بعد قرابة عام على سقوط النظام المخلوع، لم تتحوّل عودة السوريين إلى ديارهم إلى مسارٍ واضح أو مستقر، بل ظلّت رهينة تعقيدات إنسانية واقتصادية وأمنية متشابكة، فبين مخيمات النزوح داخل سوريا، وضغوط العودة القسرية، والتردّد الذي يطغى على خيارات اللاجئين في بلدان اللجوء، يعيش ملايين السوريين حالة انتظار مفتوحة، لا تتوقف عند سؤال “العودة” بحدّ ذاته، بل تمتد إلى البحث عن الحدّ الأدنى من الأمان وإمكانية العيش الكريم.
يرصد هذا التقرير واقع السوريين العالقين بين مخيمات الداخل والخارج، مسلّطًا الضوء على جملة العوائق التي تحول دون انتقال العودة من كونها خيارًا نظريًا أو رغبة مؤجلة، إلى واقع قابل للحياة والاستمرار.
حين يصبح النزوح خياراً أقل قسوة
لا يزال آلاف السوريين تحت وطأة فقدان المأوى في المخيمات داخل سوريا، فبدل أن تُطوى مرحلة النزوح، تستمر حياة الخيام وسط واقع معيشي قاسٍ. ورغم أن سقوط النظام فتح الباب نظريًا أمام عودة الأهالي إلى مدنهم وقراهم، يصطدم هذا القرار بواقعٍ مدمّر خلّفته سنوات الحرب، من منازل مهدّمة وبنى تحتية شبه غائبة، وانتشار الألغام ومخلّفات الحرب، إلى جانب ارتفاع تكاليف الترميم وعجز معظم العائلات عن إعادة بناء ما خسرته.
وبينما تمكّن قسم من الأهالي من العودة إلى مناطقهم، لا يزال كثيرون يفضّلون البقاء في المخيمات التي كان يُفترض أن تكون مأوى مؤقتًا، قبل أن تتحول إلى واقع يومي يفرض نفسه ويجسّد التحديات الكبيرة المرتبطة بملف العودة وإعادة الإعمار.
في خيمة شبه مهترئة، يعيش وسيم رمضان (38 عامًا) مع عائلته المؤلفة من ستة أشخاص في مخيم سلقين بمحافظة إدلب، ورغم مرور نحو عام على سقوط النظام، لا يزال عاجزًا عن العودة إلى قريته في سهل الغاب، محاصرًا بواقع إنساني مأساوي.
يتحدث وسيم لـ”نون بوست” عن الأسباب التي جعلته يبقى في المخيم، قائلًا: “الأسباب واضحة، لا توجد مدارس ولا مياه ولا كهرباء، وحتى الطرق مدمّرة. أولادي يتابعون تعليمهم هنا في المخيم، والمدارس هناك مجرد أنقاض”.
يعمل وسيم في مهنة البناء، ويقول لـ”نون بوست”: “عندما يكون الجو ماطرًا أبقى بلا عمل، ولا أستطيع شراء حتى الخبز”. ويضيف أن المنظمات التي كانت تقدّم مساعدات توقفت مؤخرًا، ما زاد الوضع سوءًا. ويتقاضى وسيم أجرًا يوميًا لا يتجاوز ثلاثة دولارات، وهو مبلغ لا يكفي لتأمين أبسط الاحتياجات، بحسب قوله.
ومع قدوم فصل الشتاء، يوضح أنهم يلجؤون إلى استخدام بقايا تقليم أشجار الزيتون للتدفئة، ما تسبب بمشاكل تنفّسية لدى زوجته وأطفاله، ورغم قسوة الحياة في المخيم، يفضّل وسيم البقاء حتى تتضح معالم العودة الآمنة.

الحال ذاته يعيشه عشرات الآلاف من النازحين المنتشرين في مخيمات شمال سوريا، الذين كانوا يمنّون أنفسهم بعودة قريبة إلى قراهم بعد سقوط النظام، لكن بطء جهود إعادة الإعمار وغياب البنية التحتية والخدمات الأساسية، إلى جانب التوقف شبه الكامل للدعم الإنساني، حوّل هذه العودة إلى حلم مؤجّل، ليجدوا أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: البقاء في المخيمات، أو العودة إلى بلدات مدمّرة لا توفّر الحد الأدنى من مقومات الحياة.
وتعاني المخيمات من تراجع حاد في مستوى الخدمات، وتوقّف المساعدات، وانحسار الدعم الإغاثي، في ظل ازدياد الاحتياجات وتفاقم الأعباء المعيشية على النازحين، إضافة إلى أزمة الصرف الصحي المستمرة، وقلّة المياه، وتراكم القمامة، وسط غياب أي خطط فعّالة لتحسين الواقع الإنساني.
