تشهد السجون البريطانية في الآونة الأخيرة إضرابًا مفتوحًا عن الطعام داخل عدد من المؤسسات العقابية، يقوده هذه المرة نشطاء منظمة “فلسطين أكشن” (التي حظرتها بريطانيا في يوليو/تموز 2025) الذين اعتقلتهم السلطات خلال العام الجاري على خلفية أنشطتهم المناهضة للدعم البريطاني للكيان الإسرائيلي والداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني.
ويكشف هذا الإضراب، المستمر منذ الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، حجم التناقض الواضح في الخطاب البريطاني حول الحريات وحقوق الإنسان، حيث تتهاوى هذه المزاعم أمام ممارسات عقابية صارمة تستهدف كل ما يتصل بالقضية الفلسطينية، وهنا تتجلى ازدواجية المعايير البريطانية بوصفها انحيازًا سياسيًا وأيديولوجيًا، يهدف إلى ردع أي صوت ينتقد تل أبيب أو يفضح طبيعة التحالف الغربي معها، الأمر الذي يضع السياسات البريطانية الرسمية موضع مساءلة مباشرة.
أما طريقة تعامل حكومة كير ستارمر مع الإضراب، والمسوغات التي تسوقها لتبرير سياساتها، والمتخندقة خلف جدران القانون، فتكشف هي الأخرى تحولًا أعمق في الدور البريطاني المتأرجح؛ من دولة طالما قدّمت نفسها كمرجعية قانونية وحقوقية، إلى فاعل سياسي يوظف أدوات القانون والأمن لتلميع صورة إسرائيل خارجيًا، وقمع أي محاولة داخلية لتحدي هذه السردية أو فضح كلفتها الأخلاقية والإنسانية.
تفاصيل الإضراب
انطلق الإضراب في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، بمبادرة من عدد من نشطاء حركة “فلسطين أكشن” الذين اعتقلتهم السلطات خلال الأشهر الماضية، بعضهم جرى اعتقاله حتى قبل قرار حظر الحركة رسميًا في يوليو/تموز الماضي، ما يشي بأن المقاربة الأمنية سبقت الغطاء القانوني، الأمر الذي يكشف النوايا المبيتة.
وقد بدأ الإضراب بثمانية معتقلين فقط، قبل أن يتسع تدريجيًا، بعدما بات على مشارف يومه الخمسين، وسط تدهور صحي بالغ الخطورة شمل فقدانًا حادًا في الوزن وحالات إغماء متكررة، ما استدعى نقل سبعة مضربين إلى المستشفى منذ انطلاقه.
“فلسطين أكشن”: حركة بريطانية رفعت كلفة التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي
وكان أول من شرع في الإضراب كل من قيصر زُهرة (20 عامًا) وآمو جيب (30 عامًا) داخل سجن برونزفيلد، قبل أن تلتحق بهما هبة مورايسي (31 عامًا) من سجن نيو هول، كما يضم الإضراب كذلك توتا خوجة (29 عامًا)، وكمران أحمد (28 عامًا)، ولوي تشياراميلو (22 عامًا)، في حين اضطر عدد آخر من المعتقلين إلى تعليق مشاركتهم بسبب مضاعفات صحية خطيرة، ما يعكس الكلفة الإنسانية المتصاعدة لهذا الاحتجاج.
ويواجه النشطاء المضربون اتهامات تتعلق باقتحام قاعدة برايز نورتون الجوية التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني في يونيو/حزيران، بينما يُلاحق آخرون بقضايا مرتبطة باقتحام منشآت شركة “إلبيت سيستمز” للصناعات الدفاعية ( المزود الرئيسي لإسرائيل بالسلاح) عام 2024، وقد نفى جميع المعتقلين هذه التهم.
التوقيت.. فلسطين كلمة السر
في مقال نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية، قدّم الناشط البريطاني المعتقل “آمو غيب” روايته لأسباب دخوله في إضراب مفتوح عن الطعام داخل سجن برونزفيلد، مسلطًا الضوء على الخلفيات السياسية والأخلاقية لخطوته، وعلى طبيعة التهم الموجّهة إليه.
غيب اعتبر أن إضرابه، الذي يخوضه مع عدد من زملائه منذ 48 يومًا، ليس فعلًا احتجاجيًا فرديًا، بل موقفًا سياسيًا يستهدف تحميل الدولة البريطانية مسؤوليتها التاريخية والمعاصرة عمّا يجري في فلسطين.
وأوضح أن الإضراب انطلق في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، بالتزامن مع الذكرى السنوية لوعد بلفور، معتبرًا أن ذلك الوعد مثّل اللحظة التي “زرعت فيها بريطانيا بذور الإبادة الجماعية التي نشهدها اليوم”.
