تكشفت خلال السنوات الأخيرة سلسلة مؤشرات تربط “إسرائيل” بالملياردير الأمريكي جيفري إبستين، المدان بجرائم جنسية والاتجار بالقاصرات، والذي عُثر عليه ميتا في السجن عام 2019.
فقد أظهرت تسريبات ووثائق أن علاقة إبستين تجاوزت حدود الصداقات العادية لتلامس مستويات سياسية وأمنية رفيعة في “إسرائيل”. ومما زاد من الشكوك صورة حديثة له مرتديًا كنزة تحمل شعار قوات جيش الاحتلال.
في هذا التقرير، نستعرض العلاقة الغامضة بين إبستين و”إسرائيل”، من لقاءاته مع مسؤولين كبار واستثمارات مالية مشتركة، مرورًا بشواهد صلات استخباراتية محتملة، وصولًا إلى خلفياتها وأسبابها المفترضة.
صداقة إبستين وإيهود باراك
إحدى أبرز حلقات اتصال إبستين بدولة الاحتلال، تمثّلت بعلاقته الوطيدة برئيس الوزراء ووزير جيش الاحتلال الأسبق إيهود باراك.
تشير وثائق مسرَّبة – منها سجلات لجداول مواعيد إبستين الخاصة – إلى أن باراك زار الملياردير الأمريكي عشرات المرات خلال أعوام 2013-2017، في نيويورك وفلوريدا، بل وسافر معه على متن طائرته الخاصة عام 2014 من بالم بيتش إلى تامبا، وفق صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”.
ورغم أن تلك اللقاءات جاءت بعد إدانة إبستين الأولى عام 2008 بتهمة استغلال قاصر، أصرّ باراك على أنه لم يكن على دراية بأي نشاط غير قانوني لصديقه.
وتوثّق الصحيفة أيضًا لقاءات دورية بينهما، حيث اجتمع باراك بإبستين شهريًا تقريبًا لنحو عام ابتداءً من أواخر 2015.
لم تقتصر العلاقة على اللقاءات الاجتماعية، بل امتدت إلى شراكات عمل؛ فقد دخل باراك وإبستين في أعمال واستثمارات مشتركة.
أبرز الأعمال والاستثمارات
أكد باراك بنفسه وجود هذه العلاقة التجارية مع إبستين، فما أبرز مؤشراتها:
- لعب إبستين دور المموِّل والمستشار في عدد من المشاريع ذات الصلة بـ”تل أبيب”.
- موّل إبستين شركة تكنولوجيا إسرائيلية ناشئة مرتبطة بباراك بحوالي مليون دولار أمريكي عام 2015.
- باراك اعتمد على إبستين كمستشار مالي وصديق مقرب في بحثه عن فرص استثمارية وتقنية بعد تركه المنصب.
- ناقشا مشروعاً لبيع شركة نفط أميركية كبرى.
- فكّرا في الاستثمار بشركة “لايت آند سترونغ” الإسرائيلية، والتي كانت تطوّر طائرات مُسيرة عالية التحمل تعمل بالطاقة الشمسية.
- موّل إبستين شركة التقنيات الناشئة “كاربين (Carbyne)” المعنية بخدمات الطوارئ، والتي يُعد باراك أحد المساهمين الرئيسيين فيها. ووفق تحقيق صحفي لموقع “بيزنس إنسايدر“، بلغت مساهمة إبستين في تلك الشركة عدة ملايين الدولارات.
وأثارت هذه المعاملات المالية تساؤلات حول دوافع الملياردير: هل كانت بدافع الربح فقط، أم جزءًا من شبكة نفوذ أوسع تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة والأمن؟

زيارات واعترافات متأخرة
تكشف مراسلات البريد الإلكتروني المسرّبة أن إبستين لم يتردد في دعوة باراك إلى معاقله الخاصة.
ففي إحدى الرسائل، دعا الملياردير الأمريكي، باراك وزوجته لزيارة جزيرته “ليتل سانت جيمس” الكاريبية – المعروفة إعلاميًا بـ”جزيرة إبستين” – ووُضعت ترتيبات لسفرهما في ديسمبر 2014.
تؤكد رسالة لاحقة شكر باراك لإبستين على “حسن الضيافة” في تلك الجزيرة “الرائعة والمثيرة للإعجاب”، ما يدل على أن الزيارة تمت بالفعل.
بعد انفجار فضيحة إبستين عام 2019، سارع باراك إلى النأي بنفسه، فصرّح أنه قطع كل صلاته بالملياردير الأمريكي.
وفي مقابلة عام 2023، شدد على أنه لم يشارك قط في أي حفلات أو فعاليات مشبوهة برفقته، نافياً رؤيته لفتيات قاصرات أو تورطه في أي سلوك غير لائق خلال لقاءاتهما.
ومع ذلك، سببت هذه العلاقة الحرج لباراك سياسياً؛ إذ طفت على السطح عشية حملته للعودة إلى الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) عام 2019، مما أثّر سلباً على صورته أمام الناخبين.
