بعيدًا عن ظلال الإبادة المتواصلة في قطاع غزة، والاستيطان المتسارع في الضفة الغربية، تخرج إلى دائرة التطبيق خلال فترة وجيزة، حزمة قوانين مالية ونقدية صادقت عليها الحكومة الفلسطينية، تمس أحد أكثر القطاعات نموًا في السنوات الأخيرة؛ التجارة الإلكترونية، القطاع الذي شهد طفرة واسعة بعد عام 2020، وتحوّل إلى سوق عمل حيوي شغّل آلاف الفلسطينيين عبر أنماط جديدة من الإنتاج والخدمات الرقمية.
من بين هذه الخدمات؛ شركات الشحن والنقل اللوجستي، وتقنيات الدفع الإلكتروني ونقاط البيع الرقمي، وخدمات الإعلانات الرقمية وتحليل بيانات سلوك العملاء، ومنصات البيع والتجارة والتجميع، والمتاجر الإلكترونية، وخدمات التصميم والعمل الحر والتعاقد المؤقت وغيرها.
أما الأطر القانونية والتنظيمية الرسمية التي تستعد لفرض سيطرتها على هذه التجارة فهي قانون التجارة الإلكترونية، ومشروع قانون خفض استخدام النقد للعام الحالي، بالإضافة لقانون العملات الرقمية- المدفوعات الوطنية-، وقانون مكافحة غسيل الأموال للعام 2022، وقانون المعاملات الإلكترونية للعام 2017.
هذه الأطر الجديدة والمعدلة التي يتم التسويق لها باعتبارها اللبنة الأساسية لمستقبل مالي رقمي أكثر تطوراً في فلسطين، تحمل في الوقت نفسه مخاطر اقتصادية واجتماعية وسياسية بعيدة المدى بحق المواطن الفلسطيني، وتخضعه بشكلٍ أكبر لامتهان السلطة النقدية للاحتلال، ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش، الذي لا يخفي رغبته في إفقار الفلسطينيين وتهجيرهم.
تنظيم الخراب
مطلع نوفمبر المنصرم أعلنت وزارة الاقتصاد الوطني الفلسطيني عن بدء العمل بقانون جديد ينظم عمليات البيع والشراء عبر الإنترنت، بعد نشره في الجريدة الرسمية على أن يبدأ تطبيقه عملياً بعد ثلاثة أشهر، قانون التجارة الإلكترونية يتضمن 29 بندًا، وينطلق من قوانين سابقة منظمة لأنواع التجارة المختلفة في الاقتصاد الفلسطيني.
منها قانون المعاملات الإلكترونية لسنة 2017، وقانون الجرائم الإلكترونية لسنة 2018، وقانون الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وقانون الشركات للعام 2021، وقوانين أخرى قديمة مثل قانون الجمارك والمكوس الذي يعود لما قبل عام 1967، وقانون التجارة للعام 1966، وقانون سلطة النقد الفلسطينية للعام 1997، وقوانين حماية المستهلك، والصناعة، والاتصالات السلكية واللاسلكية وغيرها.
ارتباطه بقوانين متشعبة وقديمة، ليس نشازًا في العرف الاقتصادي والمالي التراكمي بطبيعته، لكن توقيت إخراجه، والظروف المحيطة به، وآثاره المباشرة على الفلسطينيين، بالتوازي مع التغول الاقتصادي والنقدي من قبل الاحتلال بحقهم، تفتح الباب أمام التساؤل عن دوافعه، وعن الجهة التي يخدمها، وعن حقيقة إسناد النظام الرسمي للفلسطيني وصموده.
من ناحية توقيته والظروف المحيطة به، فيدخل القانون حيز التنفيذ بينما يعاني الاقتصاد الفلسطيني ركودًا تتوقع البيانات الاقتصادية استمراره للعام الجديد، مع تراجع قدرات المستهلكين وصمود الشركات الصغيرة، كما يضرب اعتماد العديد من الفلسطينيين على التجارة الإلكترونية كوسيلة لبقائهم الاقتصادي، خاصة في ظل تراجع فرص التشغيل في الاقتصاد الرسمي.

كما يتعارض توقيته مع واقع جغرافي وإنساني وسياسي خاص في الضفة والقطاع، من إبادة وضم وتهجير وسرقة أراضي واعتداءات مستوطنين ووقف إعادة الإعمار وقيود على المساعدات، وهو الواقع الذي تعتبر التجارة الإلكترونية نشاطًا مرنًا يوفر للمواطنين مزايا اقتصادية ومادية في مقابل تعثر أنشطتهم التقليدية.
