تدخل سوريا مرحلة اقتصادية جديدة مع الإعلان عن موعد إطلاق العملة الوطنية الجديدة في الأول من كانون الثاني/يناير 2026، وهي خطوة مفصلية في مسار الإصلاح النقدي تهدف إلى حذف الأصفار من الليرة السورية وإعادة هيكلتها. وقد أوضح حاكم مصرف سورية المركزي عبد القادر الحصرية، في تصريحاته مؤخراً، أن عملية الاستبدال ستكون سلسة ومرنة عبر شبكة واسعة تضم 66 شركة وألف منفذ مخصص لتبديل العملة، بما يضمن وصولها إلى جميع المواطنين في مختلف المحافظات.
وأشار الحصرية إلى أن الإصدار الجديد سيبدأ بستة فئات نقدية هي: 5، 10، 25، 50، 100، و500، بحيث تعادل الليرة الجديدة مئة ليرة قديمة، فيما تعادل الـ500 ليرة جديدة خمسين ألف ليرة قديمة، مؤكداً أن ذلك يسهم في تسهيل حمل النقود وتبسيط العمليات الحسابية دون أي تغيير في القيمة الفعلية للكتلة النقدية. كما شدد على أن العملة الجديدة ستتمتع بمزايا أمنية حديثة، إضافة إلى ميزات خاصة لضعيفي البصر والمكفوفين، وأن حذف الأصفار لن يؤثر على القيمة الشرائية المباشرة لليرة، بل يقتصر على تعديل القيمة الاسمية، مع إعادة فتح فروع المصرف المركزي في جميع المحافظات، بما فيها إدلب.
من جانبه، أكد النائب الأول لحاكم المصرف المركزي مخلص الناظر، في تصريحات، أن حذف الأصفار ليس تغييراً في القوة الشرائية للعملة، بل محاولة لإعادتها إلى مكانها الطبيعي في حياة الناس، وخطوة لتنظيم التعامل اليومي لتصبح الأسعار أوضح والحسابات أسهل والثقة أقرب، وأضاف أن الليرة الجديدة ليست مجرد ورقة نقدية أو أرقام نتعامل بها، بل هي “تعب الناس وذاكرة البيوت وحكايات الأسواق وأمان الغد”، مشدداً على أن المشروع لا يُدار بالقرارات الإدارية وحدها، بل بالاستقرار والانضباط والصدق مع المواطنين، كما أوضح أن العمل على هذا المشروع يتم بهدوء وبمسؤولية وبمرحلية، بما يضمن مرور المرحلة الانتقالية بسلاسة، وحفظ حقوق المواطنين وأجورهم ومدخراتهم والتزاماتهم دون أي مساس.
وبينما يرى الحصرية أن الإصدار الجديد سيُسهم في تعزيز الثقة بالليرة السورية عبر آلية واضحة وشفافة، يؤكد الناظر أن هذه الخطوة ليست حلاً سحرياً سريعاً، بل جزء من طريق طويل لإعادة بناء الثقة التي تُعد أساس أي اقتصاد وأي مستقبل.
ومع بدء العد التنازلي لإطلاق العملة الجديدة، يترقب المواطنون والقطاع المصرفي هذه العملية بوصفها مرحلة مفصلية في مسار الإصلاح الاقتصادي وإعادة بناء الثقة بالعملة الوطنية، لكن تبقى الأسئلة الكبرى مطروحة: هل سيكون لهذه الخطوة أثر مباشر على سعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة لسعر الصرف في المرحلة المقبلة؟ وكيف ستنعكس عملية حذف الأصفار على ودائع المصارف وآلية عملها؟
ثلاثة سيناريوهات لسعر صرف الليرة
الخبير الاقتصادي إيهاب إسمندر، قال في تصريحه لـ”نون بوست”، إن مستقبل سعر صرف الليرة السورية بعد حذف الأصفار يمكن أن يتوزع على ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
السيناريو التفاؤلي: “إذا ترافق حذف الأصفار مع حزمة إصلاحات جدية تشمل ضبط المعروض النقدي، وخفض العجز المالي، ودعم الإنتاج المحلي والتصدير، واستقرار أمني شامل، يمكن أن نشهد استقراراً نسبياً وتحسناً في سعر الصرف، لكن وفق المعطيات الراهنة، هذا السيناريو مستبعد”، بحسب إسمندر.
