يبدو أن اليمن يقف على أعتاب منعطف جيوسياسي جديد، تعاد فيه صياغة خرائط النفوذ وتوازنات القوة، في ظل تسارع التطورات السياسية والعسكرية التي يشهدها الجنوب، عقب المحاولات المستميتة للمجلس الانتقالي الجنوبي – المدعوم إماراتيًا وإسرائيليًا – لفرض واقع سلطوي جديد، عبر السيطرة على محافظات الجنوب والجنوب الشرقي.
وخلال أيام قليلة منذ بداية هذا الشهر، نجح المجلس في توسيع رقعة نفوذه لتشمل محافظة حضرموت ومناطق واسعة من شرق البلاد، وصولًا إلى مدينة عدن، التي مثلت على مدار عقد كامل العاصمة المؤقتة ومقر الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.
وما أن خرجت عدن فعليًا من قبضة الحكومة، ومغادرة معظم القيادات السياسية والعسكرية، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء ورئيس مجلس القيادة الرئاسي، دخلت اليمن مرحلة فراغ مؤسسي غير مسبوق، أتاح للمجلس الانتقالي إحكام سيطرته شبه الكاملة على مفاصل القرار في الجنوب.
ويزداد المشهد تعقيدًا مع التصعيد اللافت في الخطاب الانفصالي للمجلس، الذي لم يعد يتوارى خلف عناوين الشراكة أو تقاسم السلطة، بل بات يعلن صراحة سعيه لإحياء مشروع “دولة الجنوب”، في تطور ينذر بفتح فصل جديد من الصراع اليمني، لا يقتصر على أبعاده الداخلية، بل يمتد ليطال التوازنات الإقليمية وحسابات النفوذ في منطقة شديدة الحساسية.
هذه التحولات أعادت تحريك بقية قطع الشطرنج على الرقعة اليمنية، حيث تخلت الرياض نسبيًا عن سياسة ضبط الإيقاع من الخلف والاكتفاء بالمراقبة من الخارج، لتدخل مباشرة إلى قلب الأزمة، في خطوة تعكس تحولًا واضحًا في المقاربة السعودية، من إدارة توازنات دقيقة بين الفاعلين المحليين، إلى توجيه رسائل سياسية وعسكرية حاسمة، مفادها رفض فرض مشاريع أحادية كأمر واقع، وإعادة رسم المشهد بالقوة.
تطورات متسارعة
في الثاني من ديسمبر/كانون الأول، شنّ المجلس الانتقالي الجنوبي هجومًا عسكريًا مفاجئًا تحت مسمى عملية “المستقبل الواعد”، مستهدفًا فرض سيطرته الكاملة على الجنوب، وخلال أيام قليلة، وتحديدًا بحلول الثامن من الشهر ذاته، كان المجلس قد بسط نفوذه فعليًا على معظم محافظات الجنوب، بما في ذلك عدن، العاصمة الجنوبية السابقة، ومحافظة حضرموت، أكبر محافظات اليمن مساحةً والغنية بالموارد النفطية، إلى جانب محافظة المهرة ذات الأهمية الاستراتيجية.
وأفضت هذه التحولات الميدانية إلى ارتدادات سياسية سريعة، إذ اضطرت حكومة رئيس الوزراء اليمني المعترف به دوليًا، سالم بن بريك، وعدد من كبار المسؤولين، وتحت ضغط مباشر من قيادات المجلس الانتقالي، إلى مغادرة البلاد باتجاه الرياض، ومع هذا الخروج، دخل الجنوب مرحلة فراغ مؤسسي واضح، سعى المجلس الانتقالي إلى ملئه عبر توسيع قبضته على مفاصل السلطة.
تتوالى تصريحات عدد من الوزراء والمحافظين والمسؤولين في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، التي يعلنون فيها تأييدهم لانقلاب المجلس الانتقالي بقيادة عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا.
📍وزراء يؤيدون انفصال الجنوب اليمني.. هل أصبحت دولة الوحدة على… pic.twitter.com/KQo6r8j18C
— نون بوست (@NoonPost) December 27, 2025
وفي العشرين من الشهر، وبعد أن أحكم المجلس سيطرته الميدانية على الجنوب، شهدت محافظات عدن وأبين وحضرموت والمهرة تظاهرات حاشدة رفعت شعار “الاستقلال الكامل للجنوب”، في تطور مفصلي منح المشروع الانفصالي، وللمجلس الانتقالي على وجه الخصوص، غطاءً شعبيًا عزز من شرعيته السياسية.
