في خطوة جديدة لتعميق معاناة الفلسطينيين وفرض المزيد من سياسات العقاب الجماعي عليهم، أعلنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي عزمها سحب تراخيص عمل عشرات المنظمات الإنسانية الدولية العاملة بالضفة الغربية وقطاع غزة ابتداءً من 1 يناير/كانون الثاني 2026.
وقررت ما تسمى وزارة شؤون الشتات الإسرائيلية، إغلاق 37 منظمة إنسانية بحجة عدم امتثالها لمتطلبات تسجيل جديدة، وعدم تقديمها بيانات مفصلة عن موظفيها وتمويلها وأنشطتها، ما سيضطرها لوقف عملها خلال 60 يومًا ومغادرة الأراضي الفلسطينية بحلول الأول من مارس/آذار 2026.
المنظمات المستهدفة ودورها الإنساني
تشمل قائمة المنظمات التي تواجه الحظر بعضًا من أكبر الهيئات الإغاثية والطبية الدولية المشهود بأدوارها، من أبرزها:
- منظمة أطباء بلا حدود (MSF)
- المجلس النرويجي للاجئين (NRC)
- كير الدولية (CARE)
- لجنة الإنقاذ الدولية (IRC)
- منظمة أكشن إيد (ActionAid)
- أوكسفام الخيرية
- كاريتاس الخيرية
وتقدم هذه المنظمات طيفًا واسعًا من الخدمات الحيوية في الأراضي الفلسطينية، تشمل:
- الرعاية الطبية الطارئة وتشغيل المستشفيات الميدانية والمراكز الصحية
- توزيع المواد الغذائية والمياه النظيفة ودعم مشاريع الصرف الصحي
- توفير المأوى والتعليم والدعم النفسي لمئات الآلاف من المدنيين
ذرائع الاحتلال لسحب التراخيص
عزت سلطات الاحتلال قرارها إلى ما أسمتها “دواعٍ أمنية” ومزاعم “مكافحة الإرهاب” بعد أن غيرت في مارس/آذار 2025 إجراءات تسجيل المنظمات غير الحكومية.
فقد اشترطت على الهيئات الدولية تقديم قوائم تفصيلية بأسماء موظفيها وخاصة في غزة بهدف ما تطلق عليه “التدقيق الأمني” ومنع تسلل من تصفهم بـ”عناصر إرهابية” إلى صفوفها، وهي تهمة فضفاضة استخدمها الاحتلال مرارًا لتجريم العمل الإنساني وتبرير استهدافه.
وتدّعي ما تسمى وزارة شؤون الشتات الإسرائيلية أن بعض المنظمات الممنوعة رفضت توفير بيانات موظفيها رغم منحها مهلة 10 أشهر لاستيفاء المتطلبات الجديدة.
وادعى بيان الوزارة أن منظمة أطباء بلا حدود تحديدًا وظفت أفرادا على صلة بحركة حماس والجهاد الإسلامي، زاعما أن هؤلاء استغلوا غطاء العمل الإنساني لأغراض عسكرية.
وقد نفت أطباء بلا حدود بشدة هذه الاتهامات ووصفتها بأنها مزاعم لا أساس لها، مؤكدة أنها “لن توظّف أبدًا عن علم أشخاصًا منخرطين بأنشطة عسكرية”.
وأعرب مسؤولون في المنظمات الدولية عن رفضهم للمبررات الإسرائيلية، واعتبروها قواعد تعسفية وغامضة ذات أغراض سياسية.
وأشارت عدة منظمات أوروبية إلى أن مطالبة “إسرائيل” بقوائم الموظفين الفلسطينيين تثير مخاوف قانونية وأخلاقية، سواء لمخالفتها قوانين حماية البيانات الأوروبية أو لما قد تشكله من خطر أمني على حياتهم في ظل الأوضاع الحالية.
وقد امتنعت بعض الهيئات عن تقديم تلك القوائم خوفًا من استهداف الاحتلال لموظفيها أو منشآتها، خاصة بعد مقتل المئات من عمال الإغاثة خلال العدوان الأخير في غزة.
