في قلب الضفة الغربية، حيث تتعانق قمم الجبال مع سهول الزيتون الممتدة، تتجلّى حكايات الصمود الفلسطيني، وخاصة من سهل ترمسعيا إلى أعالي جبال المغير، حيث يتمسّك أصحاب الأرض بأرضهم، يزرعونها ويحرسونها، في مواجهة اعتداءات المستوطنين وقيود الاحتلال الإسرائيلي، محافظين على هويتهم وحقهم غير القابل للمساومة.
تشكل عائلتا عبد الله أبو عواد وأبو همام من عزبة أبو نعيم نموذجًا حيًا لهذا الإصرار اليومي على البقاء، رغم التهديد الدائم والخطر المحدق، فهناك، لا يعرف السهر طريقه إلى الانقطاع، ولا يغيب القلق لحظة واحدة.
سهل ترمسعيا: بيت أبو عواد وحصن الزيتون المحفوف بالتهديدات
في سهل ترمسعيا شمالي شرقي رام الله، حيث تمتد مساحات الزيتون الشاسعة على أكثر من ثلاثة آلاف دونم، يقف منزل عائلة عبد الله أبو عواد شامخاً منذ عام 1969، متحدياً مرور أكثر من خمسين عاماً على بنائه.
هذا البيت لم يكن مجرد مأوى لعائلة كبيرة فحسب، بل أصبح حصناً ورمزاً للصمود في مواجهة مشروع استيطاني مستمر، محاطاً بمستوطنة “شيلو” التي شُيدت بعد بناء المنزل بسنوات، وجرافات الاحتلال التي لا تهدأ، ومضايقات مستمرة من المستوطنين تهدف إلى تهجير العائلة وإفراغ الأرض من أصحابها.

يعيش في هذا البيت أكثر من ثلاثين فردًا من العائلة، موزعين على ست أسر صغيرة، يواجهون يومياً صراعاً على الأرض، وبساتين الزيتون التي ورثوها عن أجدادهم، ومصدر رزقهم الذي كان حتى قبل ثلاث سنوات قائمًا على الزيتون والحبوب، والأمان البسيط الذي يحتاجه أي بيت فلسطيني.
تتفاقم هذه المعاناة في ظل ظروف قاسية وحصار مفروض منذ اندلاع الحرب الأخيرة، مع صعوبة متزايدة في الوصول إلى المياه والكهرباء والخدمات الأساسية، فضلًا عن ضغط نفسي مستمر يطال الأطفال والنساء وكبار السن، ويحوّل تفاصيل الحياة اليومية إلى عبء لا ينقطع.
يصف عبد الله أبو عواد بحزم، قائلًا: “هذا المنزل بني قبل أن تبنى مستوطنة شيلو، ولن أرحل منه ما حييت. وجودنا هنا يحمي آلاف الدونمات في سهل البلدة من التغول الاستيطاني. لقد تحملنا منذ أكثر من خمسين عاماً لواء الدفاع عن منزلنا، وواجهنا محاولات حرقه، وتكسير محتوياته، والتعدي على سياراتنا، وحتى سقوط جزء من السقف نتيجة الاعتداءات، ولم يُسمح لنا بترميمه. لكننا صامدون. هذا المنزل هو حصننا وأرضنا، وبه نحمي مستقبل أولادنا وممتلكاتنا”.
تعود حكاية بيت أبو عواد إلى عام 1969، حين شيّد والد العائلة، أبو عبد الله، المنزل على مساحة 55 دونمًا مزروعة بأشجار الزيتون، وهي أرض ورثتها العائلة عن أجدادها، إلى جانب شراء نحو 60 دونمًا إضافية منذ ستينيات القرن الماضي، بموجب حجج رسمية موثّقة وإخراج قيد يثبت الملكية.
بعد سنوات قليلة، أقيمت بؤرة استيطانية على بعد كيلومترين، لتصبح نواة مستوطنة “شيلو”، التي توسعت تدريجياً لتصل اليوم إلى مسافة 15 متراً فقط من المنزل، فيما أقيمت ثلاث مستوطنات أخرى في الجهة الشمالية الشرقية من أراضي البلدة، وهي “عادي عاد” و”عميحاي”، إلى جانب ثلاث بؤر استيطانية تربط بينها، في محاولة واضحة لفرض واقع استيطاني على الأرض.
