ترجمة وتحرير: نون بوست
وصلت غزة إلى حالة توازن جديد وقبيح كما هو متوقع، والخبر الجيد هو أن القتال العنيف انتهى، وأن المساعدات الإنسانية تدخل القطاع بانتظام. فمنذ بدء وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر/ تشرين الأول، أفرجت إسرائيل عن ما يقارب 2000 أسير فلسطيني، وأعادت حماس جميع الرهائن الأحياء بالإضافة إلى معظم جثث القتلى، وذلك وفقًا لخطة السلام المكونة من 20 بندًا التي وضعتها إدارة ترامب. كما أعادت إسرائيل فتح معابر كرم أبو سالم وكيسوفيم وزيكيم، ووعدت بالسماح بدخول 600 شاحنة يوميًا إلى غزة محملة بالمساعدات والبضائع التجارية للبيع، وقد بدأت بتنفيذ ذلك. كما انسحب الجيش الإسرائيلي إلى ما يسمى بـ “الخط الأصفر” الذي يحد من وجودها إلى حوالي 53 بالمائة من مساحة القطاع، رغم أن بعض الحدود المحددة ما تزال محل خلاف.
وتعثرت على الجانب الآخر الخطط الرامية للوصول لحل أكثر شمولًا؛ حيث تتسم العلاقة بين حماس وإسرائيل اليوم بصراع محدود لكنه مستمر، لا بتقدم نحو السلام. ومن المرجح أن تؤدي سياسات إسرائيل، ورفض حماس خسارة المزيد من السلطة، وضعف تركيز إدارة ترامب، إلى إفشال الخطط الطموحة لإعادة إعمار غزة. ويعتمد أي تقدم إضافي على إنشاء قوة دولية للاستقرار تتولى ضبط الأمن في غزة، ونزع سلاح حماس، وتدريب قوة شرطة فلسطينية جديدة غير تابعة لحماس لتتولى السيطرة على القطاع. بعدها سينسحب الجيش الإسرائيلي إلى 40 بالمائة من القطاع، ثم إلى 15 بالمائة مع تحسن الظروف الأمنية المحلية. وفي الوقت نفسه، ستنشأ حكومة فلسطينية تكنوقراطية وغير سياسية لإدارة غزة، على أن ترفع تقاريرها إلى ما سماه الرئيس الأميركي دونالد ترامب “مجلس السلام”، الذي سيرأسه ترامب رسميًا، بينما يتولى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير إدارته اليومية. ومن المفترض أن تجري السلطة الفلسطينية، التي تدير الضفة الغربية، إصلاحات كبيرة استعدادًا لتولي دور رئيسي في إدارة القطاع لاحقًا.
وتبذل الولايات المتحدة بعض الجهود لدفع الأمور إلى الأمام في هذا الشأن؛ فقد أنشأ الجيش الأميركي مركزاً للتنسيق المدني-العسكري في إسرائيل لمراقبة وقف إطلاق النار وتوزيع المساعدات الإنسانية في غزة، كما زار عدد من كبار المسؤولين الأميركيين إسرائيل في الأسابيع الأخيرة، من بينهم نائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والمستشار البارز (وصهر ترامب) جاريد كوشنر، لإظهار التزام الولايات المتحدة باتفاق وقف إطلاق النار. لكن غموض التصريحات والخطط المتعلقة بالخطوات المهمة التالية لتحسين الأمن، وتردد إدارة ترامب في لعب دور أكبر وأكثر مباشرة في إعادة إعمار غزة، وتردد الشركاء المحتملين في تقديم دعم أكبر لهذه الجهود، كلها عوامل تجعل تنفيذ الأجزاء الطموحة من خطة ترامب – أي نزع سلاح حماس وإنشاء حكومة فلسطينية جديدة في غزة – أمرًا غير المرجح في القريب العاجل، هذا إن تم تنفيذها على الإطلاق.
وفي الوقت نفسه، تستمر أعمال العنف، مؤدية إلى مقتل عدد من جنود الجيش الإسرائيلي وعدد أكبر من الفلسطينيين، سواء من المقاتلين أو المدنيين. ويصعب في ظل كل ذلك التحقق من تقارير خرق وقف إطلاق النار، لكن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، الذي تسيطر عليه حماس، يدّعي أن إسرائيل انتهكت الاتفاق 282 مرة على الأقل؛ بينما تدّعي قوات الدفاع الإسرائيلية أن حماس انتهكت الاتفاق 24 مرة. ومع استمرار هذا القتال المحدود، يبقى 90 بالمائة من سكان غزة مهجرين، مع حاجة 1.5 مليون شخص لمساعدات عاجلة في المأوى. ورغم وعد إسرائيل بالسماح بدخول 600 شاحنة مساعدات يوميًا، إلا أن الأمم المتحدة أفادت أن المعدل اليومي لم يتجاوز 120 شاحنة، وقد زادت الأمطار الغزيرة والطقس البارد من معاناة سكان غزة.
