في جلسة وُصفت بالتاريخية، صوت المجلس الشعبي الجزائري (الغرفة الأولى للبرلمان) بالإجماع على قانون يُجرّم الاستعمار الفرنسي الذي استمر أكثر من 130 سنة بين عامي 1830 و1962، ويعدّه “جريمة دولة”.
وقف النواب نهاية ديسمبر/كانون الأول 2025، مرتدين أوشحة بألوان العلم الجزائري يهتفون “تحيا الجزائر” عقب إقرار القانون، الذي يحمّل فرنسا المسؤولية القانونية عن ماضيها الاستعماري ويطالبها باعتذار رسمي وتعويضات عن حقبة الاحتلال.
ومن المقرر أن يحال القانون إلى مجلس الأمة (الغرفة الثانية للبرلمان) للمصادقة عليه، قبل نشره في الجريدة الرسمية إيذانًا بدخوله حيز التنفيذ، فما أبرز بنود القانون ولماذا أُقرّ الآن؟ وما تبعاته على العلاقات الثنائية؟
أبرز بنود القانون الجديد
يرسم القانون الجديد إطارًا شاملًا لتجريم الحقبة الاستعمارية الفرنسية، متضمنًا 27 نوعًا من الجرائم ارتُكبت إبان تلك الفترة، وأبرزها:
- التجارب النووية في صحراء الجزائر
- قتل المدنيين والإعدامات خارج القانون
- التعذيب الجسدي والنفسي المنهجي
- التهجير القسري
- التجنيد الإجباري
- مصادر الممتلكات
- حرمان السكان من التعليم
- تدنيس دور العبادة
- النهب المنظّم للموارد والثروات
كما يؤكد أنّ التعويض الكامل والعادل عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن الاستعمار، حقّ غير قابل للتصرف للشعب والدولة في الجزائر، وإلى جانب ذلك، يلزم القانون الجانب الفرنسي بما يلي:
- تنظيف مواقع التجارب النووية التي أجرتها في الستينيات بالصحراء الجزائرية وتسليم خرائط المناطق الملوثة إشعاعيًا.
- إعادة الأرشيف الوطني وجميع الممتلكات والرفات الجزائرية المنهوبة خلال الفترة الاستعمارية.
- الاعتذار الرسمي ودفع تعويضات عن جرائم فترة الاستعمار.
وعلى الصعيد العقابي، يُجرّم التشريع تمجيد الاستعمار الفرنسي أو تبريره أو الترويج له بأي شكل من الأشكال – سواء عبر الأفعال أو الكتابات أو المقاطع المرئية – باعتبار ذلك مساسًا بالذاكرة الوطنية. ويعاقب كل من يدان بذلك بـ:
- السجن من 5 إلى 10 سنوات.
- غرامة مليون دينار جزائري (نحو 7700 دولار).
- إسقاط الحقوق المدنية والسياسية عن المدانين.
لماذا أُقرّ القانون الآن؟
يأتي إقرار هذا القانون في سياق متوتر تمرّ به العلاقات الجزائرية-الفرنسية تصاعد خلال العامين الأخيرين.
1- قضية الصحراء الغربية
بلغ التأزم ذروته منذ يوليو/تموز 2024 عندما اعترفت باريس بخطة المغرب لمنح الحكم الذاتي في إقليم الصحراء الغربية تحت سيادته.
شكل الاعتراف صدمة بالجزائر التي تدعم بقوة “حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير” وتؤوي قيادة جبهة البوليساريو المطالبة باستقلال الإقليم.
ورأت الجزائر في موقف باريس انحيازًا للطرف المغربي، مما أدى إلى أزمة دبلوماسية حادة بين البلدين.
2- ذاكرة الاستعمار
علاوة على ذلك، يرتبط طرح القانون أيضًا بسياق تاريخي أوسع يتعلق بذاكرة الاستعمار، فهذه ليست المرة الأولى التي يُناقش فيها تجريمه.
- ظهرت أول مبادرة بهذا الشأن سنة 1984 ثم تجددت عدة مرات، لكنها باءت بالفشل جميعها قبل الوصول لمرحلة التصويت.
- أبرز المحاولات جاءت أوائل الألفية الجديدة ثم عام 2007 كرد فعل على قانون فرنسي عام 2005 يمجّد الاستعمار.
- طُرح مشروع مشابه عام 2011، وتقدمت مجموعة نواب عام 2021 بمسودة قانون، لكنها لم تُعتمد آنذاك من البرلمان أو الحكومة.
ويُعزى تعثر الجهود السابقة إلى اعتبارات سياسية ودبلوماسية؛ إذ حرص الرؤساء السابقون خاصة عبد العزيز بوتفليقة، على تفادي صدام مباشر مع باريس حفاظًا على التعاون الاقتصادي والأمني أو طمعًا في اعتذار وتفاهم بالطرق التفاوضية بدل التشريعات.
واستمرت الحالة كذلك إلى أن جاءت الفرصة المواتية بعد 2019 في ظل متغيرات داخلية وخارجية جديدة، فالحراك الشعبي الذي أطاح بالعهد البوتفليقي أفرز طبقة سياسية أقل اكتراثًا بـ“إرضاء” فرنسا وأكثر انسجامًا مع نبض الشارع المطالب بالكرامة الوطنية.
