ترجمة وتحرير: نون بوست
تكشف آلاف الوثائق والمقابلات مع مسؤولين من حقبة حكم بشار الأسد عن آليات ممنهجة اعتمدها النظام لإخفاء أدلة جرائمه وانتهاكاته الواسعة خلال سنوات الحرب الأهلية السورية.
صور لمفقودين سوريين ملصقة على نصب تذكاري في ساحة عامة بدمشق في يناير/ كانون الثاني الماضي
وصل رؤساء الأجهزة الأمنية السورية إلى القصر الرئاسي لبشار الأسد في مواكب من سيارات الدفع الرباعي السوداء، تخترق صمت التلة التي يتربّع عليها المجمّع الرخامي المحصّن، المطلّ على دمشق.
في ذلك التوقيت؛ كانت التسريبات حول المقابر الجماعية ومراكز التعذيب التابعة للنظام تتكاثر على نحو مقلق، مهدِّدةً بكشف ما سعى النظام طويلاً إلى إخفائه. وأمام تصاعد الخطر، تحرّكت القيادات السورية العليا لاحتواء التداعيات. ووفقاً لشخصين اطّلعا على مجريات الاجتماع، الذي جرى في خريف عام 2018 استدعاء كبار قادة الأجهزة الأمنية لبحث سبل إحكام التستّر على الانتهاكات، وقطع الطريق أمام أي أثر يمكن أن يقود إلى المساءلة.
وخلال الاجتماع، طرح أحد المسؤولين الأمنيين مقترحًا يقضي بشطب هويات السوريين الذين لقوا حتفهم في السجون السرية من السجلات الرسمية، في محاولة لمحو الأثر الورقي للجرائم وإغلاق أي مسار يمكن تتبّعه لاحقاً. وبحسب روايات نُقلت عن مشاركين في الاجتماع، كان صاحب المقترح كمال حسن، رئيس «فرع فلسطين» سيّئ الصيت، أحد أبرز أذرع الشرطة السرية في البلاد. وقد أبدى علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني آنذاك، موافقته على النظر في الطرح.
وبعد أشهر قليلة لم يعد الأمر مجرّد نقاش خلف الأبواب المغلقة؛ إذ شرعت الأجهزة الأمنية فعلياً في التلاعب بالأدلة المرتبطة بجرائم النظام، بحسب ما خلص إليه تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز.
وأظهرت الوثائق أن بعض المسؤولين عمدوا إلى تزوير أوراق رسمية لمنع تتبّع وفيات المعتقلين إلى الفروع الأمنية التي احتُجزوا وتوفوا فيها. كما جرى حذف بيانات أساسية، مثل رقم الفرع أو الرقم التعريفي للمعتقل. إضافة إلى ذلك، أصدر مسؤولون حكوميون كبار أوامر بتلفيق اعترافات لمعتقلين لقوا حتفهم أثناء الاحتجاز، على أساس أن الاعترافات المكتوبة قد توفّر غطاءً قانونياً للنظام في مواجهة الوفيات الجماعية داخل السجون.
وراجعت نيويورك تايمز آلاف الصفحات من الوثائق السورية الداخلية، من بينها مذكرات مصنّفة «سري للغاية»، جرى تصوير العديد منها داخل أكثر فروع الأجهزة الأمنية السورية سوءاً في السمعة، بعد سقوط نظام الأسد العام الماضي. وكانت غالبية تلك الفروع، المعروفة بأرقامها، تضم سجونًا داخل مقارّها.
كما أُجريت مقابلات مع أكثر من 50 شخصية، شملت مسؤولين أمنيين وسياسيين، ومحققين، وحراس سجون، وأطباء شرعيين، وعمال مقابر جماعية، وموظفين حكوميين آخرين، أسهم كثير منهم في التحقق من صحة الوثائق.