أما من ناحية آثاره المباشرة على لفلسطينيين، فيعد القانون ببنوده أداة تنظيمية صارمة بحق المواطنين الذين يكافحون للحفاظ على دخلهم، حيث يتجاهل المشاكل الأساسية مثل غياب بنية تحتية مالية قوية، وشمول مالي، وأدوات دفع إلكتروني محمية ومتنوعة، وانهيار الاقتصاد غير الرسمي في القطاع، والاعتماد الكبير على المعونات الرقمية والتحويلات الإلكترونية كمساعدات منقذة للحياة، في مقابل متطلبات تنظيمية جديدة، وتمحيص جديد في النشاط الإلكتروني.
كما أن القول -وفقًا لمدير السياسات والتخطيط في وزارة الاقتصاد الوطني-، رشاد يوسف، أن القانون يهدف لدعم ريادة الأعمال وتشجيع العمل في هذا القطاع، لا يتوائم مع نصه الرسمي الذي يشير صراحة إلى إنشاء سجل إلزامي لمزاولي التجارة الإلكترونية، ما يفتح الباب لإخضاعه للمراقبة والضريبة، خاصة وأن السياسات الاقتصادية الحكومية تعتمد التسجيل مدخلًا أوليًا لجمع البيانات، يتلوها دمج سلس في نظام الضرائب وإخضاع لقيود جمركية ومالية رسمية.
يتفاقم ذلك خطورة، بغياب آلية حماية اقتصادية لمسجل التجارة الإلكترونية، خاصة عندما يتم تجميد الرواتب أو تخفيضها، حينها تتحول التجارة الإلكترونية من شبكة أمان اقتصادية لمواجهة القيود على الموارد، لشبكة حصار اقتصادي تضغط على الاقتصاد المحلي بشراسة.
القادم أخطر
هذه التحديات والمخاوف، يمكن أن تبدو طبيعية بالنسبة للمواطن العربي الذي يعاني في ارتفاع نسب التضخم، وتوسع البطالة، أما بالنسبة للفلسطيني فهناك عوامل أخرى تزيد من خطورة هذا القانون، أولها؛ منح السلطة إمكانية إجرائية في وضع يدها على حساب شخص يعمل في التجارة الإلكترونية ومصادرة أمواله.
يتم ذلك أولًا من خلال بند التسجيل الإلزامي، الذي يشترط ربط الاسم والبيانات الحقيقية بالنشاط الاقتصادي، والدفع الإلكتروني عبر بنك أو محفظة رقمية أو وسيط، ما يعني انكشافًا اقتصاديًا معرفيًا، يمنح السلطة القدرة على وضع اليد بحجة قانون مكافحة غسيل الأموال -دعم المقاومة أو تقديم تبرعات للأسرى أو الجرحى أو أهالي الشهداء-، أو قانون الجرائم الإلكترونية، أو أي تعليمات تنفيذية لاحقة.

بكلماتٍ أخرى، وفي ظل نظام هش الضمانات، وبقانون تغيب عنه نصوص الحماية الصريحة، ويجعل الحسابات المصرفية مكشوفة للنظام الرسمي، فإن تقديم السلطة، لأي شكوى أو قرار إداري أو قضائي، ضد الأفراد، يمنحها القدرة على إغلاق نافذة التجارة الإلكترونية ومصادرة أموال صاحبها.
ثانيًا، يقدم القانون أداة عملية لفرض السيادة “الإسرائيلية” الاقتصادية المباشرة على الفلسطينيين، ففي ظل التنسيق الأمني، والاقتصاد الفلسطيني غير السيادي، والنظام المالي الذي يعتمد على البنوك الإسرائيلية، ويخضعها لتفاهمات أمنية مالية، فإن ضغط الاحتلال لإغلاق نشاط تجاري الكتروني، كعقوبة بسبب مقاومة أحد أفراد عائلة ما، -على نمط هدم منزل العائلة- ممكن عمليًا.