وائل رستم، مدير مخيم الصفصافة غربي مدينة سلقين في ريف إدلب، يقول لـ”نون بوست” إن معظم سكان مخيم الصفصافة ينحدرون من منطقة سهل الغاب، وإن خيار العودة إلى القرى الأصلية ما يزال معطّلًا بسبب غياب البنية التحتية ومقومات الحياة الأساسية، وانعدام المياه، ودمار المدارس، وغياب مصادر الدخل وفرص العمل، وهو ما حال دون عودة عدد كبير من العائلات.
وبحسب رستم، انخفض عدد العائلات في المخيم بعد التحرير من 450 عائلة إلى قرابة 150 عائلة، غير أن معظم من غادروا أبدوا ندمهم على مغادرة المخيم، بسبب غياب الخدمات الأساسية، وعدم توفّر المستوصفات أو النقاط الطبية القريبة، إضافة إلى العجز المالي عن إعادة الإعمار أو حفر آبار مياه.
ويضيف أن أقرب مستشفى يبعد نحو 20 كيلومترًا عن القرى التي عاد إليها الأهالي، وفي حال عدم توفّر وسيلة نقل، يصبح الوصول إلى الرعاية الصحية أمرًا بالغ الصعوبة. كما لفت إلى أن الدعم الإنساني للمخيم تراجع بشكل كبير بعد التحرير؛ ففي السابق كانت توجد منظمات تقدّم مواد للتدفئة، في حين تقتصر المساعدات الحالية على منظمة واحدة فقط ما تزال تؤمّن المياه لسكان المخيم.
View this post on Instagram
من جهته، يقول مسؤول الإحصاء في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل، رامز دقسي، في حديثه لـ”نون بوست”، إن عدد المخيمات بعد التحرير بلغ 855 مخيمًا، تقطنها نحو 126,200 عائلة، فيما وصل عدد العائلات التي عادت إلى بلداتها الأصلية إلى 118,466 عائلة.
ويلفت دقسي إلى أن العائلات الخارجة من المخيمات توزّعت عودتها على مختلف المحافظات السورية، إلا أن النسبة الأكبر تركزت في ريف إدلب، يليه ريف حلب، ثم ريف حماة. ويضيف أن تهدّم المنازل، وغياب البنية التحتية، والافتقار إلى الخدمات الأساسية، تُعد من أبرز العوامل التي ما تزال تعيق عودة العائلات إلى مناطقها حتى اليوم.
معضلة الدمار
أمام قسوة الواقع وغياب الخدمات، اضطر آلاف النازحين السوريين إلى العودة إلى مخيمات النزوح مرة ثانية، بعدما وجدوا بيوتهم التي هجّرهم منها النظام المخلوع مدمّرة أو غير صالحة للسكن، من بينهم أم ريتاج، من بلدة أبو الظهور في الريف الشرقي لمحافظة إدلب. ويتضاعف شعور أم ريتاج بالعجز واليأس مع اقتراب فصل الشتاء، في ظل عجزها عن تأمين أبسط مستلزمات التدفئة، وعدم قدرتها على تغيير الواقع القاسي الذي تعيشه داخل مخيم الياسمين، حيث تغيب أدنى مقومات الحياة.
أم ريتاج، وهي أم لثلاث بنات أكبرهن في الثامنة من العمر، تروي لـ”نون بوست” رحلة تنقّل قسرية لم تنتهِ، فبعد سنوات من الإقامة في أحد المخيمات العشوائية، قررت العودة إلى بلدتها عقب سقوط النظام، على أمل استعادة شيء من الاستقرار، لكنها وجدت منزلها مدمّرًا بالكامل، ما اضطرها إلى العودة مجددًا إلى المخيم.
تقيم اليوم في مسكن داخل مخيم الياسمين بلا أبواب أو نوافذ، بعد أن غادرته إحدى العائلات، فيما لا يزال مصير زوجها مجهولًا منذ نحو أربع سنوات، حين خرج للعمل ولم يعد. ورغم محاولاتها المستمرة للبحث عنه، لم تصل إلى أي معلومة. ومع سقوط النظام، تجدّدت محاولاتها لمعرفة مصيره، لكن من دون نتيجة.
