ترجمة وتحرير: نون بوست
ربما لاحظتم وجودهم على الإنترنت: شبّاب إماراتي يظهر في مقاطع فيديو متقنة الصنع يحذّرون من خطر جماعة الإخوان المسلمين، يلقون محاضرات في مؤسسات مرموقة مثل جامعة جورجتاون وكامبريدج، وينشرون مقالات رأي حول السودان والهجرة والإسلام السياسي.
يقدّمون أنفسهم كـ “مفكرين مستقلين” وأصوات عربية معتدلة معنية بأمن الغرب واستقرار المنطقة، لكن ثمة ما يثير الريبة.
لماذا يظهر هؤلاء “المستقلون” دائمًا معًا؟ لماذا يصوّرون أنفسهم فيما يبدو أنه نفس الاستوديو، بنفس الديكور والأدوات؟ لماذا أُنشئت حساباتهم على وسائل التواصل ومجموعة من المواقع “الإخبارية المستقلة” في الوقت نفسه؟ ولماذا تتطابق أطروحاتهم باستمرار مع مواقف السياسة الخارجية للإمارات وإسرائيل وأطياف من اليمين الأوروبي المتطرف؟
بعد أشهر من التحقيقات المفتوحة المصدر، تظهر صورة أوضح.
ما يبدو أنه مجموعة عفوية من “المؤثرين” هو في الواقع منظومة إعلامية مترابطة بشكل وثيق، تمزج بين مؤثرين مضلِّلين، ومواقع إخبارية زائفة، ونشر مدعوم بالذكاء الاصطناعي، ومنصات مؤسسية، لتصنيع المصداقية وغسل السرديات السياسية لتتوافق مع الخطاب الغربي.
في قلب هذه المنظومة يوجد معلّقون لهم سجل موثق في نشر المعلومات المضللة والدعاية المتوافقة مع الإمارات. والمؤثرون المضلِّلون هم ببساطة أصحاب وصول واسع يكررون نشر التضليل أو الدعاية.
ظهور منسّق
كان معظم هؤلاء المؤثرين شبه مجهولين حتى أواخر 2024، ثم فجأة ظهروا في كل مكان.
وأُنشئت ما لا يقل عن سبعة حسابات على منصة “إكس” (تويتر سابقًا) مرتبطة بشبكة المؤثرين هذه في ديسمبر/ كانون الأول 2024 وحده. وفي الفترة نفسها، سُجّلت خمسة مواقع شبيهة بمواقع إخبارية أصلية: هي “ذا واشنطن آي”، و”ديلي يورو تايمز”، و”بريفليكس”، و”أفريكالكس”، و”إنفوفليكس”، في غضون أسابيع خلال شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني 2024.
وترتبط أيضًا مواقع أقدم مثل “يوروبوست آجنسي” و”نيويورك إنسايت”، التي تم إطلاقها في عام 2023، بنفس المنظومة.
يصبح التنسيق بين كل هذه الأطراف جليًا بمجرد التدقيق في الأمر.
يسجّل أعضاء الشبكة مقاطعهم في نفس الاستوديو، بنفس الديكور، بما في ذلك كرة أرضية سوداء وفضية مميزة. وينشرون في نفس المنصات، ويروّجون لمحتوى بعضهم البعض، ويحضرون نفس الفعاليات.
وقد سافروا معًا إلى مؤتمرات وندوات عبر ثلاث قارات طوال عام 2025، منها، على سبيل المثال لا الحصر، مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، وجامعة كامبريدج، وجامعة كاليفورنيا في سان دييغو، ومؤتمر “تحالف المواطنة المسؤولة” اليميني في لندن.
ويبدو أن هذه المشاركات كانت محاولة لنشر رسائل محددة في مراكز سياسية رئيسية. وعبر المنصات والسياقات، يهيمن موضوع واحد: الإخوان المسلمون. وعند تحليل إنتاجهم على وسائل التواصل ظهرت إشارة “الإخوان المسلمون” باعتبارها هي الأكثر تكرارًا واستخدامًا بفارق كبير.
وتُستخدم الجماعة كإطار تفسيري شامل: التدهور البيئي؟ الإخوان المسلمون؛ الحرب الأهلية في السودان؟ الإخوان المسلمون. هجمات إرهابية في سيدني؟ الإخوان المسلمون مرة أخرى.
وبدت رحلاتهم الخارجية مكرّسة لترويج رسائل مؤيدة للإمارات وإسرائيل واليمين الأوروبي؛ فإحدى المعلّقات متخصصة في القضايا البيئية، لكنها حمّلت الإخوان مسؤولية الأضرار البيئية في فيديو بجامعة كامبريدج تحت رعاية مركز “بنسكر”.
وكرر أيضًا عضو آخر روايات إسرائيلية تزعم أن حماس تسرق المساعدات الإنسانية في جامعة جورجتاون، كما تضمنت الحملة أيضًا معلومات مضللة واضحة.