وبمجموعها، ترسم هذه الوثائق والشهادات الصورة الأكثر شمولاً حتى الآن لجهود النظام في الإفلات من المساءلة عن نظام قمعي واسع النطاق، كما تكشف كيفية تعامل ديكتاتورية شديدة السرية، في الزمن الحقيقي، مع تصاعد الضغوط والعزلة الدولية.
وخلال سنوات حكم الأسد، اختفى أكثر من 100 ألف شخص، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، وهو رقم غير مسبوق في أي نظام حكم منذ الحقبة النازية. وتُظهر الوثائق أن السلطات بذلت جهوداً معقّدة، وأحياناً مرهقة، للتستّر على هذه الجرائم، من خلال عقد اجتماعات لمناقشة الرسائل الإعلامية، ووضع إستراتيجيات للتعامل مع عائلات المعتقلين، فضلاً عن القلق الدائم من وثائق قد تُستخدم مستقبلاً في ملاحقات قضائية.
ورغم ذلك، تكشّفت أدلة واسعة على هذه الفظائع قبل سقوط النظام، بما في ذلك آلاف السجلات والصور التي توثّق أوضاع المعتقلين. ورغم أن كبار المسؤولين لم يُحاسَبوا حتى الآن، فقد خضع عدد من المسؤولين الأدنى رتبة للمساءلة، إذ أُدين اثنان منهم وحُكم عليهما بالسجن المؤبد في ألمانيا، فيما صدرت مذكرات توقيف بحق آخرين.
وتُعد الأدلة الجنائية المشوَّهة والوثائق المزوَّرة من بين العوامل الرئيسية التي تعقّد ملاحقة كبار المسؤولين قضائياً، لا سيما عن الجرائم المرتكبة في المراحل الأخيرة من الحرب الأهلية السورية الطويلة.

وتحدث معظم من شملتهم المقابلات شريطة عدم الكشف عن هوياتهم، خشية التعرض للانتقام أو الاعتقال، في وقت لا يزال فيه كثيرون مختبئين داخل سوريا وخارجها.
وتُظهر التحقيقات أن الأجهزة الأمنية الأقوى في دمشق لم تكن دائمًا على توافق بشأن أساليب التستّر، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الممارسات مطبّقة بشكل موحّد في جميع الفروع الأمنية.
في المراحل الأولى من الحرب، احتفظت الأجهزة الأمنية بسجلات دقيقة لأنشطتها، إذ كانت تُوثّق كل استجواب، وتُسجّل كل وفاة، وتُصوَّر كل جثة، غير أن هذا الأرشيف التفصيلي تحوّل لاحقاً إلى عبء ثقيل.
ومع تسرب الوثائق، لوّحت الولايات المتحدة بفرض عقوبات قاسية تهدد تدفق المكاسب غير المشروعة إلى قادة النظام، بينما بدأت محاكم أوروبية في توجيه اتهامات رسمية ضد الأسد وعدد من حلفائه.
ولا تزال تداعيات هذه الجهود قائمة حتى اليوم، وقد زادت من معاناة السوريين الباحثين عن إجابات بشأن مصير أحبائهم المعتقلين، في جرح مفتوح لا يزال ينزف في بلد يحاول التعافي من عقود من القمع.
«كيف يمكنني أن أجد السلام؟» يتساءل أبو الهادي العلي (47 عاماً)، فيما لا يزال مصير شقيقه، منعم العبدالله، مجهولاً منذ اختفائه في سوريا عام 2013.
وعلى امتداد سنوات من الانتظار القاسي، دفع أبو الهادي وأفراد من عائلته آلاف الدولارات لوسطاء على صلة بالنظام، بعدما أُغدقت عليهم وعود بالحصول على أي خيط يقود إلى معرفة مصير شقيقه.
ولم تتمكن العائلة إلا من تجميع معلومات تشير إلى أنه اعتُقل عند حاجز حكومي قرب الحدود السورية–اللبنانية، واتُّهم بالانتماء إلى المعارضة، قبل أن يُنقل إلى أحد الفروع الأمنية في دمشق.