قد يبدو الوضع الراهن – الذي يتسم بسياسات مرتجلة، وجهود أمريكية متسرعة لإخماد الحرائق، ومعاناة مستمرة للمدنيين – غير مستقر، لكن الوضع الحالي قد يمثل مستقبل غزة: عنف محدود ولكنه مستمر، وأزمات صغيرة دون التقدم نحو التنمية والسلام والاستقرار الدائم.
قضايا شائكة
ويُعد إنشاء قوة استقرار طويلة الأمد أحد أهم المهام لتحقيق تقدم نحو السلام، لكنها أيضًا من أصعبها. بالنسبة لإسرائيل، فإن مثل هذه القوة ضرورية لمنع حماس من العودة إلى السلطة والإشراف على نزع سلاح الحركة، وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمجلس وزرائه أن إسرائيل ستحتفظ بحق النقض على الدول المشاركة في هذه القوة.
وعلى الرغم من ترويج الولايات المتحدة لفكرة قوة الاستقرار، إلا أنها رفضت المشاركة فيها. وكذلك فعل شركاؤها، رغم خطابهم الداعم في كثير من الأحيان. وقد أبدت أيضًا الدول العربية والإسلامية المتعاطفة ترددها، مدركة أن مثل هذه القوة ستقمع الفلسطينيين نيابة عن إسرائيل، وهو أمر مضر سياسيًا لحكوماتهم، خاصة إذا لم يكن هناك مسار واضح نحو دولة فلسطينية يبرر تعاونهم مع إسرائيل على المدى القصير. ويسعى آخرون للحصول على تفويض من الأمم المتحدة لهذه الجهود، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل معارضة الصين وروسيا، اللتين تستغلان هذه المعارضة لإظهار دعمهما للسيادة الفلسطينية وعدائهما للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. وحتى لو أمكن نشر قوات على الأرض، فإن مكافحة التمرد في بيئة حضرية أمر بالغ الصعوبة، ويتطلب قواعد اشتباك صارمة، وقوات ماهرة، واستعداداً لتكبد خسائر، وهي تركيبة نادرة حتى في أفضل الظروف.
ويعد أيضًا تجريد غزة وحماس من السلاح مهمة صعبة بنفس القدر؛ حيث تدعو خطة ترامب إلى ضمان أن تكون أسلحة حماس “غير صالحة للاستخدام بشكل دائم”، وأن يتم تدمير جميع “البنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية”. وبالنظر إلى مدى صلابة مقاومة حماس لنزع السلاح في الماضي، فمن المرجح أن تستمر في ذلك عمليًا، رغم موافقتها النظرية على الخطة ذات العشرين بندًا. ومن الناحية الأيديولوجية، ترى حماس نفسها حركة مقاومة، وحركة المقاومة تفقد مصداقيتها بدون سلاح. ومن الناحية العملية، يحافظ السلاح على سيطرة حماس على غزة، مما يمكّنها من قمع خصومها وحماية نفسها من هجمات انتقامية من أعدائها الكثر. فعلى سبيل المثال، هاجمت حماس أفرادًا من عشيرة دغمش القوية بعد وقت قصير من بدء وقف إطلاق النار – عائلة دغمش هي عائلة كبيرة تتمركز أساسًا في مدينة غزة، وقد قاتلت ضد حماس، وتعاونت مع إسرائيل في ذلك بحسب وسائل إعلام مختلفة – لتؤكد للعشيرة ولسكان غزة أن حماس ما تزال صاحبة السلطة.
لم تُبدِ الدول الأخرى أيضًا حماسها لإعادة إعمار غزة؛ فقد روجت إدارة ترامب لرؤى طموحة حول مستقبل غزة، مقترحة ضمن أحد بنودها العشرين “خطة للتنمية الاقتصادية لإعادة بناء غزة وتنشيطها عبر تشكيل لجنة من الخبراء الذين ساهموا في إنشاء بعض المدن الحديثة المزدهرة في الشرق الأوسط”. وألقى ترامب بمسؤولية تمويل إعادة إعمار غزة على “الدول العربية والإسلامية”، والذي سيتطلب نحو 70 مليار دولار. لكن حتى الآن، كانت الخطب الرنانة أكثر من الأموال المسخرة لدعم هذا الهدف، كما أن استمرار القتال، حتى لو كان منخفض الحدة، سيخيف المستثمرين ويمنع تدفق أموال إعادة الإعمار.