غسل السرديات
إلى جانب هؤلاء المؤثرين، تعمل شبكة من مواقع الأخبار الزائفة التي تحاكي الصحافة دون أن تعمل كمؤسسات إخبارية حقيقية، وقد صممت بشكل يهدف لإطلاق دعاية أو معلومات مضللة بشكل استراتيجي.
وبالإضافة إلى نشر مقالات كتبها المؤثرون المضلِّلون أنفسهم، تنشر هذه المواقع كميات ضخمة من محتوى منخفض الجودة، الذي غالبًا ما يتم إنشاؤه بمساعدة الذكاء الاصطناعي، ويكتبه مستقلون، ويتخلله “حصريات” استراتيجية مصممة للانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وهناك مثال يوضح هذا النموذج: في مايو/ أيار 2025، نشر موقع “ذا واشنطن آي” خبرًا “حصريًا” يزعم أن رئيس وزراء ليبيا حوّل 400 مليون دولار إلى تركيا، مشيرًا إلى تورط الإخوان المسلمين، ويبدو أن مؤلفي هذا الخبر صحفيون وهميون.
ونفى الإعلام الليبي الخبر، وأُزيل المقال بهدوء من الموقع، لكنه بقي متداولًا على منصة “إكس”.
هذا هو غسل السرديات عمليًا: مزاعم مشكوك فيها تكتسب الاستمرارية والشرعية بمجرد مرورها عبر وعاء يشبه الأخبار.
وبالمثل، نشر أحد المعلقين مقالًا في موقع مغمور يسمى “نيويورك إنسايت”، وهو أيضًا موقع زائف يروّج له مؤثرون آخرون. ويرتبط “نيويورك إنسايت” بموقع آخر روج لمعلومات مضللة مؤيدة لإسرائيل تشوه سمعة صحفيي قناة الجزيرة. كما هاجم المقال جماعة الإخوان المسلمين في السودان، وحساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، مكررًا مجموعة من أطروحات اليمين.
مصنع الكتب
ثم يأتي دور الكتب. فبين يوليو/ تموز وسبتمبر/ أيلول 2025، نشر ما لا يقل عن ثمانية أعضاء من الشبكة كتبًا، عبر نفس الناشر وفي خلال ثلاثة أشهر فقط، ةتحمل النصوص علامات واضحة على أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي: بنى نمطية، وإفراط في استخدام الشرطات، وتراكيب مقارنة، وغياب شبه كامل للمراجع أو المصادر الأصلية.
وتعمل هذه الكتب كأدوات لإضفاء المصداقية؛ حيث تسجّل محركات البحث وأنظمة الذكاء الاصطناعي هؤلاء كـ “مؤلفين لهم كتب منشورة”، مما يعزز سمعتهم.
غير أنه إذا سألت الذكاء الاصطناعي عن كتب هؤلاء المؤثرين، فلن يخبرك أن النصوص، وهي مجددًا هجوم على الإسلام السياسي، تبدو وكأنها أُنتجت في ساعات قليلة بواسطة نموذج لغوي كبير.
ما يظهر في النهاية هو منظومة تأثير متوافقة مع الإمارات، تقدّم نفسها كمجموعة من الأصوات المستقلة الإصلاحية، بينما تروّج لروايات متسقة بشكل لافت: عداء مهووس بالإخوان المسلمين، وتصوير أمني للإسلام والهجرة في أوروبا، وتوافق غير نقدي مع الرواية الأمنية الإسرائيلية، وتصوير الإمارات كدولة نموذجية.
ولا يقوم هذا التوافق على السرديات وحدها، بل على بنية تحتية: مواقع زائفة أُنشئت بالتزامن مع حسابات المؤثرين؛ وترويج مدفوع عبر شركة كريستنوكس ميديا، وهي شركة “إعلانية” أنشأها أحد هؤلاء المؤثرين؛ والظهور المتكرر في المحافل السياسية الغربية، وروابط مع شخصيات مركزية في الشبكة.
ما يبقى غامضًا هو مصدر تمويل السفر والإنتاج والترويج، وكيف يتم تنسيق القرارات التحريرية والتسويقية.
بالمقابل؛ ما ليس غامضًا هو التأثير: شبكة من المؤثرين الإماراتيين المضلِّلين، تُغسل سلطتهم عبر المؤسسات الغربية ثم يُعاد تدويرها داخل المنظومة الإعلامية كدليل على المصداقية.
وإلى أن تبدأ تلك المؤسسات بطرح أسئلة أساسية حول كيفية إنتاج مثل هذه “الأصوات المستقلة”، ستستمر عمليات مماثلة في الظهور على أنها تعليقات شعبية، بينما هي في الواقع منظومة دعائية المصغّرة.
المصدر: ميدل إيست آي