A young man in Britain was arrested for attending a Zoom meeting with the Palestine Action movement.
Britain will arrest you for a pro-Palestine Zoom meeting but will roll out the red carpet for Israeli officials who openly call for genocide. pic.twitter.com/kYvDHUnZTx
— Nadira Ali🇵🇸 (@Nadira_ali12) December 28, 2025
ووضع الناشط البريطاني بهذا الربط الزمني والسياسي، إضرابه في سياق نقد أوسع للدور البريطاني، ليس فقط بوصفه داعمًا لإسرائيل في حربها الأخيرة ضد غزة، بل كشريك مؤسس في المأساة الفلسطينية منذ بداياتها الاستعمارية.
وعن تشكّل وعيه بالقضية الفلسطينية، قال غيب إنه تعرّف إليها لأول مرة خلال دراسته الثانوية، لا عبر المناهج التعليمية، بل من خلال طالبات مسلمات شابات، وأقرّ بأنه لم يكن مدركًا حينها للسياق التاريخي الكامل، إلا أن مشاهد قصف المدنيين تركت أثرًا عميقًا لديه، قبل أن يكتشف أن ما بدا له صادمًا في البداية لم يكن حدثًا استثنائيًا، بل نمطًا متكررًا يتجدد عامًا بعد عام، ما شكّل دافعًا أساسيًا لموقفه السياسي الراهن.
ما المطالب المرفوعة؟
بحسب شهادات “غيب” وغيره من النشطاء المعتقلين في السجون البريطانية، فهناك خمسة مطالب رئيسية لإنهاء هذا الإضراب:
- إغلاق مصانع الأسلحة التي تُزود إسرائيل بالأسلحة.
- رفع الحظر عن حركة فلسطين أكشن.
- وضع حد لسوء معاملة السجناء.
- الإفراج بكفالة فورية عن المحتجزين، في ظل المعاناة النفسية والاجتماعية لذويهم في الخارج بجانب ما يتعرضون له من انتهاكات في الداخل.
- توفير محاكمة عادلة، بما في ذلك الإفراج الكامل عن المُراسلات المتعلقة بالناشطين بين المسؤولين البريطانيين والإسرائيليين وتجار الأسلحة.
انتهاكات بالجملة داخل السجون
وفق شهادة الدكتور جيمس سميث، طبيب الطوارئ والمحاضر في كلية لندن الجامعية، واستنادًا إلى تواصله المباشر مع عدد من النشطاء المضربين عن الطعام وعائلاتهم، فإن بعض هؤلاء المعتقلين “يموتون ببطء”، في توصيف صادم نقلته صحيفة “الغارديان”.
ويوضح سميث أن الجسم، بعد نحو ثلاثة أسابيع من الإضراب (تجاوز الإضراب ضعف تلك المدة حتى اليوم) يستنفد مخزون الدهون بالكامل، ليبدأ بتفكيك العضلات وأنسجة الأعضاء من أجل توليد الحد الأدنى من الطاقة اللازمة للبقاء، ما يفتح الباب أمام اختلالات جسدية مفاجئة وغير متوقعة قد تكون قاتلة.
بالتوازي مع التدهور الصحي، كشف معتقلون من نشطاء “فلسطين أكشن” عن ظروف احتجاز قمعية داخل السجون البريطانية، حيث تحدّثوا عن أوامر تمنعهم من التواصل في ما بينهم، وتقيّد حركتهم اليومية، وتعبث بزياراتهم وبرامجهم الرياضية، فضلًا عن فرض رقابة مشددة على كتاباتهم ومنشوراتهم.
وفي هذا السياق، روى آمو غيب أنه مُنع من الانضمام إلى مجموعة الحرف اليدوية بزعم أنه “يشكّل تهديدًا أمنيًا”، فقط لأنه طرز عبارة “فلسطين حرة” على وسادة، في مفارقة لافتة تزامنت -بحسب قوله- مع اليوم الذي أعلنت فيه المملكة المتحدة اعترافها بدولة فلسطين.
وأوضح غيب أن الإضراب ترك آثارًا جسدية قاسية عليه، إذ فقد نحو 11 كيلوغرامًا من وزنه، وأصبح يتحرك ببطء شديد، مع انخفاض حاد في مستوى السكر في الدم وارتفاع مقلق في نسبة الكيتونات.
