في كل مرة تشهد فيها منطقة الكاريبي أو أمريكا اللاتينية لحظة توتر سياسي أو إعادة اصطفاف إقليمي، تميل أمريكا إلى استدعاء سردية “التهديد الخارجي” من معجمها التقليدي، فكما كان “الخطر الشيوعي” خلال الحرب الباردة، ثم “الإرهاب” بعد هجمات 11 سبتمبر، يُعاد اليوم إنتاج “التهديد الإيراني” في فنزويلا، بوصفه الخطر الجديد الذي يبرر العقوبات والحصار والضغط السياسي وإعادة عسكرة الخطاب تجاه هذه الدولة والمنطقة بأسرها.
هذا الإطار الخطابي تجلّى مؤخرًا في تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، الذي قاد التصعيد ضد فنزويلا بتوصيفها مركزًا لحضور إيران والحرس الثوري وحزب الله في أمريكا الجنوبية بتعاون كامل وعلني من النظام الفنزويلي، ثم صعّّد لهجته لاحقًا بوضعها في صدارة ما وصفه بـ”أخطر التهديدات القادمة من نصف الكرة الغربي” في صياغة تختزل أزمة معقدة في سردية أمنية واحدة تجمع الإرهاب والجريمة والتحالف مع طهران.
لا يمكن فصل هذا الخطاب عن التصعيد المستمر بين واشنطن وكاراكاس، ولا عن رؤية أمريكية أوسع تعتبر أي نفوذ خارج المنظومة الغربية في أمريكا اللاتينية اختراقًا غير مشروع لمجال نفوذ تقليدي، غير أن اللافت في هذه السردية ليس فقط تضخيم الدور الإيراني، بل نقل الصراع مع إيران من الشرق الأوسط إلى نصف الكرة الغربي، وتحديدًا إلى فنزويلا، الدولة التي تمثل منذ عقدين رمزًا للتمرّد السياسي على الإرادة الأمريكية في أمريكا اللاتينية.
ومن هنا، يصبح السؤال الجوهري ليس عن وجود علاقة بين إيران وفنزويلا، فهذا أمر معلن ومعروف، بل عن طبيعة هذه العلاقة وجذورها وحدودها الفعلية في المنطقة، وما إذا كانت ترقى بالفعل إلى مستوى “التهديد الوجودي” الذي يرسمه الخطاب الأمني الأمريكي.
تعاون تحت ضغط العقوبات.. جذور العلاقة الإيرانية الفنزويلية
الانتقال من تصريحات روبيو إلى تفكيك العلاقة بين بلدين يقعان في قارات مختلفة تمامًا، ويفصل بينهما آلاف الكيلومترات، يفرض – قبل التسليم بسردية “التهديد الإيراني” – ضرورة العودة إلى السياق التاريخي والسياسي الذي نشأت فيه هذه العلاقة، والتوقف عند أبعادها، وفهم مشتركاتها الفعلية وحدودها بعيدًا عن لغة التهويل.
لم تكن العلاقة بين إيران وفنزويلا نتاج أزمة طارئة أو مناورة تكتيكية، بل تشكّلت ضمن سياق دولي شهد صعود خطاب مناهضة الهيمنة الأمريكية، وتعمّقت بشكل خاص منذ مطلع الألفية الجديدة، حين بدأت حكومة كاراكاس مع وصول الرئيس الفنزويلي السابق هوغو تشافيز إلى السلطة، البحث عن حلفاء استراتيجيين خارج النظام الغربي التقليدي.
يشير الباحث في معهد دراسات السياسة (IPS)، جريجوري ويلبرت، في كتابه “تغيير فنزويلا بالاستيلاء على السلطة: تاريخ وسياسات حكومة تشافيز” إلى أن تشافيز لم يكن يبحث عن تحالفات عسكرية بقدر ما كان يسعى إلى بناء شبكة سياسية رمزية من الدول التي تشترك في رفضها للأحادية القطبية الأمريكية.
وفي هذا الإطار، وجدت فنزويلا في إيران – خاصة مع وصول محمود أحمدي نجاد إلى الرئاسة عام 2005 – شريكًا طبيعيًا، لا بحكم الجغرافيا، بل بفعل تقاطع الموقع داخل النظام الدولي كدول “مُستهدفة” بالضغط الأمريكي أكثر منها تحالفًا توسعيًا، لينتقلا تدريجيًا من “التضامن الخطابي” إلى “تعاون سياسي منظم” فرضته اعتبارات المواجهة والعزلة المشتركة.