ويقول أبو الهادي: «لا يزال هذا القلق ينهشني من الداخل. إلى أين أُخذ؟ كيف قُتل؟ هذه الأسئلة لا تفارقني».
حالات الاختفاء
مع تحوّل الحراك الشعبي في سوريا عام 2011 إلى حرب أهلية مفتوحة، تبدّل دور الشرطة السرية، التي شكّلت لعقود أداة قمع أساسية في حكم بشار الأسد، بصورة جذرية. إذ جرى تجاوز القيود القانونية بالكامل، فيما انخرطت الأجهزة الأمنية في حملة واسعة لسحق التمرّد وكسر إرادة السوريين.
وسرعان ما اكتظّت السجون بآلاف المعتقلين، وبحسب ثمانية محققين سابقين تحدثوا إلى نيويورك تايمز، استخدمت أساليب تعذيب وحشية شملت الصعق بالكهرباء في الأعضاء التناسلية، وإلقاء الجثث وعبوات الغاز المفتوحة داخل الزنازين، فضلاً عن الحرمان الممنهج من النوم.
ورغم ذلك، حرصت الأجهزة الأمنية على توثيق دقيق لكل معتقل.
وفي بدايات الحرب، تلقّى الأسد نصائح من حلفاء روس وتونسيين بضرورة الاحتفاظ باعترافات المعتقلين وسجلاتهم، باعتبارها وسيلة قد توفّر للنظام غطاءً قانونياً مستقبلياً، وفق إسماعيل كيوان، المسؤول السابق البارز في الفرع الطبي للجيش.
غير أن هذا التوثيق تحوّل لاحقاً إلى عبء ثقيل؛ ففي يناير/كانون الثاني 2014، هُرّبت إلى خارج البلاد صور لأكثر من 6 آلاف جثة من السجون السرية، ظهرت على كثير منها آثار تعذيب، على يد مصوّر عسكري سوري عُرف بالاسم الحركي «قيصر».
ومثّلت تلك الصور أول دليل تفصيلي وموثّق على التعذيب وعمليات الإعدام التي نفّذها النظام منذ اندلاع الحرب. وبعد أشهر، قدّمت فرنسا الصور إلى مجلس الأمن الدولي، ما عزّز مصداقيتها وفتح الباب أمام احتمال ملاحقة النظام بتهم ارتكاب جرائم حرب.
عند تلك اللحظة، انتقل الجهاز الأمني من سياسة الإنكار إلى تنظيم دفاع منهجي.
وفي أغسطس/آب 2014، عقد مسؤولون كبار في المؤسستين العسكرية والأمنية، إلى جانب شخصيات سياسية، اجتماعاً مغلقاً مع خبراء قانونيين سوريين لوضع استراتيجية مواجهة، وفقاً لمذكرة اطّلعت عليها صحيفة نيويورك تايمز. وتوثّق المذكرة اجتماعاً لمكتب الأمن الوطني، الجهة المنسّقة بين أجهزة الاستخبارات والأمن في البلاد. وقد أكّدت الصحيفة صحة ما ورد فيها عبر مسؤولين سابقين كانوا على اطلاع مباشر على تلك المداولات.
وعلى مدى يومين من المداولات، وضع المسؤولون خطة منهجية لتقويض مصداقية الصور، مستغلين غياب الأسماء المرفقة بها، بهدف الادعاء بأن عدداً محدوداً فقط يعود لمعتقلين سياسيين، في حين يمكن نسب البقية إلى مقاتلين قُتلوا في ساحات القتال أو إلى مجرمين جنائيين.
