على صفحة المتحف الفلسطيني الرقمي، مجموعة خاصة بالباحث حمزة العقرباوي، تضم أكثر من 900 وثيقة وصورة أرشيفية لبلدته عقربا وما حولها، خلال حقبٍ تاريخية تعود للقرنين التاسع عشر والعشرين، أما في ذاكرة الناس فهناك آثار لحكايا وقصص أطول من عمر صاحبها، الذي غادر سريعًا في نهر النيل وأعماقه.
ليست هذه المقدمة فاتحة لسيرة مؤرخ، بل لسيرة عاشق أحب البلاد، ووجد طريقه الخاص لحمايتها، بتتبع تاريخها الاجتماعي وما تناقلته الألسن من تراث شفوي، وأمثال وقصص وطقوس ومواسم، يعرف ابن الأرض طريقه إليها جيدًا، بإمكانه أن يخبرك عن فصل ولادة كل نبتة برية في فلسطين، وعن مسمياتها المختلفة، وعن الأطباق الشهية التي لطالما زينت موائد الفلسطينيين، وعن قصص تظنها خرافية فإذا بها الحقيقة، ولديه بين ثنايا أحاديثه كم هائل من الأمثال والعبر، كيف لا وهو الحكاء الذي “إذا حكى بسكتش”.
هكذا كان، حتى الـ30 من ديسمبر، حين انطفأت جذوة حكايته في مياه نهر النيل الذي أحب، لتحترق قلوب المتلهفين على سماع البقية الباقية من قصصه، وعلى الساعين للمزيد من جهده البحثي والتأريخي، صونًا لما بقي من بلاد على شرفة الضياع، فيختفي حمزة، أبو أسامة، قبل أن تختفي البلاد.
ابن الأرض وسيدها
بُعيد منتصف تموز بقليل ولد حمزة أسامة خضر ديرية في بلدة عقربا، جنوب شرق مدينة نابلس، عام 1948، لوالدٍ مزارعٍ وأمٍ فلاحة تعرف كيف تخاطب الأرض، ومنذ خطواته الأولى وجد حمزة في مساحات الزيتون والحصاد مسرح لعبه وميدان تجولاته وذاكرته، لهذا أحب دائمًا أن يوصف بـ “الفلاح”.
في سنوات طفولته الأولى، تمترس حمزة بجوار جده، تلتقط أذناه ما يسرده من تاريخ العائلات والبلدات المجاورة، وتتدرب قريحته على دور الحكاء الراوي، ما منحه مصدرًا أساسيًا للرواية والمعرفة، سيستخدمه بامتيازٍ لاحقًا.
قبيل امتحان الثانوية العامة، وخلال انتفاضة الأقصى، وبينما كانت الضفة الغربية تشتعل، انهمك حمزة في جمع المعلومات والقصص عن شهداء الانتفاضة، جاعلًا من قصاصات الصحف أرضه وسماءه، حتى التحق بجامعة النجاح الوطنية، ليدرس إدارة الأعمال في كلية الاقتصاد.
في إدارة الأعمال لم يجد حمزة نفسه، فاكتفى بعامٍ أكاديمي واحد، لينتقل للعمل في شركة بمدينة رام الله لفترة وجيزة، قبل أن يقرر التحرر والعودة إلى الأرض، وليخرج بفكرته الخاصة إلى النور، التصوير والسؤال والتدوين، وتعقب تاريخ عقربا ومواقعها الأثرية، وقصصها الدفينة تحت ألسنة العجائز.

فانطلق منذ العام 2006 في جهدٍ بحثي توثيقي خاص لاستخراج كل ما خفي من قصص الفلاحين وأرضهم، أمثالهم وأهازيجهم، معتقداتهم، أساطيرهم، مواسمهم، موائدهم، جوعهم وعطشهم، بردهم وحرّهم، مطلقًا الروح في الفلكلور الفلسطيني، ليغدو ذاكرة حية متاحة للجميع دون استثناء.