السيناريو التشاؤمي: “في حال غياب الإصلاحات الاقتصادية الجدية وفقدان الثقة بالإجراءات النقدية، سيتحول الناس إلى التعامل بالدولار أو الذهب أو عملات قابلة للتحويل، ما يعني تراجعاً مستمراً في قيمة الليرة حتى فقدان وظائفها وخروجها من التداول الفعلي”.
View this post on Instagram
السيناريو المحايد: “الأكثر احتمالاً هو أن تقتصر الإصلاحات على خطوات متحفظة غير شاملة، دون زيادة الإنتاج أو تحسين ميزان المدفوعات، مما يجعل حذف الأصفار مجرد وسيلة لتسهيل المعاملات المحاسبية والرقمية فقط، دون تغيير جوهري في سعر الصرف”.
وأكد إسمندر أن “التعديل الشكلي يتحول إلى واقع إذا اقتصر على تغيير الوحدات النقدية دون معالجة أسباب التضخم الأساسية، مثل عجز الموازنة الممول بالإصدار النقدي، وضعف الإنتاج المحلي، ونقص العملة الصعبة”، وأضاف أن الثقة قد تتحسن بشكل مؤقت لأسباب نفسية إذا ترافق الإجراء مع ضخ مدروس للسيولة الجديدة وتوفير السلع الأساسية، لكن “الثقة الدائمة بالليرة السورية الجديدة تحتاج إلى استقرار اقتصادي شامل طويل الأمد”.
وعلى المدى القصير، قال إسمندر: “قد يواجه الناس صعوبة في تقبل الأسعار الجديدة، مع احتمالية ارتفاعها بسبب تقريب القيم لأعلى، ما قد يؤدي إلى اضطراب مؤقت وتراجع القوة الشرائية إذا لم يُضبط الإصدار النقدي”.
أما على المدى المتوسط، فأوضح: “إذا رُوّج للعملة الجديدة كعملة قوية مع ضبط الإصدار النقدي، يمكن أن تتحسن الثقة وتنخفض التوقعات التضخمية، لكن استمرار الأسباب الهيكلية للتضخم سيبقي القوة الشرائية في مسار انحداري”.
وأشار إسمندر إلى أن سوريا ليست أول دولة تحذف أصفاراً من عملتها، مستشهداً بتجارب تركيا (2005) التي نجحت بفضل إصلاحات مسبقة واستقلالية البنك المركزي، وزيمبابوي (2008–2009) التي فشلت بسبب استمرار طباعة النقود بلا غطاء، وإيران (2019–2020) التي حققت نتائج مختلطة بسبب العقوبات والتضخم. وأضاف: “النجاح لا يرتبط بحذف الأصفار بحد ذاته، بل بمصداقية السياسات الاقتصادية المصاحبة”، محذرًا إسمندر من أن “غياب الإصلاحات الحقيقية قد يؤدي إلى تضخم أسرع، وفقدان كامل للثقة، وتكريس سيطرة السوق الموازية، واتساع الفجوة الطبقية، وصولاً إلى انهيار محتمل للعملة الجديدة خلال فترة قصيرة”.
وختم إسمندر بالتأكيد على ضرورة “ضخ كمية مضبوطة من العملة الجديدة عبر قنوات رسمية، وتحديد سعر صرف واقعي قريب من السوق الموازية، وتسهيل الوصول إلى العملة الصعبة، مع حملات تفتيش وتوعية إعلامية واسعة، وتعزيز المدفوعات الرقمية، وإصلاح النظام المصرفي لجذب الودائع”، مشدداً على أن نجاح التجربة مرهون ببيئة السياسات الكلية ومصداقية المؤسسات النقدية.