يقول عبد الله إن: “الاعتداءات علينا ليست جديدة وليست بسبب الحرب فقط، كانت متكررة ومتقطعة بين فترة وأخرى قبل الحرب، لكنها زادت وتيرتها مؤخراً. نحن قريبون جداً من مستوطنة شيلو وخاصة المنطقة الصناعية، فهي تقع على بعد 200 متر فقط من بيتنا، وامتداد المستوطنة يشمل طرقاً تمر بالقرب من الأرض المزروعة. كل شيء ممنوع هنا؛ البناء، التوسعة، ترميم المنزل، حتى الزراعة والرعي، كل هذا ممنوع بدون تصاريح الاحتلال، ومناطقنا تقع ضمن أراضي ‘ج’ حيث لا يُعطى أي ترخيص”.
ويضيف قائلًا: “البيت لم يعد يتسع لكل أفراد العائلة بعد أن كبر الأولاد. حوالي ثلاثين شخصاً يعيشون هنا، بعض إخوتي اضطروا للاستئجار والباقون في المنزل، ونحن موجودون هنا قبل وجود المستوطنة. الأرض زرعناها ونحميها منذ أكثر من أربعين وخمسين سنة، وكل شجرة زيتون مزروعة هنا هي حماية لمنزلنا. خلال الأشهر الأخيرة، من شهر يوليو وحتى اليوم، اقتلعت الجرافات حوالي 100 إلى 150 دونماً من الأشجار المحيطة بالبيت، ما تبقى من الأرض حوالي عشرة إلى خمسة عشر دونماً فقط”.
منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر، نُصِب برج مراقبة على بُعد نحو عشرة أمتار فقط من المنزل، وفُرض حصار كامل على العائلة، بعدما أغلق الاحتلال الطرق المؤدية إلى البيت وأقام سواتر ترابية حوله. ورغم رفع هذه السواتر لاحقًا بقرار من محكمة العدل العليا، فإن ذلك جاء مشروطًا بتركيب بوابة على مدخل الطريق، وهو ما جرى تنفيذه قبل نحو سبعة أشهر.
ومنذ عامين، لا يُسمح لأفراد العائلة باستخدام سوى مركبة واحدة فقط، فيما يخضعون لتفتيش دائم وتدقيق في الهويات عند الدخول والخروج، وفي أوقات محددة، ما حوّل الحركة اليومية إلى إجراء أمني مرهق، وجعل البيت تحت رقابة مستمرة لا تنقطع.
يقول عبد الله إن: “وجود هذه البؤرة الاستيطانية على بعد 500 متر من بيتنا يجعل حياتنا يومياً تحت التهديد المباشر. اعتدوا علينا مراراً، كسروا كشافات الإنارة، قطعوا خط المياه، عطّلوا مركبتنا مرات عدة، دمروا خزانات الماء والخلايا الشمسية، سرقوا البطاريات والأثاث، وسقط جزء من سقف البيت، ولم يُسمح لنا بترميمه، ومنعونا من قطف الزيتون منذ ثلاث سنوات”.
وأضاف: “الكهرباء الشمسية تعمل لساعات محدودة في النهار فقط، وفي الشتاء لا تشحن البطاريات، والأجهزة الكهربائية مثل الثلاجات والغسالات تتعطل بسبب ضعف الكهرباء المستمر. الصيانة ممنوعة بدون تصاريح الاحتلال، والمياه شحيحة، وأحياناً نضطر لشرائها للشرب”.
ويضيف قائلًا: “لا يمكننا النوم بسلام، يجب أن يبقى أحدنا مستيقظاً طوال الليل لحراسة البيت، وفي النهار الوالد البالغ من العمر 70 عاماً يبقى في المنزل. الشبان يتناوبون بين مراقبة الأرض والعمل خارج البيت. حياتنا اليومية توقفت، لا زراعة، لا إنتاج زيتون، لا دخل، وكل شيء متعلق بأرضنا صار ممنوعاً”.