ما الرسالة المراد توصيلها؟
يرى المضربون عن الطعام أن وسيلتهم الاحتجاجية السلمية، رغم قسوتها السياسية والإنسانية، لا تُحدث اختراقًا مباشرًا أو تحقق نتائج فورية في ميزان القوة القائم، إلا أن التراجع عنها يعني القبول بمنطق الامتثال الذي تسعى الدولة لفرضه.
ومن هذا المنطلق، يصبح الاستمرار في الإضراب فعلًا واعيًا ومدروسًا لمواجهة انتهاكات الحكومة البريطانية وتواطئها مع حروب الإبادة ضد الفلسطينيين، حتى وإن بدا الثمن فادحًا والجدوى الآنية محدودة وربما غائبة.
ويؤكد المضربون أن معيار “الانتصار المطلق” لا يُقاس دائمًا بالنتائج المادية المباشرة، بل بما يُرسَّخ من عادات سياسية وأخلاقية داخل الجماعة، فممارسة المقاومة- في مقابل الامتثال والاستسلام- تُبنى عبر الثقة المتبادلة والرعاية والتضامن.
وهذه الممارسة، كما يقولون، تذكّرهم بأن الخيارات لا تُسلب بالكامل، وأن الخيال السياسي يظل حيًا حتى في أقسى ظروف القهر، وهو ما يمنح معنى للاستمرار ويجعل الفعل المقاوم شكلًا من أشكال الحياة ذاتها.
ومن هذا المنظور، يتجاوز الإضراب كونه احتجاجًا فرديًا ليصبح إعلانًا سياسيًا بأن السجن لا يلغي الحرية حين يُقابَل بالفعل الواعي، فالمضربون يرون أن لا منطق ولا شرعية لاعتقالهم، لكن قدرتهم على الفعل من داخل السجن تؤكد أن الدولة، مهما امتلكت من أدوات قمع، لا تستطيع تعطيل الالتزام الأخلاقي المستمر تجاه تحرير فلسطين، ولا كسر الشعور بالمسؤولية تجاه الناس والقضية، مهما بلغت قسوة الظروف.
وردًا على هذا الاحتجاج السلمي داخل السجون وطريقة تعامل السلطات معه، خرج العشرات من النشطاء في مدن بريطانيا في تظاهرات داعمة للمعتقلين المضربين، مؤكدين عدالة ومشروعية مطالبهم، ومنددين بسياسة حكومة ستارمر في تعاملها مع كل من يغرد خارج سربها، وانتهاجها استراتيجية القمع كخيار وحيد في مواجهة أصحاب الرأي.
قلق حقوقي
على المستوى الحقوقي، فمنذ بدء الإضراب بدايات الشهر الماضي، وتتصاعد حالة قلق متزايدة في الأوساط الحقوقية، وسط تحذيرات من تجاهل رسمي لمخاطر قد تفضي إلى فقدان أرواح محتجزين لم تصدر بحقهم أحكام نهائية بعد، بما يثير تساؤلات جدية حول مدى التزام الدولة بواجبها القانوني والأخلاقي في حماية من هم تحت سلطتها المباشرة.
ونقلت الصحافة البريطانية عن عائلات المعتقلين مخاوف عميقة من أن يؤدي استمرار الإضراب، في ظل غياب أي أفق سياسي أو قانوني للحل، إلى عواقب لا يمكن تداركها، داعية إلى تدخل حكومي عاجل وفتح قنوات حوار حقيقية قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة.
Swedish activist Greta Thunberg has been arrested at a protest supporting Palestine Action members in London.
Footage appears to show the 22-year-old holding a sign that reads 'I support the Palestine Action prisoners. I oppose genocide."
City of London police said it has… pic.twitter.com/Q4eQKWvZWR
— Channel 4 News (@Channel4News) December 23, 2025
في المقابل، اكتفت وزارة العدل البريطانية، بحسب ما أوردته وسائل إعلام محلية، بالتأكيد على أن المضربين يتلقون الرعاية الطبية وفق البروتوكولات المعتمدة، من دون أي تعليق على الأسس القانونية للاحتجاز أو المطالب السياسية والحقوقية للمضربين.
واعتبرت منظمة “كيج” (منظمة حقوقية بريطانية مستقلة تُعنى بالدفاع عن الحريات المدنية وحقوق الإنسان) أن استعداد محتجزين للمخاطرة بحياتهم داخل الحجز الرسمي يشكّل “جرس إنذار أخلاقيًا وقانونيًا” يتجاوز أوضاع هؤلاء الأفراد، ليطال سلامة منظومة العدالة وسيادة القانون في بريطانيا، محذّرة من أن تجاهل قضية نشطاء “فلسطين أكشن” قد يرسّخ سابقة خطيرة تُفرغ واجب الرعاية في أماكن الاحتجاز من مضمونه، وتجعل الإضراب عن الطعام الملاذ الأخير لانتزاع الحقوق الأساسية.