التجربة والتاريخ يؤكدان أن “إسرائيل” سبق لها وأن ضغطت لإغلاق جمعيات، وشركات وحسابات لأفراد ومؤسسات فلسطينية، بسبب نشاط مقاوم، أو دعمها للفئات التي تعتبرها “إرهابية”، فوفقًا للقوانين “الإسرائيلية” فإن المقاومة هي مخالفة للقانون، ودعمها شبهة مالية، وفي كلاهما ما يستوجب العقاب.
أما ثالثًا، وهو الأثر الأكثر عمومية وترجيحًا بالنسبة للفلسطينيين، فهو احتمالية فصل النظام النقدي “الإسرائيلي” عن النظام الفلسطيني، ولأن النظام الثاني يمر عبر الأول للاتصال بالنظام العالمي، فإن الفصل سيؤدي إلى الضغط على التحويلات التجارية، التي تمثل عصب التجارة الإلكترونية، وتعطل بوابات الدفع، وارتفاع التكلفة، وصعوبة الدفع للموردين، وهو ما يضرب جوهر التجارة الإلكترونية، التي تمثل السيولة الدولية أساسها.
عمومًا، وإذا كانت المخاطر السابقة تبدو بالنسبة للبعض مستبعدة، فإن تزامن كل من أزمة الرواتب وتكدس الشيكل في البنوك الفلسطينية، والضغوط “الإسرائيلية” لفصل النظام النقدي، وتوسيع الاقتطاعات من المقاصة، وحالة القمع السياسي الفلسطيني، والسياسي الاقتصادي الإسرائيلي، يجعل القانون الجديد مسننة في منظومة مالية أمنية غير سيادية هدفها الأول والأخير تأسيس بنية تدعم الإطباق على الفلسطيني وخنقه حتى النهاية.
حزمة أصفاد
لا تقتصر تأثيرات قانون التجارة الإلكترونية على الأبعاد السياسية، فالقانون الذي يُقر أن “90% من العاملين في التجارة الإلكترونية في فلسطين من الإناث” يتجاهل واقع النساء اللواتي يعملن من البيوت لأسباب اجتماعي واقتصادي، ولا يملكن القدرة على التسجيل الرسمي وما يتطلبه من رسوم وتعامل مع الأنظمة الرقمية والبيروقراطية.
يُطلق على هذا النوع من القوانين “التنظيمات العمياء للنوع الاجتماعي”، وفيها تُصدر قوانين تنظيمية تحقق إقصاء غير مباشر، بفرضها أنظمة صارمة، مهما كان النشاط التجاري محدودًا أو صغيرًا أو غير منظمًا، كما أنه لا يرتبط بمراحل انتقالية تروج له، أو بإعفاءات للطبقات المهمشة، بل على العكس فإن بنيته “إلزامية” تترك مجالًا للشرطة والنيابة العامة للتدخل فيه، ما يحول النسوة من فاعلات اقتصاديات يرمن المرونة في الوصول إلى الدخل، إلى أطراف خاضعة للرقابة والمساءلة بأمر القانون.
وحتى على مستوى عموم الفاعلين في التجارة الإلكترونية، فالقانون مصاغ وفق مبدأ سوء النية، بدلًا من افتراض البراءة، ويقول مدير السياسات والتخطيط عن ذلك أن القانون يستهدف محاربة “بيع سلع مغشوشة أو مضرة بالصحة، وأن الوزارة تتعاون مع الشرطة والنيابة العامة ووزارة الاتصالات لضمان ذلك”.
هنا يدخل المواطن العادي في منطقة أمني عقابي، وسط غياب حماية قانونية أو تعريف مفصل بالقانون، أو أدوات منافسة مع الشركات الكبرى، ونتيجة له يتحمل الأفراد مسؤولية الغش أو الضرر، رغم أن معظم السلع مستوردة، لذا فإن الغش والضرر المتحصل نابع من الموردين الكبار، أو منصات التسويق الأساسية.
وهكذا يتم محاسبة الحلقة الأضعف، بدلًا من المتسبب الرئيسي، ما يفسح المجال لتجريم الاقتصاد غير الرسمي للأفراد، الذي يُعتبر آلية بقاء لهم في مواجهة البطالة والحصار والهشاشة الاقتصادية وتخفيضات الرواتب والاقتطاع من المقاصة والتضخم.
يتعمق ذلك بالنظر لسلسلة قوانين أخرى، مثل قانون خفض استخدام النقد، وقانون المدفوعات الوطنية، فرغم أن الترويج لكليهما قائم على “تنظيم وتحسين الشفافية” إلا أنهما يخضعان جميع المعاملات المالية للرقابة الكاملة، بما فيها تحويل الأموال بين الأفراد.
