات التجارية بين البلدين في مجالي التكنولوجيا والتمويل، مع التركيز على قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المالية، والمناخ، بحيث يساعد مكتب العمدة الشركات الإسرائيلية على الوصول إلى سوق مدينة نيويورك وبالمقابل تفتح إسرائيل أسواقها لمنتجات ومشاريع المدينة.
كما أكد ممداني أنه سينهي استثمارات مدينة نيويورك في السندات الإسرائيلية واصفاً ما تقوم به صناديق التقاعد من تجارة بهذه السندات بأنها مخالفة للقانون الدولي. غير أنه أكد في الوقت عينه أنه لن يضغط بإتجاه تبني مطلق لسياسة حركة المقاطعة ضمن الشركات الخاصة في المدينة التي ستحتفظ بحرية العلاقات مع إسرائيل.
وقد استبق آدامز، الذي زار إسرائيل بعيد انتخاب ممداني في نوفمبر المنصرم وأشار إلى خدمته المستميتة لإسرائيل خلال فترة عمادته، مواقف ممداني المؤيدة لحركة المقاطعة بإصدار قرار مناهض لحركة المقاطعة في المدينة إضافة لحزمة قرارات تضيّق على المظاهرات والاحتجاجات أمام دور العبادة في المدينة بعد الإحتجاج الذي استهدف كنيس بارك سايد اليهودي نوفمبر الماضي.
وقد منع القرار الهيئات التابعة للعمادة وموظفي العمدة المسؤولين عن إجازة ومراجعة العقود من التمييز ضد إسرائيل أو الإسرائيليين أو أي جهة او فرد على صلة بإسرائيل. كما منع مقاطعة السندات وغيرها من الأصول المتصلة بإسرائيل أو التمييز ضدها.
مخلفات آدامز المؤيدة لإسرائيل والتي تشمل إقراره لتعريف رابطة إحياء ذكرى الهولوكوست لمعاداة السامية وتشكيل فريق مناوئ لمعاداة السامية ومجلس العلاقات الاقتصادية للمدينة مع إسرائيل وإستثمار السندات معها، ستشكل تحدياً شكلياً لممداني؛ فمن ناحية يملك ممداني سلطة فسخ هذه القرارات، لكنه يتعرض لمساءلة وضغط مجتمعي في ظل الخلط المقصود بين اليهودية والصهيونية في البلاد.
وبينما يُنتظر من ممداني أن ينهي قرارات بعينها كتلك المتعلقة بتعريف معاداة السامية، الذي يرفضه ممداني بشدة، وإستثمار السندات، سيكون من الصعب إتخاذ قرارات متعلقة بهيئات ومكاتب معاداة السامية وإن كان بالإمكان إعادة تعريف دورها وتوجيهها وفق سياسات أكثر إتفاقاً مع أجندة العمدة الجديد.
نتنياهو وراء القضبان
تعهد ممداني بسلطته على جهاز الشرطة في المدينة بتوجيه قواتها لاعتقال نتنياهو حال زيارته لمدينة نيويورك تنفيذاً لمذكرات الإعتقال التي أصدرتها محكمة الجنايات الدولية بحقه العام المنصرم بتهمة إرتكاب جرائم حرب في الأراضي المحتلة.
بالطبع هناك تحديات ستواجه قدرة ممداني على تنفيذ ذلك الوعد؛ فمن ناحية الولايات المتحدة ليست طرفاً في إتفاقية روما المؤسسة لمحكمة الجنايات الدولية، ومن ناحية أخرى يعد نتنياهو مسؤولاً دبلوماسياً أجنبياً يتمتع بحصانة على الأراضي الأمريكية بموجب قانونها الفيدرالي وهو ما أكدته حاكمة ولاية نيويورك كاثي هوشول بقولها أن ممداني لا يملك هكذا صلاحية.
وحتى الاختصاص العالمي الذي تتبنى الولايات المتحدة جانباً منه في قانون العدالة لضحايا جرائم الحرب والذي يتيح لها اعتقال المسؤولين الأجانب الضالعين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في الخارج وتقديمهم للمحاكمة على الأرض الأمريكية دون اعتبار لحصانتهم الدبلوماسية، لا يمكن لعمدة مدينة أمريكية تطبيقه بحيث يتطلب انخراطاً من الحكومة الفيدرالية وليس إدارة محلية كمكتب عمدة نيويورك.
