داخل غرفة صغيرة متصدعة تلفها الشوادر الزرقاء المرقعة، يضرب صفير الرياح مسقوفٌها من ألواح الزينقو المتهالك ومعه تصطك أسنان أسيل الجماصي من البرد وتصرخ والدموع تنساب على وجنتيها، قائلة: “ساعدوني رِجْلَي تجمدت وتيبست من البرد”. على وقع صراخها تجلب والدتها بطانية رمادية و تلفها حول رِجْلَها اليمنى التي تحتوي على شرايح بلاتين.
أسيل ناجية من مجزرة إسرائيلية قضت على والدها وشقيقاتها أثناء نزوحهما من حيّ الشجاعية شرق قطاع غزَّة وأبقتها تكتوي بنار فراقهم، وبإصابة أحدثت نزيف في رئتيها وبكسور في قدمها لم تجبرها شرائح البلاتين بعد!
تمسك الفتاة العشرينية طرف بطانيتها كما لو أنّه آخر ما يربطها بالحياة، وتحدثنا بنبرة ممزوجة بالألم: “البلاتين موجود في رِجليّ منذ إصابتي قبل عامٍ ونصف، وجوده منغّص حياتي؛ في الصيف والحرّ كأنّه كيّ بالنار، وفي الشتاء كرات ثلج تنخر في عظمي ولا أقوى على تحمّلها”.
تشارك قسمات الحزن وجه أسيل، وتضيف: “في الليل يزيد البرد والوجع، وبسقع كثير، أشعر بتجمّد البلاتين. أحاول تدفئة رِجليّ، من ارتداء بنطال داخلي وجوارب طويلة، وألفّهما بعدّة بطانيات. وعندما يزيد الألم ويتجاوز قدرة التحمل، أتناول مسكّنات لتخفيف الوجع قدر الإمكان”.
تفضح عيناها الوجع، وتقول: “في البداية كنت أتألم من البلاتين الخارجي لكونه ثقيلًا وكبيرًا جدًا، لم أكن قادرة على التعايش معه أو تقبّله، كان يقيّد حركتي في الجلوس والنوم والحركة”.
تخترق مسامير البلاتين العظم واللحم، وتؤدي إلى تهيّج الجسم وإصابته بالتقرّحات، وتسهّل وصول الميكروبات إلى العظم والتهابه، فضلًا عن المعاناة اليومية التي تسبّبها، سواء على صعيد النظافة الشخصية أو الملابس أو النوم.
تشاركنا والدتها الحديث: “لا تبرح أسيل غرفة نزوحها إلا إلى المشافي عبر كرسي متحرّك، بعد أن عجزنا عن إيجاد وسيلة مواصلات تقلّها. وحتى مع استبدال البلاتين الخارجي وتركيب البلاتين الداخلي، ترفض الخروج والالتحاق بالجامعة، رغم تفوّقها في الثانوية العامة”.

منذ نصف عام يعيش الشاب الثلاثيني عبد الله كامل طريح الفراش؛ لم يعدل ظهره، ولم يثنِ ركبته، ولا يتنقّل إلا على حمّالة الجرحى إلى غرف العمليات في مشافي شمال وجنوب قطاع غزّة.
يتنهّد عبد الله، ويضع يده على ساقه، ويحدّثنا: “في المجاعة كنت راكب توك توك، ومركّب عليه طالبي المساعدات، ورايحين على دوّار النابلسي لجلب كيس طحين لسدّ جوع خمسين فردًا من عائلتي. ولما انتزعت الكيس، كنت طاير من الفرحة بالحصول عليه. أوقفني أفراد العصابات وطلبوا تنزيل الكيس، رفضت، فانهالوا بالضرب على ساقي عدّة مرات. صرخت وفقدت الوعي، ونقلوني إلى مستشفى المعمداني”.
تمتدّ أسياخ البلاتين المزروعة في عظم فخذه حتى أسفل الركبة إلى خارج جسده. وقد تفتّت عظم ساقه على إثر الضربات، ما دفع الأطباء إلى تركيب بلاتين لوصل العظم، لمنحه فرصة أخرى للوقوف على ساقه مجددًا.