كما يصادر من الفلسطينيين “مونتهم المالية” بالحد من قدرتهم على الادخار بعيدًا عن البنوك، أو الاحتفاظ بسيولة قادرة على دعمهم في مواجهة الأزمات الاقتصادية وعدم استقرار النظام المصرفي، أو في مواجهة سيناريو شبيه بالوضع المالي في لبنان، حيث انهارت قدرة البنوك على إعادة المدخرات لأصحابها. وحتى في الظروف السياسية الحساسية، سيكون من الصعب استخدام التحويلات لأهداف إنسانية أو مجتمعية “مجرمة” وفق منطق التنسيق الأمني.
يدعم هذا المتجه قانون مكافحة غسيل الأموال، بما يفرضه من إفصاح عن الهوية المالية الرقمية، وانكشاف لكل من له نشاط اقتصادي قائم على دفع نقدي، سواء على مستوى قبول ودائع، أو تحويل أموال أو عملات أجنبية، أو التداول بالأوراق المالية أو الأصول الافتراضية.
اللافت أن قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يتيح تبادل معلومات مالية ومصرفية للفلسطينيين مع الجهات الأجنبية عند الطلب، ويُخضع الأنشطة المالية بحدودها العليا والدنيا للتدقيق -تتبع وتجميد الأموال-، ويفتح المجال أمام إجراءات قضائية عابرة للنظام الفلسطيني تحت مسمى “التعاون القضائي” بحق المخالفين.
وبينما تغيب آليات الحماية أو ضمانات الممارسة الاقتصادية، أو السياسية الفلسطينية، يتحول خطاب “تمويل المقاومة أو “التبرع لغزة” لباعث على المساءلة والضبط ومن ثم العقوبة، حتى لو كان الهدف إنسانيًا.
المواطن أول من يرحل.. السلطة آخر من يبقى
رغم ذلك تطفو على السطح مجموعة من المعيقات التي تقف في وجه القوانين، حتى في أحسن حالاتها، فمن ناحية مجتمعية فإن التحول الرقمي الكامل والسريع صعب وخيالي بالنسبة للمجتمع الفلسطيني، خاصة مع اتساع المناطق المهمشة فيه، وغياب المعرفة التكنولوجية، وتعقيد الخدمات المالية وارتفاع تكلفة تفويضها.
كما أن الثقة بالنظام المصرفي والتحويلات النقدية في أضعف مواقعها، فمن ناحية تعرضت بنوك فلسطينية إبان العملية العسكرية “الإسرائيلية” السور الواقي 2002 للسرقة، ومصادرة خزائن أموال المواطنين فيها، واليوم يتم الاقتطاع من مدخل اقتصادي هام هو المقاصة.
هذا الفعل “الإسرائيلي” يؤكد للفلسطينيين أن نظام البنوك لا يحمي أموالهم ولا خصوصياتهم، وأنه رغم فوائده التقنية يقبل بتجميد أو حظر حساباتهم، أو إخضاعها للتدقيق والمتابعة دون إشعار مسبق، فيما يمكن استخدام بياناتهم لأغراض سياسية أو أمنية.
بل إنها خاضعة تمامًا للأزمات مثلهم، وهو ما حدث في غزة، حين انتقلت مخاوف الأفراد المالية إلى النظام الرسمي، ما عرضهم للاحتكار المالي، والتجميد المصرفي، أو ارتفاع الرسوم والخدمات.
بالمحصلة، فمن الصعب إقناع الجمهور الفلسطيني أن القوانين التي تتبارى مؤسسات السلطة في إخراجها، بينما يخضعون لضائقة مالية ومجتمعية وإنسانية، ستكون لصالحهم، أو أنها تستهدف حمايتهم أو خدمتهم.
يبدو ذلك حالمًا بالنظر لتفاعل مؤسسات السلطة مع إبادة تبعد عشرات الكيلو مترات عنها، أو مع محاولات فردية لمواجهة ضم زاحف نحو عتبة الفلسطيني وتحت شباك منزله، لكن ذلك لا يعني سوى أن المنظومة الرسمية مستمرة في مسارها، غير آبهة لما بقي أو من سيبقى، طالما أن المهم هو “أن تبقى”.