تعرّضت العائلة لسلسلة من الاعتداءات المباشرة والعنيفة، تركت آثارًا دموية ومفتوحة، ففي 17 أكتوبر/تشرين الأول 2025، هاجم المستوطنون المنزل، حطّموا النوافذ وخلعوا البوابة، وحاولوا إحراقه، كما دمّروا الخلايا الشمسية وسرقوا البطاريات والأثاث الخارجي، وحملوا كل ما تمكنوا منه خارج البيت، في هجوم بدا وكأنه محاولة اقتلاع كاملة للمكان وأهله.
وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، تكرر الاعتداء بهجوم جديد، أعقبه توجيه اتهامات كاذبة للعائلة بالاعتداء على المستوطنين، رغم أنهم كانوا الضحية الفعلية للهجوم.
ويصف عبد الله واحدة من أكثر الحوادث إيلامًا قائلًا: “زوجة ابنة عمي كانت نائمة في غرفة النوم حين رشق المستوطنون قنبلة غاز فلفل من الشباك، وتم إخراجها بصعوبة إلى المستشفى في منتصف الليل. أولادنا وأخوتي اعتقلتهم شرطة الاحتلال لمدة أربعة أيام بعد اتهام زائف بالاعتداء على المستوطنين، رغم أنهم ضحايا الاعتداء الحقيقيين”.
ويؤكد عبد الله أن: “الأرض والزيتون أغلى من أي شيء. أبي طوال حياته يعتني بها، ونحن حراس هذه الأرض. لو أرادوا إحراق المنزل أو قتلنا داخله، لن نرحل. نحن ملتزمون بالبقاء هنا، وهذه رسالتنا للعالم: نحن صامدون ومرابطون، وهذه أرضنا، وليس لهم فيها أي حق”.
زرع العائلة الأرض منذ أكثر من أربعين وخمسين سنة ليس فقط كمصدر رزق، بل لحماية ملكيتها من الاستيلاء. قبل ثلاثة أعوام، كان إنتاج الزيتون السنوي بين 200 و300 تنكة زيت، أما هذا العام فلم تتجاوز 5 تنكات بسبب اقتلاع الأشجار ومنعهم من قطف الزيتون.
جبال المغير: عزبة أبو همام على خط النار
هنا، في منطقة الخلايل، يعيش أكثر من ثلاث عائلات نووية من عائلة أبو نعيم، حيث يقيم رزق أبو نعيم (69 عاماً) مع زوجته، وابنه همام (36 عاماً) وزوجته وأطفاله وابنه رزق (13 عاماً)، في مجمع يضم مغارة وخياماً على أرضهم، يزرعونها ويرعون مواشيهم، متحدين يومياً الخطر والتهديد المستمر.
تبدأ قصة الصمود، حين استقرّت العائلة في هذه المنطقة بعد أن تعرضت للتهجير المتكرر من مناطق الغور، والدالية، ورأس التين، قرب عين سامية وقرية كفر مالك، وسهل ترمسعيا حيث كانت لهم مساحات للرعي وأغنام. ومع كل محاولة تهجير أو هجوم من المستوطنين، كانت العائلة تتنقل للحفاظ على حياتها ومواشيها وأرضها، حتى استقرت أخيراً في الخلايل، على الأرض التي ورثوها، والتي تعتبر اليوم حصنهم ومصدر صمودهم.
يشرح همام أبو نعيم تفاصيل الاعتداء الأخير، قائلًا: “أنا وزوجتي كنا نائمين في بيتنا، ليس بعيداً عن بيت أهلي سوى حوالي عشرة أمتار، وكان ابني الكبير رزق نائم عند جدته. الساعة كانت الواحدة بعد منتصف الليل، تفاجأنا بصوت صياح عالي. خرجت لاستطلاع الوضع، وإذا بالمستوطنين يهاجمون البيتين اللذين يسكن فيهما المتضامنون الأجانب وأهلي. بدأوا بالاعتداء على أمي وابني رزق، وكذلك المتضامنين، وأصيب الجميع بجروح متفاوتة”.