وفي السياق ذاته، أوصوا المسؤولين الحكوميين بـ«تجنّب الخوض في التفاصيل» و«الامتناع عن محاولات إثبات أو نفي الوقائع»، داعين إلى تحويل دفة المواجهة نحو «النيل من مصداقية» مسرّب الصور، قيصر، بعدما كانوا قد توصّلوا إلى تحديد هويته الحقيقية، فريد المذهان.
آثار الورق
وبحلول عام 2018، كانت موازين الحرب قد مالت لمصلحة النظام بعد استعادة قواته عدداً من المدن الرئيسية. ومع ترسيخ صورة الأسد كمنتصر، ضغط الحلفاء الروس باتجاه إعادة تأهيل سوريا دبلوماسياً بعد سنوات من العزلة الدولية.
غير أن هذا المسار أثار مخاوف داخل أروقة السلطة، إذ حذّر مسؤولون من أن عودة العلاقات قد تفتح الباب أمام دخول محققين دوليين إلى البلاد واكتشاف أدلة دامغة على الفظائع المرتكبة، وفق شهادات مسؤولين سابقين.
في المقابل، كشفت تقارير جديدة صادرة عن منظمات حقوقية عن تفاصيل أكثر فظاعة حول العنف الذي مارسه النظام ضد السوريين، ما أدى إلى تصاعد الضغوط من العائلات المطالبة بالإجابة عن مصير أحبائها، وفقاً لما أكده أحد المسؤولين الحاليين ومسؤول سابق آخر.
وعقب اجتماع مديري الأجهزة الأمنية في القصر الرئاسي خريف عام 2018، وضع علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، إستراتيجية تهدف إلى محو أدلة الجرائم السابقة وإخفاء الانتهاكات المستقبلية بشكل أكثر إحكاماً، وفقاً لمسؤول سابق ووثائق تضمنت مذكرات ومحاضر اجتماعات ومداولات بين الأجهزة الأمنية.
وبسرعة، شرع قادة بعض الأجهزة في تعديل الطريقة التي يتم بها تسجيل وفيات المعتقلين.
عادةً ما كانت جثث المعتقلين السياسيين الذين قضوا أثناء الاحتجاز في دمشق تُنقل إلى ثلاثة مستشفيات عسكرية في العاصمة، مُعلَّمة على جباهها برقمين، إما بقلم دائم أو على شريط لاصق. الرقم الأول كان يشير إلى الجهاز الأمني المسؤول عن الاحتجاز، بينما الثاني كان يُمثل هوية المعتقل، وفقاً للوثائق ومقابلات مع مسؤولين سابقين في المستشفيات العسكرية.
لكن ابتداءً من عام 2019، بدأت جهتان أمنيتان على الأقل، الفرع 248 وفرع فلسطين، بحذف بعض أو كل تلك البيانات التعريفية عند نقل الجثامين، بحسب مسؤولين سابقين في الجهازين.
لم يقتصر دور قادة النظام على التستر، بل سعوا أيضاً لتبرير وفاة السوريين الذين قضوا أثناء الاحتجاز.
وفي مذكرات سرية تعود إلى عام 2020، اقترح ضباط في إدارة استخبارات سلاح الجو تسجيل وفيات المعتقلين في السجل المدني، بحجة أن ذلك يوفر إخطاراً رسمياً للعائلات ويوفر لهم شعوراً موقتاً بالسكينة النفسية، ما قد يقلل من الضغوط الشعبية للمطالبة بالكشف عن مصير المختفين.
لكن مذكرات أخرى أظهرت تخوف بعض المسؤولين من أن هذه الخطوة قد تثير غضب العائلات وربما تؤدي إلى احتجاجات.
ورد اللواء محمد كنجو الحسن، رئيس إدارة القضاء العسكري، قائلاً: “لا حاجة لمشاركة تفاصيل الجثث مع العائلات، فقد يشكل ذلك خطراً على الأمن”.