وتفاقم المشهد أكثر مع بروز تيار مؤثر داخل الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا مؤيد لحركة الانفصال، إذ أعلن عدد من الوزراء صراحة دعمهم للمجلس الانتقالي ومساعيه لإحياء دولة الجنوب، الأمر الذي فجر أزمة حادة داخل مجلس القيادة الرئاسي، وألقى بظلاله الثقيلة على مستقبل التوافق السياسي في البلاد.
الرياض تتخلى عن حيادها
أمام تسارع هذه التطورات، بدت الرياض وقد تخلّت نسبيًا عن خطاب الحياد والصمت، إذ أصدرت وزارة الخارجية السعودية، في الخامس والعشرين من الشهر، بيانًا حمّلت فيه المجلس الانتقالي الجنوبي مسؤولية التحركات العسكرية الأحادية في محافظتي حضرموت والمهرة، معتبرة أنها جرت دون موافقة مجلس القيادة الرئاسي أو تنسيق مع التحالف، وأسهمت في تصعيد غير مبرر يضر بمصالح الشعب اليمني بمختلف مكوناته، وبالقضية الجنوبية، وبجهود التحالف الداعمة للشرعية.
وفي اليوم التالي مباشرة، تعرّضت قوات “النخبة الحضرمية” التابعة للانتقالي لقصف جوي أسفر عن سقوط إصابات، وسط اتهامات من المجلس للرياض بتنفيذ الضربات، من دون رد سعودي رسمي على تلك الاتهامات.
وتزامن ذلك مع رسالة سياسية وأمنية لافتة وجّهها وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى الشعب اليمني، حذّر فيها من خطورة التصعيد الداخلي، ولا سيما في حضرموت والمهرة، واصفًا ما جرى منذ مطلع ديسمبر بـ”الأحداث المؤسفة” التي شقّت الصف وأضعفت الجبهة الداخلية في مواجهة الحوثيين.
(إلى أهلِنا في اليمن)
استجابةً لطلب الشرعية اليمنية قامت المملكة بجمع الدول الشقيقة للمشاركة في تحالف دعم الشرعية بجهودٍ ضخمة في إطار عمليتي (عاصفة الحزم وإعادة الأمل) في سبيل استعادة سيطرة الدولة اليمنية على كامل أراضيها، وكان لتحرير المحافظات الجنوبية دورٌ محوريٌ في تحقيق ذلك.…
— Khalid bin Salman خالد بن سلمان (@kbsalsaud) December 27, 2025
وشدد وزير الدفاع السعودي على أن أي توظيف للتضحيات التي قدمها التحالف وأبناء اليمن لتحقيق مكاسب ضيقة يخدم “عدو الجميع”، في إشارة واضحة إلى جماعة الحوثي والتنظيمات المسلحة، داعيًا المجلس الانتقالي إلى تغليب صوت العقل والاستجابة للوساطة السعودية–الإماراتية، عبر سحب قواته من المعسكرات وتسليمها لقوات “درع الوطن” وتمكين السلطات المحلية من أداء مهامها.
ولم تتوقف الرسائل عند حدود السياسة، بل تجاوزتها إلى تحذير عسكري مباشر، إذ أعلن تحالف “دعم الشرعية”، بقيادة السعودية، استعداده للتعامل “تعاملًا مباشرًا” مع أي تحركات عسكرية للمجلس الانتقالي في حضرموت.
كما نقلت وكالة الأنباء السعودية “واس” عن المتحدث باسم التحالف، اللواء الركن تركي المالكي، أن هذا الموقف جاء استجابةً لطلب رسمي من رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي، عقب ما وُصف بانتهاكات جسيمة بحق المدنيين، فيما أفادت وكالة “سبأ” الرسمية بأن العليمي طلب اتخاذ جميع التدابير العسكرية اللازمة لحماية المدنيين ومنع انزلاق حضرموت إلى مواجهات أوسع تهدد السلم الأهلي وتُضعف مؤسسات الدولة.