تعتمد أم ريتاج على العمل الموسمي في قطاف الخضار في بعض الأيام، غير أن صِغر سن بناتها وخوفها من تركهن وحدهن يقيّدان قدرتها على العمل. وفي كثير من الأحيان، تعيش هي وبناتها على ما يقدّمه الجيران من مساعدات بسيطة. ورغم أن بناتها في سن الدراسة، فإن الفقر المدقع يحول دون التحاقهن بالمدرسة.

لا يختلف واقع عبد المنعم مهدي الجدوع عن حال أم ريتاج، فبعد محاولته العودة إلى قريته التح في ريف إدلب الجنوبي، لم يتمكّن من الاستقرار في منزل شبه مدمّر، في ظل الارتفاع الكبير في أسعار مواد البناء. وعن سبب ذلك يقول: “رغم أن الحياة ضاقت بنا بسبب معاناة النزوح، فإنني فضّلت العودة إلى مخيم الياسمين بسبب غياب الخدمات في البلدة، وتكدّس الأنقاض، وغياب دعم المنظمات الإنسانية، والمدارس”.
ويعيش عبد المنعم اليوم مع زوجتيه وأطفاله الأربعة عشر داخل غرفة واحدة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، إذ لا أبواب فيها ولا نوافذ. ويضيف أنه كان يعمل خلال موسم قطاف الزيتون، إلا أن الموسم انتهى، ولم يعد لديه أي مصدر دخل حاليًا، ما زاد من قسوة الظروف المعيشية التي يواجهها.
يعكس واقع عبد المنعم وأم ريتاج حال مئات العائلات التي لا تزال عالقة بين قرى مدمّرة تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، ومخيمات باتت عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من الخدمات، في ظل تراجع الدعم الإنساني وغياب البنية التحتية، ما يجعل العودة خيارًا معقّدًا وصعب التحقيق بالنسبة لكثيرين.
وفي ظل هذا الواقع، يعيش الأهالي في المخيمات حالة انتظار مفتوحة، بين تحمّل الظروف القاسية داخل الخيام وما يرافقها من نقص في الخدمات، وبين الأمل بإعادة ترميم منازلهم التي تعرّض معظمها لدمار كبير، من دون قدرة فعلية على إصلاحها ولو جزئيًا. ولا تزال مدن وبلدات واسعة، كانت مأهولة بالسكان قبل عام 2019، شبه خالية حتى اليوم، مع غياب واضح للكهرباء والمدارس والمرافق الصحية والأفران، فيما تبقى الخدمات المتوفرة محدودة ولا تكفي لتأمين متطلبات الحياة الأساسية.
وحذّر فريق “منسقو استجابة سوريا” من تدهور الأوضاع الإنسانية في مخيمات شمال غربي سوريا مع اقتراب فصل الشتاء، في ظل عجز واسع لدى العائلات عن تأمين مستلزمات التدفئة، وتراجع حاد في الدعم الإنساني.
وأوضح الفريق، في بيان نشره عبر صفحته على موقع “فيسبوك” في 23 تشرين الأول، أن أكثر من 1.5 مليون مدني لا يزالون يعيشون في المخيمات، ما يشكّل نحو 75.18% من العدد الكلي السابق، رغم حركة العودة المسجّلة إلى المدن والقرى، وذلك نتيجة الدمار الواسع الذي طال المناطق السكنية، وعدم قدرة النازحين على ترميم منازلهم.
وأوضح البيان أن أكثر من 95% من العائلات غير قادرة على تأمين مواد التدفئة لفصل الشتاء المقبل، مشيرًا إلى أن 83% من النازحين لم يحصلوا خلال الشتاء الماضي على أي مساعدات متعلقة بالتدفئة، ولا سيما داخل المخيمات.
وأشار الفريق إلى أن انخفاض درجات الحرارة خلال الشتاء الفائت أدى إلى انتشار واسع للأمراض بين النازحين، إضافة إلى اندلاع حرائق ناجمة عن استخدام وسائل تدفئة بدائية وغير آمنة. كما تسببت العواصف المطرية وتساقط الثلوج آنذاك بتضرر 357 مخيمًا، ما أثّر على أكثر من 115 ألف مدني.
وأضاف البيان أن 71% من النازحين يعتزمون تقليص احتياجاتهم الأساسية، وعلى رأسها الغذاء، في محاولة لتأمين التدفئة هذا الشتاء، في ظل الانقطاع الكبير في الدعم الإنساني. كما لفت إلى ارتفاع أسعار مواد التدفئة مقارنة بالعام الماضي، في وقت لا يتجاوز فيه الدخل الشهري لـ88% من العائلات حاجز 50 دولارًا، ما يجعل الحصول على الوقود أو الحطب أمرًا شبه مستحيل.