ولهذا لم يترك منحدرًا إلّا خاض به، أو مسيرة إلّا وتقدمها، أو مغارة إلا وداهمها، كما لم يفصل ما بين الذاكرة والحاضر، بل انطلق في جهدٍ نوعي بتعزيز القرى والبلدات الفلسطينية المحاصَرة بمساعي التهجير والاستيطان، ما أهّله لتبوء عضوية لجنة الدفاع عن بلدة “خربة الطويل” شرق عقربا، المهددة بالمصادرة.
عبر هذه العضوية، استطاع حمزة جذب اهتمام المتضامنين والمتجولين بقصصه وحكاياته، فأدار عام 2012 مجموعة “تجوال سفر”، التي انتظمت في مسارات مشي بين القرى الفلسطينية، تتخللها حكايات حمزة، ثم أدرك القيمة السائلة لحكاياه فجمعها في كتاب أصدره عام 2014 بعنوان “إطلالة المنبر”.
حينها وضع حمزة الذي أصبح يُسمى بـ “العقرباوي” قدميه على سكة الأرشفة المجتمعية، وبدأ مشواره بالتجول على العجائز وكبار السن لجمع ما استحضروه من ذاكرة وقصص، حتى عُرف أيضًا بـ “أبو العجائز”
من متتبع الذاكرة إلى حكّائها
الجمع والتوثيق وحكايات التراث وقصص الذاكرة التي ملأت روح العقرباوي وبصره، كان لا بد أن تخرج بطريقة ما، في مقابلة صحفية سابقة له، يقول العقرباوي أنه بدأ يتحدث من أجل تعبئة الوقت، ثم قُدم كحكواتي، ما أثار غرابته، لكنه حين بدأ الحديث جرى الحديث على لسانه كينبوع ماء غزير، وهكذا وجد نفسه حكواتيًا.
وبالكثير من الوثائق التي يعود بعضها إلى العام 1842، وحقبة الانتداب البريطاني، فالنكبة والنكسة والثورة الفلسطينية، وبعشرات المخطوطات المسندة بالتسلل، إحداها للإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، والأخرى للسلطان عبد الحميد، استطاع أن يبني كنزه وخزنته.
اللافت أن كنز العقرباوي لم يغلق بمفتاح، تمامًا كذاكرته وحكاياه، بل كان دومًا متاحًا لكل راغب بالاطلاع، متحفزٍ للمعرفة، يبدأ ذلك بسؤاله الأزلي: “ما بدكم تعرفوا التفاصيل؟” ولا ينتهي إلى حينما يدركه التعب، وتعجز أذهان الحاضرين عن تلقف المزيد من فيض معرفته.
لم يقتصر نشاط العقرباوي على التوثيق، أو الحكايات، بل غدا دليلًا سياحيًا ومرشدًا للتجوال في أرض فلسطين، مطلقًا مجموعة جولات عنوانها “باص السوشيال ميديا”، بالإضافة إلى جولات شبابية مع مدارس وطلبة جامعات تقف على التاريخي من الأماكن، واللافت من الهضاب والقباب، ليحكي قصة كاد الزمن يخفيها لولا سعي العقرباوي وإلحاحه.
في رثائه يقول الصحفي عماد الأصفر: “حمل حمزة على كاهليه منذ الصغر حملًا ثقيلًا تنوء به مؤسسات وجامعات، عمل منفردًا، بكل شغف وحب، لم يستطع أن يركز في شأن واحد، لأنه كان أمام أكوام عملاقة من تراث مهجور وقصص وأمثال لم يوثقها أحد ومواقع طالها التخريب ولم يدرسها أحد”.
“احكي لفلسطين… احكي عشان تعيش”
في عام 2015 رافق الشاب باسل الأعرج العقرباوي في مسيرات تجواله، وانهمك الاثنان في جهد مقاومة من نوع خاص، عنوانه “أرشفة المقاومة شفويًا وإحياء الذاكرة الشعبية”، ومن خلال مجموعاتهما انطلق الأعرج يحكي قصص الثورة الفلسطينية الكبرى ويمرّ على مواقع ملاحمها، بينما مضى العقرباوي يحث الشباب على التجوال في الأرض قائلًا: “من لا يعرف بلاده كيف له أن يحبها، ومن لا يحب البلاد كيف له أن يدافع عنها”.