حكومة ستارتر وشيطنة دعم فلسطين
بعيدًا عن خطاب لندن التقليدي حول الحريات والحقوق، والذي بات أقرب إلى شعارات براغماتية جوفاء، أرست حكومة كير ستارمر سابقة قانونية تُعد الأخطر حقوقيًا منذ عقود، عبر توسيع تطبيق قانون الإرهاب لعام 2000 ليشمل حركات سياسية غير مسلّحة.
هذا التوسيع منح السلطة التنفيذية صلاحيات شبه مطلقة لحظر جماعات سياسية وتجريم مجرد التعاطف معها أو مناقشة أفكارها، في انتقال ممنهج واضح من استهداف العنف إلى استهداف الفكر والرأي، بحيث أصبح سرد الوقائع أو تحليل السياق السياسي والقانوني مهددًا بالتصنيف كـ”جريمة إرهابية”.
تجسّد هذا التحول بشكل أكثر حدّة في تعديل المادة 12 عام 2019، التي جرّمت إبداء أي “رأي أو اعتقاد داعم” لمنظمة محظورة إذا كان من الممكن، ولو افتراضيًا، أن يشجع الآخرين على دعمها، مع عقوبات تصل إلى 14 عامًا سجنًا.
— Jonathan Cook (@Jonathan_K_Cook) December 22, 2025
وبهذا الغموض المقصود، وضع هذا النص الصحفيين والمحامين ومنظمات حقوق الإنسان في مواجهة حقل ألغام قانوني، حيث باتت مناقشة الإبادة في غزة، أو تقديم تحليل قانوني لأفعال منظمة “فلسطين أكشن”، أو حتى تفنيد الرواية الرسمية، أفعالًا قد تفضي إلى الملاحقة، ما رسّخ مناخًا واسعًا من الخوف والرقابة الذاتية داخل الفضاء العام.
لم يقتصر أثر هذا الإطار القانوني على إسكات الأصوات الناقدة وفقط، بل مكّن الحكومة من احتكار السردية العامة وبث معلومات مضللة بلا مساءلة، كما في ادعاءاتها غير المثبتة بشأن تمويل المنظمة أو طبيعة أهدافها.
ومع إحجام مؤسسات إعلامية كبرى، وفي مقدمتها “بي بي سي”، عن التغطية خوفًا من العواقب القانونية، تُرك المجال العام خاليًا إلا من الرواية الرسمية، ومن هنا يتضح أن غموض القانون ليس خللًا عرضيًا، بل أداة مقصودة لإنتاج “أثر مُخيف” يفرغ الخطاب الحقوقي البريطاني من مضمونه، ويحوّل دولة تزعم حماية الحريات إلى نموذج تشريعي يُجرّم الحقيقة حينما تُربك السلطة.
ازدواجية فاضحة
أماطت تحركات لندن لتشريع قمع المتعاطفين مع القضية الفلسطينية اللثام عن حجم التناقض الصارخ بين شعاراتها المعلنة حول دعم حقوق الفلسطينيين وحل الدولتين، وبين واقع سياساتها وممارساتها على الأرض، فبينما تتحدث المملكة عن مبادئ ومواقف حقوقية، تكشف الوقائع اليومية عن ممارسات عكسية تُظهر الدولة شريكًا متواطئًا في الجرائم المرتكبة ضد المدنيين الفلسطينيين.
وكشف تقرير سابق لـ “نون بوست” عن مدى التواطؤ البريطاني الفاضح في الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة، لدرجة تجعلها شريكًا مسؤولًا يستوجب المحاسبة والملاحقة القانونية.
فالإجراءات الرمزية التي اتخذتها حكومة ستارمر، مثل تعليق محادثات بعض الاتفاقيات التجارية مع تل أبيب أو فرض عقوبات محدودة على مستوطنين غير شرعيين في الضفة الغربية، لا تعدو أن تكون ذر رماد في العيون، محاولات فاشلة لتجميل صورة بريطانيا وامتصاص غضب الرأي العام الغاضب من هذا التواطؤ.
وتأتي هذه الأحداث لتفضح المستور وتسقط الأقنعة، مؤكدة أن سياسات الحكومة البريطانية في هذا السياق ليست سوى تغطية سطحية مكشوفة على واقع ممارسات متواطئة، وأن دعم حقوق الفلسطينيين لا يزال شعارًا متباينًا تمامًا وعكس الاتجاه الأخلاقي والإنساني للفعل السياسي الحقيقي الممارس على الأرض.