إن سيطرة الجماعات المرتبطة بالدعم السريع والأفراد التابعين لها في دارفور على الموارد، بما في ذلك الأسواق وطرق الإمداد والتنقيب عن الذهب، تقف وراءها تاريخٌ طويل من تشريد السكان قسرًا، تمهيدًا لإعادة تشكيل البنية الاجتماعية بمهلٍ دون استعجال.
يعود تاريخ تنزيح السكان في دارفور بغرض إحلال آخرين محلّهم إلى حملة قمع التمرد بواسطة المليشيات العربية التي استعانت بها الحكومة اعتبارًا من عام 2003، حيث شنّت هجمات واسعة النطاق على القرى، خاصة في وسط وغرب دارفور، مما أدى إلى فرار السكان إلى مخيمات حول المدن.
وتحوّلت مخيمات مثل كلمة وعطاش قرب نيالا بولاية جنوب دارفور، والحصاحيصا في زالنجي بوسط دارفور، بمرور الوقت إلى تجمعات سكانية تضم أحياءً ومدارسَ وأسواقًا ومصادرَ مياه ومرافقَ صحية، مع تلاشي الأمل تدريجيًا في عودة النازحين إلى مناطقهم الأصلية، رغم مرور عقدين على فرارهم.
اعتمدت قوات الدعم السريع، التي تشكّلت من المليشيات العربية، على هذا التاريخ، محوِّلةً النزوح من نتيجة لفرار المدنيين من العنف إلى أداة لإعادة تشكيل ديمغرافية دارفور، عبر العنف وإعادة توزيع الأرض، مستغلةً تركيز الأنظار على المعارك والأزمة الإنسانية.
من مرتزقة #دارفور إلى قوة تلتهم الدولة، هكذا تحوّلت #ميليشيا_الدعم_السريع إلى أداة حرب ودمار تمزّق #السودان، وتفرض حصارًا قاتلًا على #الفاشر، المدنيون يدفعون ثمن طموحات الجنرالات وجشع العسكر، فيما يغيب الضمير الإنساني.
#حميدتي#الجيش_السوداني https://t.co/ozehCqrcah— نون بوست (@NoonPost) October 28, 2025
نماذج من الأرض
بدأت أولى محاولات الدعم السريع في إحداث تغيير ديمغرافي في أكتوبر/تشرين الأول 2024، عندما أسست إمارة جديدة لمجموعة عربية وافدة من أفريقيا الوسطى في ولاية وسط دارفور، في خطوة وصفها أحد قادة الفور بأنها احتلال للأراضي القبلية التاريخية.
ويقول الناشط الحقوقي عباس عبد الكبير إن إنشاء إمارة لمجموعة وافدة يُعد جزءًا من سلسلة التغيير الديمغرافي المستمرة منذ وقت طويل بولاية وسط دارفور وعموم إقليم دارفور، موضحًا أن الدعم السريع والمليشيات العربية اعتادت على خلق إدارات أهلية جديدة موازية داخل أراضي وحواكير القبائل الأصلية فور السيطرة على أي منطقة.
والحاكورة تعني ملكية قبيلة ما لأرضٍ بحدود معلومة، تتيح للجميع سكنها وزراعتها، لكن تكون السلطة الأهلية محصورة في أفراد القبيلة صاحبة الأرض، وهو نظام معمول به في كل السودان.
ومنح الدعم السريع الإمارة إلى المجموعة لأنها استقدمت آخرين قاتلوا معه، وهذا النهج القائم على إعطاء حلفائه سلطةً وأراضيَ زراعية مملوكة لآخرين يعزّز الهندسة الاجتماعية، حيث تُنشأ مصالح محلية مرتبطة بالوضع الجديد.
وتضمن المليشيا، من خلال توطين مجموعات سكانية جديدة في أراضي النازحين، وجود قاعدة تمدّها بالمقاتلين، إذ يرتبط وجود هذه المجموعات ببقاء الدعم السريع، مما يخلق تحالفًا مصيريًا بين القوة العسكرية والمجتمع الجديد.
وقبل تكوين الإمارة الجديدة في وسط دارفور، تعاونت قوات الدعم السريع مع المليشيات العربية في شن هجمات واسعة النطاق على عرقية المساليت في غرب دارفور، أسفرت عن مقتل 15 ألف شخص وتشريد معظم السكان الذين ينتمون إلى هذه الإثنية.
مليشيا الدعم السريع تدير عملية تدفق واسع لمرتزقة من إفريقيا الوسطى والكاميرون إلى دارفور، في خطوة يُنظر إليها كجزء من مخطط للتغيير الديموغرافي يهدد التركيبة السكانية والسلم الاجتماعي في المنطقة.
— Hani Bn Elfatih (@sudanesearmy2) December 5, 2025
تمثّل غرب دارفور مثالًا واضحًا على كيفية استفادة الدعم السريع من تفريغ السكان الأصليين من أراضيهم، حيث استحوذ أعضاؤها والموالون لها على 90% من أسواق مدينة الجنينة، كما سيطروا على الحركة التجارية الواردة عبر معبر أدري، الذي بات منفذًا رئيسيًا لتأمين احتياجات معظم مناطق دارفور وكردفان من السلع.
فُرضت عقوبات دولية على قادة مسؤولين عن الفظائع التي ارتُكبت بحق المساليت، لكنها ظلت حبرًا على ورق، بينما يجري تغيير ديمغرافي على الأرض مع الاستحواذ على الأراضي الزراعية وطرق التجارة والامتيازات الأخرى، في ظل غياب السكان الذين فرّوا إلى تشاد.