الانتقالي يرفض
في ردّه على المطالب السعودية، أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي رفضه الانسحاب من المحافظات الجنوبية التي أطبق سيطرته عليها مؤخرًا، مؤكدًا في بيان رسمي استمراره في تولي مهام تأمين محافظتي حضرموت والمهرة شرقي البلاد، مشددًا على أن وجود قواته في تلك المناطق بات ضرورة أمنية تفرضها التطورات الميدانية وحساسية المرحلة.
وأوضح البيان أن تحركات قوات المجلس جاءت استجابةً لما وصفها بنداءات أبناء الجنوب لمواجهة التهديدات الأمنية، وقطع خطوط تهريب قال إنها تُستخدم من قبل جماعة الحوثي، معتبرًا أن هذه الإجراءات تهدف إلى ترسيخ الأمن والاستقرار، وحماية مؤسسات الدولة، ومعالجة الاختلالات التي انعكست سلبًا على الخدمات العامة وحياة المواطنين.
وفي الوقت ذاته، أعرب المجلس الانتقالي عن انفتاحه على أي ترتيبات تنسيقية مع السعودية بما يضمن أمن واستقرار المحافظات الجنوبية ويحول دون عودة التهديدات الأمنية، غير أنه في الوقت ذاته أبدى استغرابه من الغارات الجوية التي استهدفت مواقع قوات “النخبة الحضرمية”، معتبرًا أنها جاءت عقب كمين مسلح تعرضت له تلك القوات، ومتهمًا مسلحين تابعين لقيادي قبلي مطلوب أمنيًا بالوقوف وراء الهجوم.
السودان كلمة السر
لم يكن التحول اللافت في المشهد اليمني، ومن ثم في الموقف السعودي، نتاج لحظة طارئة، بل جاء في سياق إقليمي أوسع تتقاطع فيه تطورات جنوب اليمن مع مشاهد موازية تشهدها الساحة السودانية، الأمر الذي دفع كثيرًا من القراءات إلى الحديث عن تشابه واضح في الديناميكيات الإقليمية الحاكمة للمشهدين.
في السودان، وصلت الأزمة إلى نقطة مفصلية مع التمدد الميداني لميليشيا الدعم السريع، وقدرتها على قلب موازين القوة وإرباك الحسابات الإقليمية، مستندة إلى دعم إماراتي معلن، تزامن مع تصاعد الحديث عن سيناريوهات انفصال دارفور وتقسيم البلاد، بما يضع الأمن السعودي، ولا سيما أمنه المائي المرتبط بالبحر الأحمر، أمام تحديات مباشرة وحساسة.
ومن السودان إلى جنوب اليمن، تتكرر ملامح المشهد ذاته؛ إذ يبدو أن ما جرى في دارفور أغرى القوى المحرّكة للمشهد الجنوبي بمحاولة استنساخ السيناريو نفسه، عبر رفع المجلس الانتقالي الجنوبي شعار “الدولة الجنوبية”، بما يعني عمليًا الدفع نحو تقسيم اليمن، فيما ترى الرياض في هذا المسار أنه يحمل تداعيات مباشرة على أمنها القومي وحدودها الجنوبية، ويضعها في مواجهة تهديدات متزايدة.
ويبرز العامل المشترك بين الساحتين السودانية واليمنية في الدور الإماراتي، ومن خلفه الإسرائيلي، حيث تُتهم أبوظبي بدعم النزعات الانفصالية في كلا البلدين بما يخدم أجندات إقليمية تتقاطع مع المصالح الإسرائيلية، فيما يجد الأمن السعودي، بل والأمن العربي عمومًا، نفسه في دائرة الاستهداف.
ومن هذا المنطلق، استشعرت الرياض حجم الخطر، وبات هاجس تكرار السيناريو السوداني في اليمن حاضرًا بقوة في حساباتها، ما جعل التحرك السعودي يبدو ضرورة ملحّة، خاصة في ظل مخاوف من أن يفضي هذا المسار إلى السيطرة على الموانئ والموارد الاستراتيجية، مثل عدن وحضرموت في اليمن، وبورتسودان ودارفور في السودان، بما يدفع المملكة إلى موقع دفاعي في بيئة إقليمية شديدة الاضطراب.