ولعل أكبر الصعوبات التي لم تُحَل بعد هي مسألة من سيحكم غزة على المدى الطويل؛ فالحديث عن “تكنوقراط” أو “سلطة فلسطينية مُصلحة” يخفي حقيقة أنه لا يوجد حاليًا بديل واضح أو حتى محتمل لحكم حماس أو الاحتلال العسكري الإسرائيلي المباشر، وهما الواقعان القائمان في غزة اليوم. وقد بدأت حماس بالفعل في إصلاح سمعتها المتضررة بين سكان غزة لمجرد كونها القوة الوحيدة القادرة على توفير الحد الأدنى من النظام والقانون. ولتجنب تجاوزها من قبل إسرائيل أو استهدافها من قبل حماس، فإن أي حكومة مستقبلية ستحتاج لأن تكون مقبولة من الطرفين، وهو أمر يصعب تصوره حالياً. وبدون حكومة كهذه وقوة أمنية كفؤة، ستظل إسرائيل تشعر بالحاجة إلى ضرب غزة لمنع حماس من إعادة بناء قوتها.
لا أحد يريد ذلك
لا تسعى إسرائيل إلى العودة إلى القتال واسع النطاق؛ فقد تراجعت فعالية العمليات العسكرية الإسرائيلية مع استمرار الحرب، وهي مشكلة تفاقمت بفعل الضرر المتراكم الذي لحق بسمعتها الدولية، كما ازدادت التكاليف التي يتحملها المجتمع الإسرائيلي مع تعطّل اقتصاد البلاد بفعل الحرب، وفرض عبء غير متكافئ على العائلات، بالنظر إلى الإعفاءات من الخدمة العسكرية التي تتمتع بها تاريخيًا الجماعات اليهودية المتشددة والعرب الإسرائيليون. وقد يثير تجدد القتال الآن غضب ترامب إذا ما حمّل إسرائيل مسؤولية انهيار أحد إنجازاته البارزة، ولذلك رحّب معظم الإسرائيليين بوقف إطلاق النار.
غير أن الإسرائيليين ما زالوا غير مستعدين لقبول قيادة حماس في غزة، سواء كان ذلك خوفًا من تكرار أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أو بسبب الغضب الأوسع تجاه الحركة المسلحة لما ألحقته من دمار وإذلال بإسرائيل خلال ذلك الهجوم. ويعارض القادة الإسرائيليون اليمينيون أي اتفاق يعود بالفائدة على الفلسطينيين عمومًا، إذ يعتقدون أن الفلسطينيين لا ينبغي أن “يجنوا أي مكاسب” نتيجة أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول. كما أن الإسرائيليين يشككون بشكل عام في السلطة الفلسطينية. يعني ذلك وعلى المستوى العملي أن إسرائيل ستتردد في تسليم الأمن إلى قوة دولية للاستقرار، فضلًا عن قوات فلسطينية، ما لم تكن واثقة تمامًا من أن هذه القوة ستقمع حماس، وهي ثقة قد لا تتحقق أبدًا. ورغم أن هذه المواقف الإسرائيلية قد لا تؤدي إلى استئناف الحرب بشكل كامل، إلا أنها مرشحة لأن تقود إلى ضربات إسرائيلية منتظمة على غزة في المستقبل. وإذا ما قامت حماس بتعزيز سلطتها علنًا في أجزاء من غزة، فمن المرجح أن تحاول إسرائيل اغتيال قادة حماس البارزين لضمان بقاء الحركة في موقف دفاعي.
بالمقابل حماس، مثل إسرائيل، لا ترغب في العودة إلى القتال الشامل، لكنها أيضًا تملك دوافع قوية لتنفيذ أعمال عنف محدودة. فقد أسفرت الحرب الوحشية التي أعقبت 7 أكتوبر/ تشرين الأول عن مقتل معظم قيادة حماس وإضعاف قيادها وسيطرتها. وقد تكون مبررات حماس للهجمات الأخيرة ضد الجيش الإسرائيلي مقبولة، إذ قد يقدم بعض القادة المحليين أحيانًا على شنّ ضربات بمبادرة منهم. لكن من شبه المؤكد أن الحركة ستواصل استخدام العنف لقمع من يتحدّى حكمها، وقد تهاجم في بعض الأحيان القوات الإسرائيلية، سواء بدافع الانتقام أو لإرسال رسالة إلى أنصاره بأنه ما زال قويًا بما يكفي لمقاومة إسرائيل.