وبحسب التحليلات، فإن العلاقة الإيرانية الفنزويلية تُفهم ضمن ما يُسمى “تحالفات الهامش الدولي”، أي التحالفات التي تنشأ بين دول لا تسعى إلى الهيمنة، بل إلى تقليص قدرتها على التعرّض للابتزاز، وهذا ما يفسّر سبب صمود العلاقة رغم تغيّر الظروف، والكلفة السياسية والاقتصادية التي تحملتها فنزويلا نتيجة التقارب مع إيران.
ويتمثل أحد أهم أبعاد هذه العلاقة في الخطاب الأيديولوجي المشترك، الذي لا يمكن اختزاله في شعارات معادية لأمريكا، بل يقوم على رؤية متقاربة لطبيعة النظام الدولي تقوم على اعتبار العقوبات الاقتصادية شكلاً من أشكال الحرب غير المعلنة، والدفاع عن مفهوم “السيادة الاقتصادية” في مواجهة العقوبات والتدخلات والمؤسسات المالية الدولية التي يهيمن عليها الغرب، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
اقتصاديًا، لا يمكن فهم التعاون بين إيران وفنزويلا خارج السياق القسري الذي فرضته العقوبات الأمريكية على البلدين، خصوصًا منذ تشديد سياسة “الضغط القصوى” خلال إدارة ترامب الأولى. في هذه اللحظة، لم يكن التعاون مع إيران خيارًا أيديولوجيًا بقدر ما كان خيار بقاء اقتصادي.
في البداية، تركز التعاون بين الدولتين على قطاع الطاقة، حيث قدمت إيران بعد عام 2018 مساعدات تقنية لفنزويلا في مجالات النفط والغاز في محاولة للالتفاف على العقوبات، وأقامت مشاريع مشتركة لإنتاج الوقود محليًا وتحسين القدرة التكريرية لفنزويلا، خاصة مع انهيار قدرتها على تكرير نفطها نتيجة العقوبات التي استهدفت قطاع الطاقة والبنية التحتية.
كما شملت العلاقة القطاعات المصرفية والبتروكيماويات ونقل التكنولوجيا وقطع الغيار وشحنات وقود إيرانية محدودة جاءت عام 2020 في ذروة أزمة الطاقة الفنزويلية الناتجة عن العقوبات، وساهمت في إعادة تشغيل بعض المصافي المتوقفة، مع بعض المبادرات في مجالات التصنيع العسكري والخدمات اللوجستية.
لم يتضمن هذا التعاون استثمارات استراتيجية ضخمة، ولا سيطرة إيرانية على الموارد الفنزويلية، ولا بناء شبكات اقتصادية طويلة الأمد يمكن اعتبارها اختراقًا للمنطقة، بل على العكس، كانت شحنات الوقود والخبرة التقنية الإيرانية محدودة الحجم، وعالية الكلفة السياسية لكلا الطرفين، وجاءت في ظروف استثنائية فرضها الحصار.
وكان الهدف الفنزويلي من هذا التعاون هو تنويع الشركاء وتقليل الاعتماد على أمريكا، وليس خلق نفوذ إيراني دائم. ومع ذلك، يعد البعد الاقتصادي للعلاقة من أكثر النقاط التي يسيء الخطاب الأمريكي تفسيرها، فغالبًا ما تُقدَّم مشاريع التعاون الإيراني الفنزويلي على أنها أدوات نفوذ أو اختراق، بينما تكشف المعطيات أنها محاولات متبادلة للبقاء الاقتصادي.
وفي هذا السياق، يرى باحثون مثل ستيف إلنر، مؤلف كتاب “إعادة التفكير في السياسة الفنزويلية: الطبقة والصراع وظاهرة تشافيز”، أن فنزويلا لم تستبدل الهيمنة الأمريكية بنفوذ إيراني، بل لجأت إلى تنويع اضطراري لشركائها بهدف تخفيف أثر العقوبات والعزلة، فإيران لا تمتلك أدوات تمويل واسعة للاقتصاد الفنزويلي، ولا نفوذًا سياسيًا أو اجتماعيًا مؤثرًا داخليًا، على خلاف قوى مثل الصين التي تتمتع بنفوذ اقتصادي أعمق، لكنها لا تُقدَّم في الخطاب الأمريكي بالدرجة ذاتها كتهديد أمني مباشر.