هجرة دائمة
يصل عدد النازحين داخليًا حاليًا في دارفور إلى 61% من جملة 9.3 مليون شخص، فيما لجأ 900 ألف شخص إلى تشاد، و467 ألفًا إلى ليبيا، و40 ألف نسمة إلى أفريقيا الوسطى، ومعظم هؤلاء من إقليم دارفور، هذا إلى جانب الذين فرّوا إلى مصر وجنوب السودان وأوغندا.
ويُظهر هذا الحجم من النزوح واللجوء مدى وحشية الدعم السريع في الهجمات على القرى، وحرق المنازل والمزارع، والنهب، مع التركيز على المجتمعات الزراعية المستقرة والمجموعات الإثنية ذات الأصل الأفريقي، مثل الفور والمساليت والزغاوة.
ولا يوجد تفسير للهجوم على القرى التي يعتمد سكانها على الزراعة والتجارة المحدودة والرعي في سبل العيش سوى تهجير السكان قسرًا إلى مخيمات النزوح واللجوء في دول الجوار، بل إن التهجير شمل أيضًا مخيمات مثل زمزم وأبو شوك حول الفاشر.
وبالنظر إلى عدم عودة النازحين الذين هربوا من ديارهم منذ عام 2003، يمكن القول إن النزوح الحالي غالبًا ما يكون دائمًا، حيث يتحول تدريجيًا إلى أجيال تولد في المخيمات، خاصة بعد تدمير القرى ونهب الموارد.
وتواصل قوات الدعم السريع، التي تسيطر حاليًا على معظم دارفور باستثناء جبل مرة ومحلية طويلة ومناطق الشمال الغربي من شمال دارفور، استقبال مزيدٍ من الوافدين من أفريقيا الوسطى، ويُرجَّح أن تمكّنهم من الأراضي الزراعية ومسارات الرعي وطرق التجارة، لخلق حاضنة اجتماعية جديدة، أو على الأقل بيئة أقل مقاومة.
الجنجويد يستجلبون المئات من عرب أفريقيا الوسطى للاستيطان فى ولايات دارفور المختلفة بعد تهجير سكانها الاصليين #الإمارات_تبيد_شعب_السودان #الامارات_تقتل_السودانيين #Save_Sudan_from_the_UAE_backed_Rapid_Support_Forces_militia pic.twitter.com/tfqjIt9eIa
— ابو كمال (@AbdelilahM6426) December 5, 2025
وسيَجعل هذا الوضع عودةَ النازحين، سواء الفردية أو الجماعية، أمرًا صعبًا نظرًا لانعدام الأمن وتغيّر ملكية الأرض بحكم الأمر الواقع، كما أن تفكك القرى والمجتمعات المحلية يضعف الروابط الاجتماعية، مما يصعّب إعادة هذه المجتمعات إلى شكلها السابق.
ولا يمكن إغفال أن الأطفال النازحين الذين شهدوا قتل الأقارب والعنف الجنسي والإذلال سيحملون صدمةً نفسية قد تدفع بعضهم إلى عدم العودة إلى أماكن مليئة بهذه الذكريات.
بكاء نازحين جراء فقدانهم لأهلهم عقب دخول الدعم السريع مدينة الفاشر بشمال دارفور غربي السودان pic.twitter.com/LQ9D7DPGZ8
— نون بوست (@NoonPost) November 14, 2025
فوائد مستمرة
أتاح النهب الممنهج الذي مارسه مقاتلو الدعم السريع في العاصمة الخرطوم والجزيرة وسنار ومناطق دارفور وكردفان نموَّ شبكة تجارة جديدة في الضعين وزالنجي ونيالا والجنينة، مستفيدةً من ميزات تفضيلية تتضمن المرور الآمن في النقل.
ولا يمكن للأفراد والجماعات المرتبطة بالدعم السريع الحفاظ على نمو هذه التجارة دون تهجير سكان جميع المناطق التي تقع على الحدود، حيث تُشن هذه الأيام هجمات على بلدات غرب شمال دارفور بغرض الوصول إلى معبر الطينة الرابط بين السودان وتشاد.
ويعني التحكم في طرق الإمداد ومناجم الذهب، إلى جانب الوصول إلى الأراضي الزراعية والمراعي الموسمية، أن الدعم السريع يمضي نحو امتلاك كل شيء في إقليم دارفور، ولن يحدث ذلك دون تهجير بعض المجتمعات التي لا تدين له بالولاء.
وتستطيع المليشيا استخدام النزوح الجماعي ورقة ضغط في أي تفاوض، إذ يمكن، عبر التغيير الديمغرافي، فرض شروط ربما تشمل إبقاء المستوطنين في القرى التي احتلوها، وتحويل المخيمات إلى مدن مع تزويدها بخدمات إضافية، خاصة في ظل غياب سلطة قادرة على فرض القانون أو ضمان العودة.
وفي النهاية، فإن أي جهود — حال توقفت الحرب — لإعادة النازحين إلى قراهم ستواجه واقع تشكّل تحالفات قبلية جديدة على الأرض. ولهذا، يُعدّ التغيير الديمغرافي الناتج عن النزوح أحد أخطر تداعيات الحرب، إذ خلق واقعًا جديدًا يصعب تفكيكه حتى مع وقف القتال.