وعندما يحين وقت تنفيذ جوانب خطة ترامب التي من شأنها إضعاف قوة حماس بشكل كبير وتدميرها كفاعل سياسي، فمن المرجّح أن تقاوم حماس بعنف، سواء لأسباب أيديولوجية، إذ إنها لا تزال تسعى للسيطرة على غزة والحركة الوطنية الفلسطينية، أو خوفًا من أن ينتقم منها الفلسطينيون المنافسون إذا لم تستطع الدفاع عن نفسها. إن هجمات حماس على الجيش الإسرائيلي وما سيعقبها حتمًا من رد إسرائيلي واسع النطاق ستؤدي بدورها إلى تقويض أي حكومة تكنوقراطية أو تابعة للسلطة الفلسطينية، كاشفةً عن عجزها في حماية سكان غزة، مما يزيد احتمالية النظر إليها باعتبارها متعاونة مع الاحتلال. وسيُعد ذلك مكسبًا سياسيًا لحماس حتى لو عانى قادتها، وسكان غزة عمومًا، من تداعيات الرد الإسرائيلي.
لم تختفِ بل نُسيت
اليوم، تقوم القوات الإسرائيلية بدوريات يقظة على الخط الأصفر الذي رسمه اتفاق وقف إطلاق النار، وتطلق النار على سكان غزة الذين يحاولون عبوره – ما أسفر عن مقتل العشرات – وتبني حواجز مادية من الكتل الخرسانية لتحديده. ومن السهل أن نرى كيف يمكن أن يتحول مثل هذا الخط المؤقت إلى شبه دائم. وفي ظل هذا الواقع، باءت بعض الجهود الأمريكية الرامية إلى تعزيز إعادة الإعمار بالفشل. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني، على سبيل المثال، حاولت الولايات المتحدة إنشاء “مجتمعات آمنة بديلة” يعيش فيها الفلسطينيون الذين خضعوا لمراجعة إسرائيلية على الجانب الإسرائيلي من خط الفصل في غزة. لكن هذا المقترح تعثّر على الفور تقريبًا أمام أسئلة صعبة حول ما إذا كان بإمكان الفلسطينيين في هذه المجتمعات التنقل بحرية بين أجزاء القطاع التي تسيطر عليها إسرائيل وحماس على التوالي. هذا الجهد، الذي ما زال معلّقًا، يُعدّ تحذيرًا من أن حتى المقترحات التي تبدو بريئة تحمل تبعات سياسية قد يعارضها أحد الطرفين أو كلاهما.
وبمرور الوقت، سيتلاشى الاهتمام الدولي بغزة، خاصة إذا لم تتحول أعمال العنف المحدودة إلى أعمال عنف واسعة النطاق، وإذا كانت الأوضاع الإنسانية بائسة وليست كارثية. مع تراجع الاهتمام، ستقل الضغوط على كلا الطرفين لتقديم تنازلات مؤلمة، وستواجه إسرائيل تكاليف دبلوماسية أقل في حالة شن ضربات عسكرية.
وكما يوحي توافد كبار المسؤولين الأمريكيين، فإن إدارة ترامب تفخر بدورها في إيجاد وقف إطلاق النار وترغب في جعل غزة قصة نجاح. غير أن تحقيق ذلك يتطلب ضغطًا مستمرًا ودبلوماسية صبورة، وهما أمران لا يُعدّان من سمات السياسة الخارجية لترامب. كما سيستلزم الأمر نشر قوات أمريكية كجزء من قوة استقرار أو إقناع حلفاء قادرين بالمشاركة. وسيتعيّن على ترامب نفسه أن يضغط على نتنياهو وغيره من القادة الإسرائيليين للانسحاب من أجزاء من غزة، رغم الوضع الأمني غير المؤكد، وأن ينسّق استمرار الضغط من شركاء عرب ومسلمين على حماس. وبدون العناوين الرئيسية التي تولّدها الحرب والمجاعة في غزة، من غير المرجّح أن تواصل الإدارة جهودها. وبدون مثل هذه الجهود شبه المستمرة من الولايات المتحدة، من المرجّح أن تستقر إسرائيل وحماس في علاقة متوترة تتجنب الحرب الشاملة لكنها تظلّ تتسم بالصراع المستمر، وغياب إعادة الإعمار في غزة، وقلة أو انعدام التقدّم السياسي نحو سلام دائم.
المصدر: فورين أفيرز