تجوال الأعرج أهله لاحقًا للتحول من المثقف إلى المشتبك فالشهيد، ليرحل ويترك خلفه مقولته: ” لقد قمت بما آمنت به، فبحثت وحكيت وكتبت وتجولت وخططت ونظمت واشتريت السلاح وتجهزت واعتقلت وأضربت عن الطعام، فتحررت وطوردت وبادرت بالاشتباك”.
بينما أهّل التجوال العقرباوي للقول: “تجول في الأرض تمتلكها”، واستعار مقولة الفنان الفلسطيني سلمان ناطور “ستأكلنا الضباع إذا فقدنا الذاكرة”، لذلك لاحق الأرض والعجائز، خوفًا من أن ننسى أو أن تتوه الأرض عنا، موقنًا أن “موت رجلٍ كبير هو بمثابة إحراق مكتبة”، وأن الحاجة إلى توثيق لا تقل أهمية عن الحاجة إلى سلاح.
في العقود الأخيرة ازدادت مشاريع العقرباوي التأريخية والأرشيفية غزارة، تجاوزت حكاياه حدود الوطن، وأصبح له خاتمته الخاصة “دمتم على حكايا”، وحضر صوته في معظم الأنشطة والمبادرات الشبابية، في كرفان الشباب ومقام النبي موسى وغيرها من الأنشطة، ليغدو ودون أن يدري مجددًا، جسرًا بين الأرض وذاكرتها الشعبية، وبين التوثيق المعاصر.
كما لم يكتفِ العقرباوي بالرواية، بل انشغل في أرشفة متواصلة واضعًا إياها ضمن سياقات تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية، حرصًا منه على صون الهوية الفلسطينية، فعمل على توثيق الفاعلية الثقافية، وأسهم في تأسيس مشروع خزائن ودعمه، مقدمًا أرشيفه وأوراقه دون تردد حرصًا على استباق الموت نحو الحكاية والذاكرة.
كما أسس لمشروع كتاب توثيقي مع مركز رؤية للتنمية السياسية، يخص التجمعات البدوية المهجرة في الأغوار الفلسطينية، والتي وصل عددها إلى 212 تجمعًا هُجر منها أكثر من 9 آلاف فلسطيني، خلال العقد الأخير، وانشغل مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية في عدة أبحاث وأوراق سياسات جمعت بين الماضي والحاضر، وأخرجت من ركام الذاكرة، ما يثبت أن الفلسطيني عصي على الكسر.
خلال العامين الأخيرين مُنع العقرباوي من السفر، حتى سبتمبر المنصرم، حينها توجه لطلبة المدارس بين صفوفهم ومكتباتهم، يروي لهم ما لم يُروى عن قصص البلاد، ولما استطاع السفر مجددًا حمل قصص فلسطين بروحٍ جديدة تقاوم الإبادة والضم.
لتنتهي على ضفاف النيل مسيرة قصيرة غزيرة لعاشق البلاد، لأبٍ حنون لأربعة أطفال، وزوجٍ لا تنتهي حكاياه، وابن ملتصق بذاكرة والديه، يقولون “مأسوف على شبابه”، في الواقع سيأسف الفلسطينيون كثيرًا لرحيل العقرباوي، لا على شبابه فقط، ولكن على إخلاصه لأرضه، على مقاومته بالذاكرة، وعلى فضوله وشغفه وعطائه.
لو كان للبلاد أن تودع العقرباوي بما يليق بها، لوجب عليهم حمل جثمان أبا أسامة عبر سهولها ووديانها، تجاوزًا لجغرافية الضم والفصل، وعثرة الطريق وتراكم التعب، حتى تصل البلاد بأهلها إلى حيث وصل حارس الذاكرة الأخير، حتى تكتمل الحكاية التي رواها العقرباوي، كي تتصل ولا تنقطع، حتى تغدو حكاياه مناهج دراسية وقصصًا قبل النوم وخارطة للمسير في بلادٍ أثقلها الضياع..
يقول العقرباوي: “يولد المرء حكاءً”..لكنه لم يعلم أن بعض الحكايا تعلق بأصحابها حتى بعد الموت.