سياسيًا، تكمن أهمية العلاقة في بعدها الرمزي أكثر من أي بعد آخر، حيث تمثل فنزويلا لإيران منصة لكسر العزلة الدبلوماسية في نصف الكرة الغربي مع عدم تحمل تكاليف استراتيجية كبيرة، ورسالة سياسية مفادها أن سياسة العزل لا تؤدي بالضرورة إلى الخضوع.
أما بالنسبة لفنزويلا، فإيران تمثل نموذجًا لدولة صمدت – نسبيًا – في مواجهة العقوبات، وشريكًا لا يربط تعاونه بشروط سياسية داخلية، وليس حليفًا عسكريًا يمكنه قلب موازين القوى في نصف الكرة الغربي.
هذه العلاقة، في جوهرها، مبنية على “تضامن المعاقَبين”، ونشأت أساسًا في إطار بحث الدولتين عن هوامش حركة خارج النظام الغربي، ولم تتطور إلى بناء محور تهديد عسكري أو تحالف استراتيجي أمني بالمعنى الذي تروّج له واشنطن.
وتشير الدراسات الأكاديمية إلى أن التعاون ينحصر في حدود شراكة دفاعية اقتصادية فرضتها ظروف الحصار والعقوبات، في حين تظل بعض الأبعاد الرمزية، مثل تبادل الزيارات الدبلوماسية، مؤشرًا على تحالف سياسي ضد الهيمنة الأمريكية، لكنه لا يشير إلى نفوذ فعلي قابل للقياس على القرار الفنزويلي، وهو ما يتجاهله الخطاب الأمريكي عمدًا.
حدود النفوذ الإيراني في الخطاب الأمريكي بين الافتراض والواقع
حين تتحدث واشنطن عن “النفوذ الإيراني” في الكاريبي وأمريكا اللاتينية، فإنها لا تستخدم المصطلح بمعناه التحليلي الدقيق، بل بوصفه مفهومًا أمنيًا فضفاضًا، يُستدعى عند الحاجة السياسية، ويُضخم في الخطاب الأمريكي إلى حد تصويره كاختراق استراتيجي لأمن نصف الكرة الغربي.
في الأدبيات الأكاديمية، يُقاس النفوذ الدولي عبر مؤشرات واضحة تشمل حجم التبادل التجاري والاستثمارات والوجود العسكري أو الأمني والتأثير في المؤسسات الإقليمية والقوة الناعمة (الثقافية والإعلامية والتعليمية)، لكن في الخطاب الأمريكي المتعلق بإيران، يُقاس النفوذ الإيراني بالتصورات والافتراضات والسيناريوهات الأسوأ، ويُعاد تعريفه ليشمل أي وجود دبلوماسي أو أي تعاون اقتصادي خارج المنظومة الغربية أو أي خطاب سياسي مناهض للولايات المتحدة.
وهذا ما تسميه الباحثة في مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين، والمديرة السابقة لبرنامج أمريكا اللاتينية التابع له، سينثيا أرنسون، بـ”الأمننة المفرطة للعلاقات الدولية”، أي تحويل التفاعلات الطبيعية بين الدول إلى تهديدات أمنية. بهذا المعنى، تصبح إيران “نافذة نفوذ” حتى حين لا تمتلك أدوات النفوذ الفعلي.
وعند تفكيك الادعاءات الأمريكية، يتضح أن نفوذها الفعلي في المنطقة محدود النطاق على عكس الصورة التي ترسمها واشنطن، ويتركز في الحضور الدبلوماسي، والاتفاقيات الاقتصادية، وبعض التعاون التقني، وهي أدوات تستخدمها عشرات الدول الكبرى دون أن تُوصَف بالتهديد الوجودي.
على المستوى الدبلوماسي، تمتلك إيران سفارات في عدة دول بأمريكا اللاتينية، لكن هذا الحضور مماثل أو أقل من حضور دول متوسطة القوة، وهو ما تؤكده تقارير خدمة أبحاث الكونجرس، وهي مؤسسة أمريكية رسمية، تشير إلى أن النشاط الإيراني “دبلوماسي واقتصادي بالدرجة الأولى”.