ودعا الفريق المنظمات الإنسانية والأمم المتحدة إلى الإسراع في إطلاق مشاريع الاستجابة الشتوية، والعمل على سد فجوات التمويل الكبيرة، لتوفير الدعم اللازم لأكثر من 1.5 مليون مدني يواجهون ظروفًا إنسانية قاسية داخل مخيمات شمال غربي سوريا.
وكان المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية في سوريا، آدم عبد المولى، قد قال إن نحو 16.5 مليون شخص في البلاد بحاجة إلى مساعدات إنسانية، إضافة إلى نحو 2.5 مليون عائد من النازحين داخليًا واللاجئين العائدين من الخارج، كثير منهم فقدوا منازلهم نتيجة الحرب.
وخلال مؤتمر صحفي قبيل اختتام مهمته في أيلول الماضي، استعرض عبد المولى عمل الأمم المتحدة في سوريا وأولوياتها وخططها المستقبلية لتعزيز الاستجابة الإنسانية ودعم التعافي والتنمية، قائلًا: “لا تزال سوريا تعاني من أزمة نزوح، حيث لا يزال أكثر من 6 ملايين سوري نازحين داخل البلاد، وهناك أكثر من 6 ملايين لاجئ في جميع أنحاء العالم”. وبيّن أن نحو 24% من المساكن في سوريا تعرّضت للأضرار أو للتدمير خلال السنوات السابقة، في وقت تعاني فيه الأمم المتحدة من نقص حاد في التمويل.
العودة تحت الضغط
فيما تبقى عودة النازحين داخل سوريا مرتبطة بعوائق خدمية وإنسانية تحول دون الاستقرار، يواجه لاجئون سوريون في لبنان واقعاً مختلفاً، إذ يجد بعضهم نفسه أمام عودة قسرية فرضتها قرارات رسمية دون أي استعداد أو ضمانات، ليواجهوا واقعاً أكثر قسوة داخل البلاد.
دفعت قرارات تفكيك بعض مخيمات اللاجئين بلبنان آلاف العائلات إلى مغادرة أماكن لجوئها خلال مهَل قصيرة، والعودة إلى سوريا رغم فقدان المأوى وغياب أي خطط لاستقبالهم أو تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش.

تقول الشابة إيمان الحسن (28 عاماً)، المنحدرة من ريف حمص، لـ”نون بوست” إن حياتها وعائلتها انقلبت رأساً على عقب بعدما أبلغتهم السلطات اللبنانية بوجوب إخلاء مخيم “زحلة” خلال 15 يوماً فقط، في إطار قرار تفكيك مخيمات اللاجئين السوريين وإعادتهم إلى سوريا تحت مسمّى “العودة الطوعية”، بحسب قولها.
وتروي إيمان كيف جاء قرار العودة إلى سوريا مفاجئاً ومن دون أي ترتيبات مسبقة، إذ لم تُمنح العائلة وقتاً كافياً للاستعداد، ولا أي ضمانات تتعلق بالسكن أو مصادر الدخل بعد العودة. وتتابع: “خرجنا من سوريا عام 2013، واليوم نعود إلى واقع أشد ألماً”.
وتقيم عائلة إيمان حالياً في ريف دمشق مع عائلتين عادتا حديثاً، حيث استقروا في أحد المنازل لتقاسم أعباء الإيجار، في محاولة لتفادي العودة مجدداً إلى المخيمات. وتشير إلى أن منزل العائلة في ريف حمص تعرّض لدمار كبير خلال سنوات الثورة، وأن الإمكانيات المادية لا تسمح بترميمه، ما يجعل هذه “العودة” أقرب إلى تجربة نزوح جديدة داخل سوريا، لا إلى استقرار حقيقي.
في مطلع كانون الأول أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان عودة أكثر من 378 ألف لاجئ سوري من لبنان إلى سوريا. وتأتي هذه العودة ضمن الدفعة الـ12 من برنامج العودة الآمنة والطوعية، الذي انطلق في تموز الماضي. وقالت المنظمة في بيان لها على منصة “إكس“، إنه مع عودة أكثر من 378 ألف لاجئ سوري، يبقى استمرار الدعم أساسياً لضمان العودة الآمنة والكريمة والمستدامة. وأضافت أن الدفعة الـ12 من العودة الطوعية المنظمة من لبنان نقلت عائلات لاجئة سورية إلى ديارها في حمص وحماة وإدلب ودمشق وريفها.