رؤية مصرفية
منير هارون، الرئيس التنفيذي لبنك بيمو السعودي الفرنسي للتمويل الأصغر، أكد في تصريح خاص لـ”نون بوست”، أن خطوة حذف الأصفار وإطلاق العملة السورية الجديدة تُقرأ في المصارف الخاصة على أنها فرصة وتحدٍّ في آن واحد، موضحاً أن ترجيح الكفة بينهما يعتمد على طريقة التنفيذ ومستوى الجاهزية المؤسسية والاقتصادية.
وأوضح أن هذه الخطوة تمثل فرصة لتبسيط العمليات المحاسبية والمالية، حيث أن تقليص عدد الأصفار يسهل التسعير وإعداد التقارير ويقلل من الأخطاء التشغيلية، كما أنها تعزز الثقة النفسية بالعملة الجديدة باعتبارها إشارة رمزية على بداية مرحلة إصلاح واستقرار، وأضاف أن الإصدار الجديد يتيح تحديث الأنظمة المصرفية وتوحيد المعايير وتسريع التحول الرقمي، فضلاً عن تحسين الكفاءة التشغيلية من حيث تخفيض تكاليف الطباعة والعدّ والتخزين والنقل على المدى المتوسط.
حاكم المصرف المركزي عبد القادر الحصرية خلال المؤتمر الصحفي للإعلان عن التعليمات التنفيذية للعملة السورية الجديدة:
📌 العملة الجديدة تشكل بداية جديدة لمستقبل الاقتصاد السوري وفق معايير مهنية ومسؤولة
📌نؤكد استقلال المصرف المركزي لحماية الاقتصاد الوطني
📌معيار عملية استبدال… pic.twitter.com/n3k2eTPbVp
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 28, 2025
في المقابل، شدد هارون على أن التحديات لا تقل أهمية، إذ يتطلب الأمر جاهزية تقنية وتشغيلية عالية، تشمل تحديث الأنظمة المصرفية والتطبيقات وأجهزة الصراف ونقاط البيع خلال فترة زمنية قصيرة. كما أن إدارة المرحلة الانتقالية بين العملة القديمة والجديدة تفرض مخاطر محاسبية وتشغيلية وتحتاج إلى ضوابط دقيقة، فيما قد تؤدي المخاوف السلوكية والتضخمية إلى سوء فهم الخطوة إذا لم ترافقها سياسات اقتصادية داعمة وتواصل فعال مع الجمهور. وأكد أن نجاح العملية مرتبط بتدريب الموظفين وتوعية العملاء لتجنب الالتباس أو الاستغلال.
وأشار هارون إلى أن المصارف الخاصة تلعب دوراً محورياً في تعزيز الثقة بالعملة الجديدة، باعتبارها حلقة الوصل اليومية بين العملاء والنظام النقدي، وأوضح أن هذا الدور يتجسد عبر التواصل والتوعية، من خلال شرح واضح ومبسّط لمفهوم العملة الجديدة وآلية التحويل والقيم المكافئة والفترة الانتقالية، وطمأنة العملاء على ودائعهم والتزاماتهم، إضافة إلى استخدام القنوات المختلفة مثل الفروع والتطبيقات والرسائل النصية ووسائل التواصل الاجتماعي لتقديم رسائل متكررة ومتسقة، كما شدد على أهمية التنفيذ السلس والدقيق، وضمان استمرارية الخدمات دون انقطاع، ووضوح التسعير خلال المرحلة الانتقالية، مؤكداً أن القدوة المؤسسية والاستجابة السريعة للشكاوى تعزز الثقة وتمنع أي ممارسات استغلالية.
وكشف هارون أن جميع أنظمة الدفع والتحويل في البنك تم تحديثها واختبارها بشكل كامل ومواءمتها مع تعليمات مصرف سورية المركزي، وهي جاهزة للتطبيق فور بدء عملية الإطلاق. وأضاف أن حسابات العملاء لن تتغير إلا من ناحية حذف الأصفار، حيث ستبقى الأرصدة كما هي من حيث القيمة الفعلية، وسيتم تحويلها تلقائياً إلى العملة الجديدة، مؤكداً أن البنك سيعمل مع المصرف المركزي على تلبية طلبات السحب أو الاستبدال بما يضمن نجاح العملية وزرع الطمأنينة بالعملة الجديدة ودعم إعادة الثقة بالقطاع المصرفي.