واقترح تحالف (AIDA) للمنظمات الإنسانية اعتماد آلية تدقيق عبر طرف ثالث مستقل بدلًا من تسليم البيانات مباشرة لـ”إسرائيل”، إلا أنها رفضت أي حوار بهذا الشأن.
ويرى حقوقيون أن هذه المطالب تشكّل في جوهرها أداة ابتزاز سياسي وأمني للمنظمات، لا إجراءً إداريًا مشروعًا.

الأسباب الحقيقية للإغلاق
على الصعيد المحلي، سلط ممثلون عن شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في غزة الضوء على الأسباب الحقيقية وراء الخطوة الإسرائيلية.
وعلى عكس ما يروج له الاحتلال، أوضح هؤلاء أن إنهاء عمل المنظمات يأتي ضمن مساعٍ ممنهجة لمفاقمة الكارثة الإنسانية ودفع الفلسطينيين للهجرة القسرية وتفكيك مقومات صمودهم عبر تجريدهم من خدمات أساسية تضطرهم لمغادرة وطنهم بحثًا عن العلاج أو المقومات المعيشية.
ويرى هؤلاء أن تقييد عمليات الإغاثة ما هو إلا امتداد لحصار غزة منذ سنوات، والذي تستخدم فيه سلطات الاحتلال المساعدات كسلاح تفاوضي وأداة ضغط” على السكان.
وينعكس أثر هذه السياسة أيضًا على الضفة الغربية، حيث أن كثيرًا من تلك المنظمات تقدم مشاريع تنموية وإغاثية في القرى والمخيمات الفلسطينية هناك، ما يعني حرمان شرائح واسعة من خدمات التعليم والصحة والمساعدات الغذائية حال توقفها.
وبدورها، رفضت وزارة الخارجية الفلسطينية الذرائع التي ساقتها “تل أبيب” حول المنع، مبينة أن سلطات الاحتلال “لا تريد أي شاهد على جرائمها ولا تريد مؤسسات تدعم الشعب الفلسطيني وتمنع إسرائيل من تمرير مشروعها الاستعماري في تدمير حياة الشعب الفلسطيني”.
وخاصة في مجالات عمل هذه المنظمات في دعم الطفولة والصحة والتعليم والمياه واللاجئين وغيرها من القضايا الانسانية التي تعتبر في صلب القضية الفلسطينية، وفق البيان.
http://
الخارجية: تدين الغاء إسرائيل لعمل 37 منظمة غير حكومية دولية
تدين وزارة الخارجية والمغتربين لدولة فلسطين بأشد العبارات الأجراء التعسفي المتمثل في قرار سلطات الاحتلال الاسرائيلية بإلغاء تصاريح عمل مجموعة من أبرز المنظمات الدولية والإغاثية الإنسانية العاملة في الأرض الفلسطينية… pic.twitter.com/5YeXTxc0a5
— State of Palestine – MFA 🇵🇸🇵🇸 (@pmofa) December 31, 2025
أثر منعها على الفلسطينيين
يحذر خبراء الإغاثة من عواقب كارثية للقرار على الفلسطينيين. ويمكن هنا تسليط الضوء على مساهمات منظمة أطباء بلا حدود وحدها كالتالي:
-
تدير المنظمة وحدها دعمًا لنحو 20% من الأسرّة الاستشفائية في غزة.
-
تُشرف على حوالي ثلث عمليات الولادة في القطاع.
-
توفر رعاية صحية ومياه نظيفة لنحو نصف مليون شخص سنويًا.
وأكدت أطباء بلا حدود أن سحب التراخيص سيتسبب بما يلي:
- سيحدث شللًا في الخدمات الطبية المنقذة للحياة في قطاع غزة الذي يعاني نظامه الصحي أصلًا من الانهيار.
- سيحرم مئات آلاف الفلسطينيين من الوصول للعلاج الطبي والمياه الصالحة للشرب وغيرها من الخدمات الحيوية.
- إنهاء تلك الخدمات ينذر بازدياد حالات المرض ويفاقم معدلات الوفيات والأمراض.