ويكمل همام قائلًا: “ابني رزق حاول بعد أن هدأت الهجمات قليلًا، الوصول إليّ ليخبرني بما حصل، لكنه تعرض مرة أخرى للضرب على رأسه بواسطة كشّاف من قبل أحد المستوطنين، وسقط أرضاً عند طرف المنزل، الذي هو عبارة عن بركس من الصفيح. الأطفال كانوا خائفين جداً، خاصة رزق الذي كان سابقاً يواجه المستوطنين بلا خوف، لكنه بعد هذا الاعتداء أصبح يعيش حالة دائمة من القلق والخوف من وجودهم”.
ويضيف: “المستوطنون هددونا بالقتل إذا لم نغادر خلال يومين، وقالوا إن المرة المقبلة لن يتركوا أحداً منا. الصغار أصبحوا مرعوبين، والليل أصبح أصعب من أي وقت مضى. لا كهرباء لدينا، نعتمد على الألواح الشمسية التي لا تشحن بشكل جيد في الشتاء، وأحياناً تنقطع الكهرباء تماماً في منتصف الليل، فيجب أن نبقى مستيقظين لحراسة المنزل. في النهار أيضاً، الحياة صعبة، لأننا نخسر أعمالنا لنكون في المنطقة ونحمي الأهل من اعتداءات المستوطنين”.
ويتابع: “الأطفال يذهبون إلى المدارس عبر الحمار، لأن السيارات التي نمتلكها صادرتها قوات الاحتلال بحجة عدم الترخيص. حياتنا اليومية عبارة عن خوف وترقب مستمر، والوضع المادي محدود جداً. ومع ذلك، نحن باقون في الأرض لأن هذه الأرض أرضنا، ولا يوجد بديل لنا عن هذا الوطن. رغم كل الاعتداءات، نحن صامدون، نحن ونساءنا وأطفالنا، ولن نترك لهم أرضنا”.
من جهته، يوضح مرزوق أبو نعيم، شقيق أبو همام ونائب رئيس المجلس القروي في المغير، أن “تهجير عائلة أبو همام سيتيح للمستوطنين السيطرة على نحو ألفي دونم من الأراضي الممتدة بين المغير وكفر مالك”، ويشير إلى أنه منذ بدء حرب الإبادة الأخيرة، تتعرض العائلة لهجمات متكررة شملت الاعتداء على النساء وضربهن، واعتقال أفراد من العائلة والزجّ بهم في تهم ملفقة، إضافة إلى الاعتداء المستمر على الممتلكات، وإفراغ خزانات المياه، ومصادرة المركبات الزراعية، ومنع الأطفال من الوصول إلى مدارسهم.
ويضيف مرزوق أن “الاعتداء الأخير على عزبة أبو همام كان الأعنف، حيث أُصيب الحفيد وجده، إلى جانب إصابة متضامنين أجانب كانوا موجودين لحمايتهم”، ويتابع: “أعلنت القوات الإسرائيلية المنطقة منطقة عسكرية مغلقة، ومنعت المتضامنين من الوصول، في خطوة هدفت إلى تسهيل مهمة المستوطنين ومحاولة إجبار العائلة على الرحيل”.
ويكمل قائلًا: “يسعى المستوطنون للسيطرة على الأراضي المحيطة بعزبة أبو همام، خاصة بعد تهجير التجمعات البدوية القريبة من عين سامية في كفر مالك، وإجبار أحد أفراد العائلة سابقًا على الرحيل. كل ما يجري يندرج ضمن خطة واضحة للسيطرة على الأرض وتهجير السكان الأصليين، لكن العائلة ما زالت صامدة رغم كل الهجمات”.
ويعيش أبناء عائلة أبو نعيم في عزب تتكوّن من بيوت بدائية من الزينكو وخيام، يزرعون الأرض ويرعون المواشي، متحدّين الاعتداءات اليومية ومتجذّرين في أرضهم، رافضين كل محاولات التهجير. ويقول همام: “الوضع في المنطقة خطير، فالقرية كلها تتعرض لهجمات متواصلة من المستوطنين وجيش الاحتلال، ولا توجد أي منطقة آمنة. ومع ذلك، نحن صامدون ولن نترك لهم الأرض. الصمود ليس فقط حماية للأرض، بل حماية للحياة والهوية الفلسطينية ومستقبل أولادنا”.