الأهم هنا أن إيران ليست فاعلًا اقتصاديًا مركزيًا في أمريكا اللاتينية، فحتى في ذروة التعاون مع فنزويلا، ظل حجم التبادل التجاري محدودًا للغاية مقارنة بالصين (أكبر شريك تجاري للمنطقة) أو حتى الاتحاد الأوروبي، ولا يتجاوز بضعة مليارات سنويًا في أفضل التقديرات، ويتركز في قطاعات ضيقة مرتبطة بتجاوز العقوبات، لا ببناء نفوذ طويل الأمد، ما يدحض فكرة أن إيران بصدد بناء نفوذ اقتصادي واسع في أمريكا اللاتينية.
من منظور جيوسياسي بحت، لا تمتلك إيران الأدوات التي تمكّنها من تحويل فنزويلا إلى منصة تهديد استراتيجي للولايات المتحدة، فالمسافة الجغرافية، والقيود اللوجستية، والقدرات العسكرية المحدودة، كلها عوامل تجعل أي سيناريو عن “تموضع إيراني عسكري” في الكاريبي أقرب إلى الخيال السياسي منه إلى التحليل الأمني.
ووفق معايير النفوذ التقليدية، لا تتحكم إيران في مؤسسات إقليمية، ولا تملك القدرة اللوجستية، ولا الموارد العسكرية، ولا قواعد عسكرية أو شبكات أمنية واسعة في المنطقة يمكن اعتبارها تهديدًا مباشرًا.
وليس ثمة تقارير أممية أو استخباراتية مؤكدة تثبت عكس ذلك، حتى التقييمات الرسمية للقيادة الجنوبية الأمريكية التي تشرف على معظم أمريكا اللاتينية، تتحدث بحذر شديد عن هذا “النفوذ”، وتقر ضمنيًا بعدم وجود خطر إيراني عسكري ملموس فيما تعتبره واشنطن “فنائها الخلفي”.
المفارقة أن أمريكا تمتلك شبكة واسعة من القواعد العسكرية في أمريكا اللاتينية وحول الكاريبي، وتهيمن على المؤسسات المالية، وتنفذ تدريبات عسكرية دورية، وتتدخل مباشرة في السياسة الداخلية لدول المنطقة، وتدير برامج أمنية داخل جيوشها عبر القيادة الجنوبية.
ومع ذلك، تقدم واشنطن فنزويلا بوصفها “بوابة إيران” إلى الكاريبي، ويقدم خطابها النفوذ الإيراني المحدود كخطر وجودي دون أن ترى في ذلك تناقضًا مع خطاب “الاستقرار الإقليمي”، ما يبرز اختلالاً في ميزان التوصيف، وازدواجية المعايير في تعريفها للنفوذ والتهديد.
هذه المقارنة تكشف أن القلق الأمريكي لا ينبع من حجم النفوذ الإيراني، بل من كسر الاحتكار السياسي والرمزي في منطقة اعتادت واشنطن التعامل معها باعتبارها مجال نفوذ حصريًا، وهذا يدل على أن تضخيم النفوذ الإيراني في الخطاب الأمني الأمريكي يأتي لأغراض سياسية أكثر منه تعكس الواقع، ويُستخدم كأداة لصناعة القرار وإعادة إنتاج السياسات القائمة.
“التهديد الإيراني” المبالغ فيه.. خطاب أمريكي يتجاوز حدود الواقع
لا يستهدف الخطاب الأمريكي حول “التهديد الإيراني” فنزويلا أو إيران فقط، بل يتجاوز أثره الداخل الأمريكي ليشمل الحلفاء الإقليميين والدوليين. ففي أمريكا اللاتينية، تُستخدم سردية “النفوذ الإيراني” للضغط على حكومات المنطقة من أجل الاصطفاف خلف واشنطن، أو على الأقل تجنب أي تقارب مع كاراكاس، ومنح الشرعية لأي تصعيد سياسي أو اقتصادي، لإبقاء الكاريبي الصغيرة، التي تعتمد اقتصاديًا على أمريكا، ضمن إطار “الحديقة الخلفية” التي لا يُسمح فيها بنفوذ منافسين.
أما في أوروبا، فيُستدعى الخطاب نفسه لإحباط أي محاولة لانتهاج سياسة أكثر استقلالية تجاه فنزويلا، فحين تحاول بعض الدول الأوروبية الدفع باتجاه حلول دبلوماسية أو إنسانية، يُعاد التذكير بـ”البعد الإيراني” للأزمة، ما يعيد إدخال الملف في خانة الأمن لا السياسة. هذا ما تشير إليه تحليلات في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) – وهو مركز أبحاث أوروبي شامل – ترى أن الخطاب الأمريكي نجح في أمننة الملف الفنزويلي على المستوى العابر للأطلسي.