- فقدان القدرة على الاستجابة للاحتياجات الهائلة بغزة سيشكل “كارثة إنسانية جديدة” على المدنيين المحاصرين.
ولا يقتصر الدور الحيوي على أطباء بلا حدود؛ إذ تساهم غيرها من المنظمات الممنوعة بعمق في سد الاحتياجات الأساسية.
فوفق بيان مشترك لأكثر من 200 منظمة إغاثة محلية ودولية والأمم المتحدة، فإن المنظمات غير الحكومية الدولية تدير أو تدعم الغالبية العظمى من المستشفيات الميدانية ومراكز الرعاية الصحية الأولية وملاجئ الطوارئ وخدمات المياه والصرف الصحي في غزة.
ويحذر هذا البيان من أن إلغاء تسجيل تلك الهيئات سيؤدي إلى انهيار كارثي في إيصال الخدمات الأساسية لملايين الفلسطينيين.
وتؤكد منظمات الإغاثة أن حرمانها من العمل سيضع عبئًا هائلًا على كاهل الطواقم المحلية المنهكة أصلًا ويترك فجوة لا يمكن لأي جهة أخرى سدّها، إذ لا تستطيع الأمم المتحدة وحدها تعويض غياب هذا العدد من المنظمات الدولية العاملة في الميدان.

سياسة عدوانية ممنهجة
يأتي هذا الإجراء الأخير في إطار نهج عدواني إسرائيلي لتجفيف العمل الإنساني، تعمق بعد العدوان على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ كثفت حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة من اتهاماتها لوكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية بالتواطؤ مع “حماس” أو تسهيل نشاطاتها.
وكانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” على رأس المستهدفين، حيث زعم مسؤولون إسرائيليون أنها “مخترقة من حماس” وتعمل على “تربية جيل جديد على التطرف”، وأن مساعداتها تُستخدم من قبل مسلحين.
تصاعدت الحملة العدوانية ضد أونروا مطلع عام 2025 حين حظرت حكومة الاحتلال عملها وقطعت أي تواصل رسمي معها، بل وأقرّت في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2025 قانونًا يلزم الشركات المزودة للمياه والكهرباء والخدمات المصرفية بقطع تعاملها مع الوكالة الدولية.
ورغم تبرئة محكمة العدل الدولية ساحة الأونروا من مزاعم التحيز وعدم النزاهة، فإن ذلك لم يثنِ الاحتلال عن مساعيه لإضعاف الوكالة. وقد أدت ضغوط الاحتلال إلى تعليق الولايات المتحدة تمويلها للأونروا مطلع عام 2024 مما فاقم من أزمتها المالية.
ولم تقتصر الاستهدافات الإسرائيلية على المنظمات الدولية الكبرى. ففي أكتوبر 2021 صنفت سلطات الاحتلال ستّ منظمات أهلية وحقوقية فلسطينية بارزة “منظمات إرهابية” بدعوى ارتباطها بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
شملت تلك القائمة آنذاك مؤسسات عريقة مثل الحق والضمير واتحاد لجان العمل الزراعي وغيرها، والتي تعمل في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان وتقديم الخدمات القانونية والاجتماعية للفلسطينيين.
وقد قوبل هذا التصنيف القديم وحظر المؤسسات الجديدة بتنديد واسع من الأمم المتحدة ودول غربية ومنظمات حقوقية عالمية، دعت حكومة الاحتلال للتراجع عن خطواتها وحذرت من أن هذه الإغلاقات ستجعل الاستجابة الإنسانية في غزة والضفة على شفا الانهيار.
وفي المجمل، فإن ما يجري اليوم ليس نزاعًا حول تصاريح أو إجراءات تسجيل، بل معركة على حق الفلسطيني في الحياة والبقاء.
فمن خلال إغلاق المنظمات الإنسانية، يسعى الاحتلال إلى إسكات الشهود، ورفع كلفة الصمود، ودفع السكان نحو اليأس والهجرة، وهو هدف لطالما لاح في خطاب وسياسات “إسرائيل” خلال عامي الإبادة.