كما أن تراجع النفوذ الاقتصادي الفرنسي بالجزائر في السنوات الأخيرة – بفعل تنويع الشراكات مع قوى دولية أخرى – جعل البلاد أكثر جرأة في طرح ملفات الذاكرة العالقة.

تأثير القانون على العلاقات
صدور قانون تجريم الاستعمار شكّل فصلًا جديدًا من التوتر في علاقة متأزمة أساسًا بين الجزائر وفرنسا، وسارعت باريس إلى التنديد رسميًا بالخطوة؛ حيث اعتبرتها وزارة الخارجية “مبادرة عدائية بشكل جلي” تجاه رغبة استئناف الحوار الثنائي.
وأكد بيان الخارجية الفرنسية أن هذه الخطوة تعرقل جهود المصالحة الهادئة في ملف الذاكرة، مشددة على أنها ستواصل السعي لإطلاق حوار صارم مع الجزائر “يخدم مصالح البلدين” في قضايا ذات أولوية مثل الأمن والهجرة.
وحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سابقا احتواء التدهور بالحديث عن “ضرورة تبني علاقات هادئة” بين البلدين عبر تصحيح الأخطاء المتراكمة.
وذكّر ماكرون في تصريحات الشهر الماضي أن هناك أطرافًا في فرنسا والجزائر تسعى لتوظيف الماضي كقضية مزايدة سياسية داخلية. وحذر أنه إذا هيمن هؤلاء “المتطرفون من الجانبين” على أجندة العلاقات، فلن تكون هناك فرصة لتحقيق تقدم.
وعلى الرغم من هذه الدعوات للتهدئة، تُحمّل الجزائر الجانب الفرنسي مسؤولية التصعيد الأخير، إذ صرّحت خارجيتها بأن باريس اختارت نهج التهديد والإملاءات بدل الحوار، مؤكدةً رفضها القاطع “لأي ضغوط أو ابتزاز” فرنسي.
وإلى جانب قانون تجريم الاستعمار، شهد البلدان سلسلة إجراءات متبادلة عمّقت الفجوة بينهما، أبرزها:
- باريس لوّحت بمراجعة الاتفاقيات الثنائية، واتخذ برلمانها في أكتوبر/تشرين الأول 2025 خطوة غير مسبوقة عندما صوّت بأغلبية صوت واحد على إدانة اتفاقية 1968 التي منحت الجزائريين امتيازات خاصة في الإقامة والعمل بفرنسا.
- اعتُبر ذلك التصويت الذي قاده اليمين المتطرف “انتصارًا تاريخيًا” لحزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان، ما يعكس استغلال التيار اليميني الفرنسي للتوتر مع الجزائر للمطالبة بتشديد سياسات الهجرة تجاهها.
- في المقابل، ردّت الجزائر بإلغاء اتفاقية إعفاء التأشيرات للدبلوماسيين الفرنسيين وفرض تأشيرة دخول عليهم، إلى جانب إنهاء تسهيلات خاصة كانت تتمتع بها السفارة الفرنسية في الجزائر.
التداعيات الداخلية وردود الفعل
داخل الجزائر، قوبل إقرار القانون بترحيب شعبي ورسمي واسع باعتباره انتصارًا للذاكرة الوطنية ووفاءً لدماء الشهداء، ووُصفت لحظة التصويت تحت قبة البرلمان بأنها “تاريخية” وضعت حدًا لسنوات من الجدل حول هذا التشريع.
وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، عبّر جزائريون كثر عن ابتهاجهم بما تحقق. وقال أحد المعلقين: “هذا القانون ضد ماضي فرنسا الأسود، وليس الشعب الفرنسي.. لا نريد سوى حق شهدائنا”. ورأى آخرون أن التاريخ “يتكلم اليوم تحت قبة البرلمان” وأن الجزائر “يستحيل أن تفرّط في ذاكرتها”.
وتعالت الدعوات أيضًا إلى استكمال المعركة على الصعيد الثقافي والتخلص من أي تبعية ثقافية متبقية للإرث الفرنسي، معتبرين أن “أكبر جريمة (استعمارية) هي تهميش اللغة العربية” لصالح نظيرتها الفرنسية.
أما السلطات الجزائرية، فقد أكدت أن القانون لا يستهدف الانتقام أو الكراهية بل يهدف لترسيخ حقيقة تاريخية وإنصاف الضحايا. واعتبر نواب ومجاهدون سابقون أن تقنين إدانة الاستعمار يكتسي طابعًا رمزيًا ومؤسسيًا مهمًا في الداخل الجزائري.
فهو يضع الإطار القانوني لحماية الذاكرة الوطنية من التشويه أو التزييف، ويبعث رسالة طمأنة لجيل الاستقلال وأسر الشهداء بأن تضحياتهم لن تُنسى، بل سيتم الدفاع عنها بنصوص ملزمة.
مع ذلك، يثير القانون تساؤلات حول كيفية تطبيقه عمليًا داخل الجزائر. فبنوده العقابية قد توجِد تحديات أمام حرية التعبير إذا أسيء استخدامها ضد أصوات معارضة بدعوى “المساس بالذاكرة الوطنية”.
لكن المؤيدين يؤكدون أن المستهدف الحقيقي هي فرنسا، مستشهدين باستمرار بعض الأطراف هناك في الادعاء بوجود “جوانب إيجابية” للاستعمار.