ظلال الموساد
تتعمق الشبهات أكثر مع الكشف عن دور شخصيات أمنية في شبكة إبستين. إذ أفادت وثائق لجنة الرقابة في الكونغرس الأمريكي ورسائل مُخترَقة بأن يوني كورين – وهو ضابط استخبارات إسرائيلي سابق ومساعد مقرّب لباراك – أقام مراراً في مقر إقامته الفاخر بمانهاتن خلال 2013-2015.
وكان كورين مخضرم في العمليات السرية لجهاز الاستخبارات الخارجي “الموساد” وتولى سابقًا منصب مدير مكتب باراك في وزارة الجيش.
تُظهر المراسلات أن كورين لم يكن مجرد زائر عابر، بل أمضى أسابيع في ضيافة إبستين، وأدى مهاماً بطابع سري.
فقد نسّق اجتماعات رفيعة المستوى بين مسؤولين أمنيين أمريكيين وإسرائيليين، وساعد باراك في استكشاف شركات أمن سيبراني انبثقت عن وحدات تابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
الأخطر أن هناك مراسلات بين إبستين وباراك تتعلق بتحويلات مالية تخص كورين، بما في ذلك تزويد الملياردير لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بتفاصيل حساب مصرفي باسم ضابط الاستخبارات السابق لترتيب حوالة مالية غامضة عام 2015.
وفي واقعة مريبة أخرى، وجّه باراك مساعده كورين لاستلام طرد غامض من أحد فنادق نيويورك يحتوي على سماعات إلكترونية وبطاقة مصرفية، مع تعليمات مشفّرة حول استرجاع أموال نقدية.
وبقي كورين على صلة بالأجهزة الاستخبارية حتى وفاته عام 2023، ونعاه باراك بوصفه “ضابط استخبارات موهوبًا… شديد الولاء للدولة”.
وإلى جانب صداقاته مع شخصيات رفيعة واستثماره في شركات أمنية إسرائيلية، هناك قرائن رمزية أثارت الجدل.
منها صورة إبستين مرتديًا كنزة بشعار جيش الاحتلال على متن طائرته الخاصة. وقد نشرها أحد مساعديه السابقين الأمر الذي رأى فيه البعض إشارة ولاء أو رسالة مبطنة تدل على صلة ما بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.

كما أن مساعدته الرئيسية غيسلين هي ابنة رجل الأعمال روبرت ماكسويل، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الموساد.
وقد صرّح المسؤول السابق في المخابرات الإسرائيلية آري بن مناشيه أن إبستين وماكسويل نفذا لحساب الموساد مهمة تجنيد شخصيات نافذة في فخاخ جنسية بهدف الابتزاز.
ولاقت هذه المعطيات صدىً مع الكشف عن نمط حياة إبستين الذي قام على استدراج سياسيين ورجال أعمال إلى دواوينه الخاصة وتصويرهم في مواقف محرجة.
أبعاد وأسباب محتملة
ويبقى السؤال: لماذا قد يرتبط إبستين بدولة كـ”إسرائيل” أو بجهاز استخباراتها؟، فيما يربط محللون ذلك بمصالح متبادلة محتملة.
فمن جهة، امتلك إبستين شبكة علاقات دولية مع نخبة السياسة والمال تمكنه من الوصول إلى معلومات حساسة؛ ومن جهة أخرى، يُعتقد أنه استفاد من غض طرف أو دعم من أجهزة نافذة مقابل خدمات استخبارية.
وأجرى إبستين زيارة إلى “إسرائيل” عام 2008 قبيل سجنه لأول مرة، ما أثار تكهنات عن العلاقة قبل أن يعود للخضوع للمحاكمة.
كما تناقلت تقارير أنه تباهى بدورٍ له في السياسة الإسرائيلية الداخلية؛ إذ زعم أنه ساعد إيهود باراك في تحدّي خصمه بنيامين نتنياهو خلال انتخابات 2019.
في المحصلة، تكشف خيوط هذه القصة أن إبستين لم يكن مجرد مجرم جنسي ثري، بل ربما حلقة وصل في لعبة نفوذ دولية تتجاوز حدود بلده.
وقد دفعت هذه الشبهات الكونغرس الأمريكي إلى سنّ تشريع يلزم وزارة العدل بنشر كل ملفات إبستين، في خطوة يأمل منها المراقبون جلاء الحقيقة كاملة.
وفي 25 ديسمبر/كانون الأول 2025، أعلنت وزارة العدل الأمريكية حصولها على أكثر من مليون وثيقة يُحتمل ارتباطها بقضية إبستين، من مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي”، ومكتب الادعاء العام للمنطقة الجنوبية من نيويورك.
وقالت إنها تسلمت هذه الوثائق وتعمل على إجراء عمليات التنقيح والحجب التي يفرضها القانون لحماية الضحايا، وأن الوثائق ستنشر في أقرب وقت ممكن.
وبينما يواصل الإعلام الكشف عن صور ووثائق جديدة – بينها صور تجمع إبستين بشخصيات عالمية وصكوك سفر وجوازات غامضة – تبقى العلاقة بين إبستين و”إسرائيل” إحدى أكثر زوايا قضيته إثارة للجدل والأسئلة، في انتظار إجابات شافية ربما تحملها الأيام المقبلة.