كثفت السلطات العراقية مؤخرًا جهودها لملاحقة مواطنيها الذين تورطوا بالقتال في الحرب الروسية–الأوكرانية، بعدما انكشف الملف للرأي العام وارتفعت المخاوف من تحوّل شبكات التجنيد إلى ظاهرة عابرة للحدود.
وأعيد فتح هذا الملف بعد إصدار القضاء العراقي حكمًا بالسجن المؤبد على مواطن أدين بتهمة الاتجار بالبشر لتجنيد عراقيين للقتال إلى جانب روسيا، إذ يعاقب القانون المحلي بسجن كل من ينضم إلى قوات دول أخرى دون موافقة رسمية.
فكيف بدأت هذه الظاهرة ولماذا تمددت؟ وما حجمها الحقيقي وسط تضارب الأرقام؟ وكيف يواجهها العراق عبر الإجراءات الأمنية والقضائية والتنسيق الدولي لملاحقة الشبكات والمتورطين؟
تفاقم الظاهرة ودوافع التجنيد
منذ عام 2024، تتواتر أنباء عن توجه مئات من الشبان العراقيين للقتال على الجبهات الأوكرانية كمرتزقة، في ظاهرة أثارت قلقًا رسميًا وشعبيًا، ويعزو مراقبون انتشار الظاهرة إلى الإغراءات المالية الكبيرة التي تقدمها جهات التجنيد.
ففي حين انخرط عراقيون سابقًا في حروب خارجية بدوافع زعموا أنها عقائدية – مثل مشاركة فصائل عراقية موالية لإيران في الحرب السورية تحت شعار حماية المراقد – فإن الالتحاق بالحرب في أوكرانيا يبدو مدفوعًا بالدرجة الأولى بالبحث عن المكاسب المادية وتحسين المعيشة.
ويؤكد السفير الأوكراني في بغداد إيفان دولهانيش أن من تم تجنيدهم “لا يقاتلون من أجل فكرة، بل يبحثون عن وظيفة مدفوعة الأجر”، في إشارة إلى الدوافع الاقتصادية البحتة وراء التحاق بعض الشباب العراقي بالقتال في أوكرانيا.
كما استغل مجنِّدون حالة الإحباط لدى شريحة من العاطلين عن العمل في العراق، مُصورين القتال في أوكرانيا كفرصة للحصول على رواتب عالية أو حتى مسار غير مباشر للهجرة نحو أوروبا.
أساليب التجنيد ومصير المقاتلين
نشطت شبكات تجنيد على منصات التواصل الاجتماعي مثل تيك توك وتلغرام، تستهدف الشباب العراقي بوظيفة “جندي” في الجيش الروسي بمرتبات تصل إلى نحو 2500 دولار شهريًا، مع وعود بمنح أراضٍ وإمكانية نيل الجنسية الروسية للمقاتل وعائلته.
يدير هذه القنوات في الغالب عراقيون مقيمون في روسيا، ويتولون تسهيل الحصول على تأشيرات سفر وعقود تطوع عبر وسطاء مقابل مبالغ مالية يدفعها المجندون للرعاية والسفر.
غير أن العديد ممن انخرطوا في هذه المغامرة واجهوا مصيرًا مأساويًا. فقد أبلغت عائلات عراقية عن فقدان الاتصال بأبنائها بعد سفرهم إلى روسيا، ثم تبيّن لهم أن أولئك الشبان قُتلوا في جبهات القتال بأوكرانيا.
إحدى الحالات وثّقتها مقاطع فيديو على تيك توك لشاب عراقي ظهر مرتديًا الزي العسكري الروسي قرب باخموت، قبل أن يفيد رفاقه أنه لقي حتفه بضربة طائرة مسيّرة هناك.
وقالت زينب جبار من قضاء المسيب شمالي بابل إن ابنها محمد عماد (24 عامًا)، غادر المنزل بعد مشكلة بسيطة وذهب إلى البصرة للعمل ثم خُدع من جهات مجهولة وعدته بفرصة خارج البلاد قبل أن تأخذه إلى روسيا.
🔴 أم عراقية تسأل
ما علاقتنا بروسيا؟ ما علاقتنا بدولتَين تتحاربان؟
زينب جبار من المسيب فقدت ابنها عماد محمد الذي جندته الميليـ ـشيات إلى حربٍ لا تخص العراق ولا أبناءه، ليقاتل كمرتزق في أوكرانيا دفاعا عن روسيا‼️ pic.twitter.com/3EQlTnk4Qt— هـبـة النـائـب HIBA Alnnayib (@hiba_alnnayib) November 5, 2025
وبشكل عام، تشير معلومات استخبارية عراقية إلى أن نسبة ضئيلة جدًا – أقل من 5% – من المجندين العراقيين عادوا أحياء من الحرب، إذ غالبًا ما يتم الزجّ بهم في الخطوط الأمامية لتلقي الصدمة الأولى من الهجمات الأوكرانية.