ما السيناريوهات؟
تجدر الإشارة ابتداء إلى أن المجلس الانتقالي الجنوبي لم يُخفِ منذ تأسيسه في مايو/أيار 2017 توجهه الواضح نحو فك الارتباط واستعادة دولة جنوب اليمن، مستندًا إلى دعم إماراتي كثيف ومتعدد الأبعاد شمل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية، وقد شكّل هذا الدعم عاملًا حاسمًا في ترجيح كفة المجلس خلال المواجهات التي شهدها الجنوب والجنوب الشرقي مؤخرًا، وأسهم في إحداث تحولات ميدانية سريعة أعادت رسم خريطة السيطرة على الأرض.
ومع بسط المجلس الانتقالي نفوذه على ما يقارب 90% من المدن الجنوبية، وإحكام قبضته على الموارد الاستراتيجية، ولا سيما حقول ومصافي النفط في حضرموت ومحيطها، بات مشروع الانفصال يُدار بصورة علنية وغير مسبوقة.
المشهد يزداد تعقيدًا في ظل نجاح المجلس، بدعم إماراتي مباشر، في بناء قوة عسكرية وأمنية منظمة، إلى جانب هياكل إدارية ومؤسسات شبه مكتملة، مع احتفاظه في الوقت ذاته بتمثيل شكلي داخل مؤسسات الشرعية، بما يعكس ازدواجية سياسية محسوبة تخدم رؤيته الانفصالية الواضحة.
أمام هذا الواقع، تتبلور عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل الجنوب اليمني:
السيناريو الأول: يتمثل في تسوية شاملة برعاية دولية وإقليمية تفضي إلى الاعتراف باستقلال الجنوب عبر استفتاء شعبي، وهو خيار يحظى بدعم إماراتي واضح، لكنه يصطدم بتحفظات سعودية جوهرية.
السيناريو الثاني: ويُعد الأكثر ترجيحًا على المدى المتوسط، والذي يقوم على تقسيم سياسي فعلي يُكرّس كيانًا شماليًا تحت سيطرة الحوثيين وآخر جنوبيًا بقيادة المجلس الانتقالي ضمن صيغة فيدرالية اسمية، تضمن توازن النفوذ بين الرياض وأبوظبي، مع بقاء سلطة المجلس الجنوبي دون اعتراف رسمي، ما يجعله مرتهنًا لإرادة الداعمين الإقليميين وقد يضعه لاحقًا في مواجهة المزاج الشعبي الجنوبي.
السيناريو الثالث: رضوخ المجلس الجنوبي للضغوط السعودية، وفق حزم من المقاربات والموائمات السياسية، والاستجابة للمطالب الخاصة بالانسحاب من المدن التي سيطر عليها مؤخرًا، وهو السيناريو الذي قد يجرد أبو ظبي من نفوذها اليمني، ويشوه صورتها لدى قيادات المجلس الانتقالي والشارع اليمني الجنوبي، بل قد يُفضي في النهاية إلى فقدان الإمارات نفوذها في اليمن.
السيناريو الرابع: التصعيد العسكري الشامل بين المجلس الانتقالي وقوات التحالف بقيادة السعودية، وهو الأقل احتمالًا، لكنه رغم ذلك يظل قائمًا في حال الإقدام على إعلان انفصال أحادي، بما قد يفتح الباب أمام صراع داخلي أو إقليمي واسع، رغم أن كلفة الحرب والإرهاق العام، إلى جانب أولوية مواجهة الحوثيين دوليًا، تحدّ من فرص تحققه في المدى المنظور.
وعليه يقف اليمن اليوم عند مفترق طرق بالغ الحساسية، على حافة انقسام محتمل تتشابك فيه عوامل الداخل مع حسابات الخارج، وسط مشهد سياسي وأمني مثقل بالتجاذبات والتأجيج.
وبين صراع نفوذ داخلي تتنازعه قوى الشمال والجنوب، وأجندات إقليمية ودولية تسعى إلى ترسيخ مصالحها على حساب شعب ودولة، يجد اليمنيون أنفسهم الخاسر الأكبر، وقد أنهكتهم سنوات الحرب والانقسام، وحوّلت بلدهم من “اليمن السعيد” إلى إحدى أكثر ساحات العالم هشاشةً وبؤسًا.