يواصل أهالي غزة كفاحهم للبقاء على قيد الحياة بين الأنقاض ومخيمات النزوح، في ظل انعدام أدنى مقومات الحياة، مع البرد والأمطار واستمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع. pic.twitter.com/K4fp6V1hep
— نون بوست (@NoonPost) December 27, 2025
يتنهّد الشاب الثلاثيني ويكمل حديثه: “خضعتُ لعدّة عمليات جراحية في المشافي، ولم يكن الكسر يلتئم بسبب المجاعة وسوء التغذية، وانقطاع الأغذية التي تحتوي على الكالسيوم، مثل الحليب والبيض واللحوم. وجاء الشتاء ليضاعف الألم ويزيد التيبّس في قدمي”.
ومع استمرار فصل الشتاء وانخفاض درجات الحرارة، يصبح الألم أكثر حدّة، إذ تتحوّل المثبّتات المعدنية (البلاتين) إلى مصدر مباشر للألم لفترات طويلة، في ظل غياب التدفئة والعلاج التأهيلي المناسب.
يصمت برهة ثم يقول: “في هذا البرد والرطوبة، أشعر بماسٍّ كهربائي يقرص وينخر عظامي، وبرودة قاتلة. أحاول التدفئة من خلال لفّها بالبطانيات، وشراء المسكّنات القوية كي لا أشعر بالألم”.
ارتفعت حصيلة ضحايا الإبادة الإسرائيلية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 70 ألفًا و945 شهيدًا، و171 ألفًا و211 مصابًا، وفق وزارة الصحة في غزّة.
ويقول صقر شمالي، رئيس قسم جراحة العظام في مستشفى القدس: “منذ بداية فصل الشتاء يعاني المصابون من برودة وآلام شديدة في أماكن تركيب البلاتين، وكونه جزءًا معدنيًا فإنه يتأثر بالحرارة والبرودة، وعند التعرّض للبرد تنتقل البرودة إلى العظام وترافقها آلام، وهي شكوى دائمة لدى المصابين”.
وزارة الصحة في غزة تعلن عن وصول عدد ضحايا الإبادة الجماعية في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 إلى 70,937 شهيدًا و 171,192 جريحًا. pic.twitter.com/1n5HG1f9VJ
— نون بوست (@NoonPost) December 23, 2025
يحدّثنا استشاري العظام: “إن الأطباء يلجؤون إلى استخدام جهاز البلاتين لتثبيت كسور العظام مؤقتًا إلى حين استقرار منطقة الكسر. يُوضع البلاتين لتثبيت الكسور في حالات الطوارئ، وعندما يكون الجرح مفتوحًا وهناك كسر في العظمة نلجأ إلى البلاتين الخارجي لكونه أسهل وأسرع، بينما يعتمد البلاتين الداخلي على كون الإصابة مغلقة وغير مصحوبة بجروح، ويُستخدم بشكل مبدئي في هذه الحالات”.
ويضيف: “تؤدي أجهزة البلاتين عمومًا إلى حدوث التهابات حول المسامير التي تدخل من الجلد إلى العظم، كما قد تتسبّب بتيبّس في المفاصل وضعف في العضلات”.
ويستكمل: “لكل منطقة في عظام الإنسان نوع وشكل من البلاتين المناسب، لكننا نستخدم البلاتين البسيط ونعدّله بما يتلاءم مع عظم المصاب، ويتم إعادة استخدامه بعد تعقيمه ونقله من مصاب إلى آخر”.
وعن صعوبة التئام الكسور واستغراقها وقتًا طويلًا في التعافي، يجيب لـ”نون بوست”: “المجاعة وسوء التغذية الصحية، وانعدام المواد الغذائية ذات القيم البنّاءة، تؤثر بشكل مباشر على التئام العظام وإعادة بنائها”.
ويختتم رئيس قسم جراحة العظام حديثه قائلًا: “نناشد بإنقاذ الوضع الصحي في قطاع غزّة، حيث نواجه نقصًا وشحًّا كبيرين في مواد التخدير ومسكنات الألم، حتى الشاش المعقّم غير متوفر في غرف العمليات، وهناك آلاف المرضى بحاجة ملحّة للتحويل للعلاج في الخارج، لعدم توفر الإمكانات اللازمة لإنقاذهم”.