نتيجة ذلك، سقط عدد كبير من هؤلاء قتلى خلال أشهر قليلة من وصولهم إلى الجبهة، وتعذّر حتى استعادة جثث الكثيرين منهم بسبب شدة المعارك ونطاقها.
تباين الأرقام وجهود التحقق
تفاوتت تقديرات أعداد العراقيين المشاركين في حرب أوكرانيا بدرجة كبيرة، ما أثار جدلًا حول دقة هذه الأرقام.
- مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي قال إن “مئات العراقيين ينخرطون في الحرب الروسية الأوكرانية”، دون تحديد عدد.
- حسين علاوي مستشار رئيس الوزراء العراقي كان أكثر دقة وقال إن “نحو 5000 عراقي تم تجنيدهم في الجيش الروسي”.
- تقديرات استخبارية أوكرانية قدّرت المجندين العراقيين في صفوف الجيش الروسي بحوالي 1400 فرد.
- تقارير إعلامية تحدثت عن وصول الرقم إلى نحو 50 ألفًا، لكن السلطات تشكك في هذه الأعداد وتقول إنها تعمل على حصر الأرقام الفعلية.
- في المقابل، نفى السفير الروسي في العراق إلبروس كوتراشيف الأرقام المبالغ فيها، وأكد أن مشاركة العراقيين في الحرب “موجودة لكنها محدودة جدًا ولا تتعدى بضع مئات” وأن نحو أربعة أو خمسة عراقيين فقط قُتلوا في أوكرانيا حتى الآن.
ومن الجانب الأوكراني، نفت كييف تجنيدها أي عراقيين بصفوف قواتها، رغم حديث تقارير إعلامية عن انضمام نحو 2000 عراقي إلى جيشها.
وكشفت رسالة رسمية أوكرانية نُقلت عبر السفير دولهانيش أن سلطات بلاده ألقت القبض على مقاتل عراقي يقاتل مع القوات الروسية، مما قدّم دليلًا ملموسًا على وجود عراقيين في ساحة الحرب.

التحرك الرسمي وإجراءات المكافحة
إزاء هذا الواقع، اتخذت الحكومة العراقية عدة خطوات لاحتواء الظاهرة.
- أواخر 2025، شكّل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لجنة أمنية–قضائية عليا برئاسة مستشار الأمن القومي لمتابعة الملف.
- نجحت الأجهزة الأمنية في تفكيك بعض الشبكات المحلية؛ إذ أُغلقت قنوات على تطبيق تلغرام استُخدمت لاستدراج الشباب.
- جرى مداهمة مكاتب سفر في محافظات جنوبية ضالعة في تسهيل نقل المجندين إلى روسيا وإحالة المتورطين للقضاء.
- حذرت بغداد مواطنيها مرارًا من مغبة الانجرار وراء الإغراءات للقتال في أوكرانيا، ونسّقت مع شركاء دوليين للحد من هذه الظاهرة.
وأصدرت السفارة العراقية في موسكو بيانًا نفت فيه “توريط” أي شباب عراقي بالحرب، وأكدت أنها لا تصدر إطلاقًا تأشيرات سفر بغرض الالتحاق بالقتال، وأن الجهة الوحيدة المخولة بذلك هي السفارة الروسية في بغداد.
كذلك تتبادل الحكومة العراقية المعلومات مع الجانب الروسي بشأن المجندين العراقيين بغية إعادتهم، مع متابعة أي محاولات لنقل مقاتلين عبر حدود دول الجوار.
وترافقت هذه الجهود مع حملة توعية داخلية عبر وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني للتحذير من خطورة الانخراط في صراعات خارجية وانعكاساتها السلبية على أمن العراق وسمعته.
الإطار القانوني والعقوبات
نظرًا لغياب قانون صريح ينظم هذه الحالات، يلجأ القضاء إلى تكييفها ضمن قوانين قائمة، وقد استعان المحققون بقانون مكافحة الاتجار بالبشر لعام 2012 لملاحقة شبكات التجنيد، باعتبار أن استغلال الشباب في حروب خارجية يندرج ضمن هذا الإطار.
وفي سبتمبر/أيلول 2025، صدر حكمٌ بالسجن المؤبد عن محكمة جنايات النجف ضد المواطن ريسان فلاح كامل بعد إدانته بتجنيد ونقل عراقيين للقتال مع روسيا.
وبرزت دعوات برلمانية لسد الفراغ القانوني عبر تشريع جديد يجرّم صراحة الالتحاق بأي نزاع خارجي دون إذن الدولة.
كذلك نبّهت منظمات حقوقية إلى أن تجنيد العراقيين لحروب الخارج ينتهك الدستور الذي يحظر إنشاء قوات مسلحة خارج سيطرة الدولة، وطالبت السلطات بمحاسبة جميع المتورطين في هذه العمليات.