عراقيل تؤخر عودة اللاجئين من الأردن
أمّا في الأردن، فأشار المتحدث باسم مفوضية شؤون اللاجئين، يوسف طه، إلى تراجع أعداد اللاجئين السوريين العائدين إلى سوريا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. وبيّن أن شهر آب شهد عودة نحو 19 ألف لاجئ سوري من مختلف مناطق المملكة، فيما انخفض العدد في أيلول إلى قرابة 15 ألفاً، قبل أن يتراجع أكثر في تشرين الأول ليصل إلى نحو 12 ألف لاجئ عادوا طوعاً.
وأوضح طه، في حديثه لموقع “CNN” بالعربية، في تشرين الثاني الماضي، أن هذا التراجع يعود إلى عدة عوامل، من بينها بدء العام الدراسي، واقتراب فصل الشتاء، إضافة إلى الأوضاع السياسية والأمنية داخل سوريا.
وكشف تقرير صادر عن “المجلس النرويجي للاجئين” (NRC) أن آلاف اللاجئين السوريين المقيمين في الأردن لا يزالون عاجزين عن العودة إلى سوريا، نتيجة مجموعة من العوائق القانونية والاقتصادية والإدارية، رغم تسجيل عودة أكثر من 152 ألف لاجئ منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، من أصل ما يزيد على 650 ألف لاجئ سوري مسجّل في البلاد.
وأوضح التقرير أن ارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع حجم المساعدات الإنسانية، إلى جانب سياسات التوثيق الصارمة المعتمدة في كل من سوريا والأردن، تجعل من العودة الطوعية والآمنة والكريمة خياراً بالغ الصعوبة بالنسبة لكثير من اللاجئين.

وبحسب استطلاع أجراه المجلس، تراجع التفاؤل الذي ساد في المراحل الأولى بشأن العودة، إذ أشار 40% من المستطلَعين إلى أنهم يأملون بالعودة يوماً ما، في حين عبّر 21% فقط عن نية واضحة للعودة، مقابل 37% أكدوا أنهم لا يخططون للعودة مطلقاً.
وقالت مديرة المجلس في الأردن، إيمي شميت، إن اللاجئين السوريين يواجهون أحد أصعب القرارات منذ أكثر من عقد، متسائلة عمّا إذا كانت العودة ممكنة أصلاً، في ظل نقص المعلومات، وعدم القدرة على تحمّل تكاليف السفر، والخشية من الإعادة عند المعابر الحدودية.
ودعا المجلس النرويجي الحكومة الأردنية إلى تبسيط إجراءات تسجيل الولادات والزيجات، وتسوية أوضاع العائلات غير الموثّقة، وإلغاء الرسوم المرتجعة على تصاريح العمل، إضافة إلى السماح لسكان المخيمات باصطحاب الكرفانات التي عاشوا فيها عند عودتهم إلى سوريا. كما حثّ الحكومة السورية على إزالة العوائق القانونية المرتبطة باستعادة الممتلكات، وإعادة تفعيل آلية الوكالات العقارية، وفتح مسارات شفافة لتسوية الأوضاع والحصول على الوثائق الرسمية المفقودة.
وأشار التقرير إلى أن السياسات الحالية تُظهر قصوراً في خمسة مجالات رئيسية تخلق بيئة غير مواتية للعودة، بدءا من نقص المعلومات الموثوقة، وصولاً إلى القيود الاقتصادية والإدارية. وخلص إلى أن تنسيقاً جدياً بين الحكومات والجهات الدولية من شأنه أن يحوّل العودة الطوعية من خيار نظري إلى إمكانية واقعية لشريحة أوسع من اللاجئين السوريين.
ورغم أن البقاء في الأردن يعني مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع المساعدات الإنسانية، وصعوبة الوصول إلى سوق العمل، فإن العودة إلى سوريا تمثّل بالنسبة لكثيرين مواجهةً للمجهول، وانعداماً للشعور بالأمان، فضلًا عن التكاليف الباهظة اللازمة للبدء من جديد.
ويوثّق التقرير أن نحو ثلثي الأسر السورية في الأردن تعيش تحت خط الفقر، في حين أن 93% من العاملين السوريين لا يملكون تصاريح عمل سارية المفعول.
وفي ظل هذا المشهد المعقّد، تبدو عودة السوريين بعد سقوط النظام أبعد من كونها قراراً فردياً أو خياراً طوعياً خالصاً، إذ تتداخل فيها اعتبارات الأمان، والسكن، والقدرة على العيش، وغياب الحد الأدنى من الخدمات. وبين مخيمات تحوّلت إلى واقع دائم، وقرى مدمّرة لا تزال عاجزة عن استقبال أهلها، يبقى ملايين السوريين عالقين في منطقة رمادية بين النزوح والعودة.