ولا يمكن فصل هذا الخطاب عن الدور الإسرائيلي في تضخيمه، فـ”إسرائيل”، التي ترى في إيران تهديدها الاستراتيجي الأول، تدفع باتجاه تضخيم أي حضور إيراني في العالم، وربطه تلقائيًا بالصراع الإيراني الإسرائيلي حتى خارج الشرق الأوسط دون اعتبار للفروق الجغرافية والسياسية.
ويبدو الربط بين فنزويلا وأمن “إسرائيل” بعيدًا عن المنطق الجيوسياسي، ويعكس عقلية أمنية توسعية لا قراءة واقعية للجغرافيا، وهواجس تل أبيب ورغبتها في تدويل صراعها مع إيران، ونقله إلى مسارح بعيدة. ومع ذلك، يلقى هذا الربط – وإن بدا هشًا تحليليًا – صدى في واشنطن لأنه يتماشى مع سردية أوسع عن “محور الشر” و”التهديدات العابرة للأقاليم”.
وعلى مستوى الرأي العام، يعمل الإعلام الأمريكي على تعظيم الخطاب الأمني، ويربط إيران تلقائيًا بالإرهاب، ويتجاهل السياق الاقتصادي والاجتماعي لفنزويلا، ويقدم العلاقة بينهما في صور نمطية تُختزل في ناقلات نفط غامضة وشبكات سرية وحرس ثوري ونشاط استخباراتي وصادرات الكوكايين وطائرات مسيّرة وصواريخ محتملة.
هذا التبسيط الذي انتقده مفكرون مثل نعوم تشومسكي في إطار حديثه عن “تصنيع القبول الشعبي عبر الخوف” يخلق وعيًا عامًا لا يرى في أمريكا اللاتينية فضاءً سياسيًا مستقلاً، بل مسرحًا دائمًا لمؤامرات الخصوم، ويمنع نقاشًا عقلانيًا حول الأسباب الحقيقية للأزمات، مثل فشل سياسات الاحتواء والعقوبات، أو دور واشنطن نفسها في زعزعة الاستقرار.
والواقع أن هذا الخطاب يغفل السياق الداخلي للأزمة الفنزويلية، من سياسات اقتصادية فاشلة وانهيار للبنية التحتية وتفشّي الفساد، ويختزلها في نفوذ إيراني خارجي مُتخيَّل. كما يتجاهل محدودية القدرة الإيرانية على تنفيذ مشاريع استراتيجية مستدامة، ويتعامى عن التحولات الإقليمية الأوسع وصعود قوى دولية أخرى كالصين وروسيا على حساب تراجع الهيمنة الأمريكية، ليبقى “التهديد الإيراني” جزءًا من خطاب يرفض الإقرار بعالم متعدد الأقطاب.
في المقابل، يُغيَّب أي نقاش نقدي لفشل السياسات الأمريكية نفسها، إذ يُقدَّم التشكيك في العقوبات أو الدعوة لمراجعتها بوصفه “تساهلاً مع التهديد”، وهذا يعني غياب الاعتراف بتأثير العقوبات الأمريكية نفسها في دفع فنزويلا إلى تنويع تحالفاتها والبحث عن بدائل خارج النظام الذي تهيمن عليه واشنطن، مستفيدة من فراغ اقتصادي خلقته السياسات الأمريكية نفسها، ثم أدانت مَنْ ملأه، فضلاً عن تجاهل مبدأ سيادة الدول وازدواجية المعايير التي تبيح لأمريكا تحالفات وتدخلات عالمية، بينما تجرّم خيارات مشابهة حين لا تمر عبرها.
هذه الفجوات بين الادعاء والوقائع تجعل الخطاب الأمني “المُسَيَّس” المستخدم لتبرير سياسات قائمة سلفًا، والمدعوم بالرواية الإسرائيلية، أكثر فعالية في تأطير أي خروج عن طوعها كخطر أمني والتحكم بالقرار العام والسياسات، لكنها في الوقت نفسه تقلل القدرة على التعلم والتكيف مع عالم يتجه نحو تعددية قطبية أوسع تتيح للدول هامشًا أوسع للبحث عن شراكات بديلة، فيما تتزايد نقمة شعوب أمريكا اللاتينية على اختزال بلدانها في ساحات صراع بالوكالة.