وقد سارع عدد من الممثلين التشريعيين في الكونجرس بتقديم مشاريع قوانين تحرم المدن الأمريكية التي تحاول اعتقال قادة أعضاء حلف الناتو من التمويل الفيدرالي؛ استباقاً لأي محاولة من ممداني بإتجاه اعتقال مسؤولين إسرائيليين.
وقد اعتبر نتنياهو تهديد ممداني بأنه مزحة مؤكداً أنه ينوي زيارة المدينة قريباً وسيكون سعيداً بلقاء ممداني والتحاور معه حال غيّر الأخير من موقفه المعادي لإسرائيل.
المظاهرات في حرم الجامعات
واحد من الأسئلة المهمة حول أثر عمادة ممداني يتمركز حول حرية التجمع والمظاهرات والاحتجاجات في الجامعات وغيرها لمناصرة الفلسطينيين، علماً بأن ممداني وخلال دراسته في جامعة بودوين في نيويورك أسس فرعاً لحركة طلاب من أجل العدالة في فلسطين، وأيد مظاهرات الطلبة ربيع عام 2024، كما عمل دون كلل لصالح وقف إطلاق النار خلال فترة عمله في الجمعية التشريعية لنيويورك قبيل ترشحه لانتخابات العمادة ودخل في إضراب عن الطعام في سبيل ذلك.
الآن يعود سؤال احتجاجات الجامعات والمظاهرات في المدينة كسؤال لا شخصي وفلسفي ولكن كسؤال متعلق بالسياسة العامة وأمن المدينة وعلاقتها المتبادلة مع حرم وإدارات الجامعات الخاصة مثل جامعة نيويورك وجامعة كولومبيا اللتين شهدتا فصولاً مهمة من انتفاضة الطلبة 2024.
وقد تعهد ممداني باحترام حق الطلبة بالتعبير عن أنفسهم والتجمع السلمي الذي يكفله التعديل الأول في الدستور ومواجهة الاضطهاد والظلم الذي يتعرضون له في حرم الجامعات منتقداً موقف إدارة كولومبيا الذي أدى لاعتقالات وعنف في الحرم الجامعي العام الماضي.
ورغم أن العمدة لا يملك صلاحية مباشرة في التأثير على قرارات الجامعات بالفصل أو التأديب أو حفظ الأمن اليومي للحرم الجامعي؛ إلا أنه مكتبه يملك سلطة واسعة غير مباشرة من خلال صلاحية تحريك شرطة المدينة ووضع خطوط الأمن والنظام العامين وقرارات التمويل والموازنة وغيرها من الصلاحيات التي تؤثر بصورة غير مباشرة على قرارات الجامعات العامة والخاصة في المدينة. ما يشي بأن صراعاً سينشب بين رغبة ممداني بتوسيع حق التعبير للطلبة وإتاحة مساحات الإحتجاج لهم وبين ضغط واشنطن وجماعات اللوبي والمصالح في المدينة بدعوى حفظ الأمن والنظام وحماية يهود المدينة ومنع خطاب الكراهية الذي يستترون خلفه ويتباكون عليه.
ختاماً، فإن فترة عمادة ممداني التي ستبداً منذ الأول من يناير المقبل ولمدة أربع سنوات قادمة ستكون مليئة بالتحديات والضغوطات التي ستشكّل سياسة مدينة نيويورك وتوجهاتها لسنوات وربما عقود قادمة. وسيسعى خلالها كل طرف من أطراف اللعبة؛ سواء ممداني وفريقه ومؤيديه أو صهاينة المدينة ومن ورائهم واشنطن وجماعات الضغط، لتضييق ملعب الطرف الآخر وشلّ قدرته على التحرك والتأثير مع إحراز أكبر عددٍ من الأهداف المنشودة لتتحول المدينة من ساحة حكم محلية إلى ملعبٍ لصراعٍ عالمي على قيم المناصرة والعدالة والمساواة تكون فلسطين واحدة من أهم عناوينها.