وأوضح هارون أن خطة التوعية يجب أن تكون على المستوى الوطني لتجنب تضارب الرسائل بين المصارف، مشيراً إلى أن مصرف سورية المركزي والوزارات ذات الصلة أعدوا خطة إعلامية شاملة سترافق عملية إطلاق العملة الجديدة لتوضيح أن حذف الأصفار لا يعني انخفاض الأسعار، بل هو تغيير شكلي في القيمة الاسمية، وأضاف أن التنفيذ الصحيح والشفافية في التعامل مع الجمهور، إلى جانب استقرار خدمة الاستبدال، سيحول العملية من مصدر قلق إلى تجربة انتقال آمنة تعزز الثقة بالقطاع المصرفي.
وفي ما يتعلق بتأثير الخطوة على حجم الإيداعات والسحوبات، أكد هارون أن حذف الأصفار بحد ذاته لن يؤدي إلى تغيير جوهري في حجم الودائع على المدى المتوسط والطويل، مشيراً إلى أن التأثير المحتمل سيكون قصير الأجل ونفسي الطابع. ورأى أن الإدارة الجيدة للمرحلة الانتقالية كفيلة بتحويل هذا التحدي إلى اختبار ثقة ناجح يعزز استقرار القطاع المصرفي بدل أن يضعفه، وأن المصارف الخاصة التي تستبق الحدث بالتواصل والجاهزية ستكون الأقل تأثراً والأكثر قدرة على الحفاظ على ثقة عملائها.
وحول المخاطر المحتملة، أوضح هارون أن عملية الاستبدال مركبة ومرتبطة بمستويات متعددة، لذلك تم التنسيق بين المصرف المركزي وجميع المصارف العاملة في سوريا لإطلاق مصفوفة تحدد المخاطر المحتملة وآليات العمل لتخفيفها ومعالجتها، وأكد أن هذه الخطوة ستفتح الباب أمام منتجات مالية إلكترونية وخدمات دفع جديدة لم تكن موجودة سابقاً في السوق السوري، مشيراً إلى دخول شركتي فيزا وماستر كارد إلى السوق المصرفي السوري مؤخراً كإشارة على بداية تحول نوعي.
وختم هارون بالتأكيد على أن المستثمرين لا ينظرون إلى العملة الجديدة كعامل مستقل، بل يقيمون استقرار سعر الصرف والسياسات النقدية، والإطار القانوني والتنظيمي، وقدرة المصارف على تحويل الأرباح وإدارة المخاطر، ووضوح الرؤية الاقتصادية على المدى المتوسط والطويل. واعتبر أن وجود انضباط نقدي وإصلاح مؤسسي، وتحسين الشفافية وقابلية التحليل المالي، وتعزيز كفاءة القطاع المصرفي، كلها عناصر تجعل من العملة الجديدة رسالة جدية في تنظيم السياسة النقدية وتحسين بيئة الأعمال، وتزيد من جاذبية السوق للمستثمرين.
نهاية القول
تبدو خطوة حذف الأصفار وإطلاق العملة السورية الجديدة حدثاً اقتصادياً مفصلياً يحمل في طياته فرصاً وتحديات متشابكة، فبينما تراها السلطات النقدية وسيلة لإعادة تنظيم النظام المالي وتبسيط التعاملات اليومية، يؤكد خبراء الاقتصاد أن نجاحها لن يقاس بالتصميم الجديد أو بالقيمة الاسمية، بل بمدى قدرة السياسات النقدية والمالية على ضبط التضخم، تعزيز الإنتاج المحلي، وتوفير بيئة مستقرة وآمنة.
تصريحات حاكم المصرف المركزي ونائبه، إلى جانب آراء الخبراء والمصرفيين، تكشف أن هذه الخطوة ليست مجرد تغيير شكلي، بل اختبار حقيقي لمصداقية المؤسسات النقدية وقدرتها على إدارة المرحلة الانتقالية بثقة وشفافية، وحتى ذلك الحين، يظل حذف الأصفار أداة فنية محايدة، والرهان الأكبر على البيئة الاقتصادية والسياسية التي ستحتضن هذه التجربة النقدية.