وأبدى مسؤولون في وزارة الدفاع اعتراضهم، مشيرين إلى «الضغوط التي تواجهها البلاد» نتيجة قانون قيصر، العقوبات الأميركية الجديدة التي فُرضت أواخر عام 2019 وسُمّيت نسبة إلى المصوّر الذي سرّب الصور. وأعربوا عن قلقهم من أن قوائم المعتقلين الذين توفوا أثناء الاحتجاز قد تتسرب وتُستغل للضغط على النظام، وفقاً لمذكرات عام 2020 وأحد المسؤولين السابقين الذين شاركوا في النقاشات.
وفي أواخر يونيو/حزيران 2020، شكّل علي مملوك لجنة داخل مكتب الأمن الوطني لدراسة الخيارات المتاحة، بحسب ما ذكر المسؤول السابق وآخر على دراية بالموضوع.
بعد انتهاء مداولات اللجنة، أصدر علي مملوك أوامر للأجهزة الأمنية بتلفيق اعترافات لكل من توفي أثناء الاحتجاز، مع إعادة تأريخها إلى ما قبل الوفاة، وفق ما ذكره مسؤولان سابقان. وأضاف المسؤولان أن بعض الاعترافات تضم ادعاءات بالانتماء إلى جماعات إرهابية دولية، رغم عدم وضوح عدد الأجهزة التي تبنّت هذا الأسلوب.
وكانت المشكلة الوحيدة تتعلق بالتواقيع، إذ تنص البروتوكولات القانونية على أن يوقّع المعتقلون اعترافاتهم ببصمة الإصبع. وكان هناك تخوّف من أن تكرار استخدام عناصر الأمن لبصماتهم على الوثائق المزوّرة قد يكشف التزييف، بحسب ما أفاد به أحد المسؤولين السابقين وآخر مطّلع على الأمر.
وبالفعل، توصّل بعض المعنيين إلى حل بديل؛ فوفقاً لما أكده المسؤولان الأمنيان السابقان، فقد وُقّعت الاعترافات الأصلية ببصمات عناصر الأمن بطريقة خفيفة جداً، ثم جرى تصويرها ضوئياً بحيث بالكاد تظهر العلامات. بعد ذلك، تم إتلاف النسخ الأصلية والاحتفاظ بالصور فقط في الأرشيف. وقد اطلعت صحيفة نيويورك تايمز على نسخة من هذه الاعترافات، وأكّد مسؤول سابق أنها مزوّرة.
المقبرة الجماعية
وشكّلت المقابر الجماعية التي أُلقيت فيها جثامين المعتقلين خلال سنوات الحرب الأهلية واحدة من أكثر الأدلة إدانة على الجرائم التي ارتكبها النظام.
وأشرف العقيد مازن إسمندر على عمليات المقابر الجماعية في العاصمة، حيث نظّم فرقاً لتسلّم الجثامين من المستشفيات العسكرية في دمشق ودفنها في مواقع متفرقة حول المدينة، وفقاً لثلاثة من زملائه السابقين. وحاولت صحيفة نيويورك تايمز التواصل مع العقيد إسمندر عبر وسيط، إلا أنه رفض الإدلاء بأي تصريح للصحافيين.
وفي مطلع عام 2019، علم إسمندر من أحد رؤسائه بأن شخصاً ما سرّب معلومات إلى ناشطين معارضين وصحافيين بشأن مقبرة جماعية في منطقة القطيفة شمال دمشق، بحسب اثنين من زملائه. ونشر الناشطون لاحقاً معلومات عن المقبرة على الإنترنت، وتم التأكد من وجودها باستخدام صور الأقمار الصناعية، وأمر إسمندر بنقل جميع الجثامين إلى موقع جديد، وفقاً للزميلين.
وتم تنفيذ تلك العملية، التي كانت وكالة رويترز أول من كشف عنها في أكتوبر/تشرين الأول، على مدى عامين كاملين. واستخدمت الفرق حفّارات لنبش الجثث، ثم جُمعّت في شاحنات قلّابة ونقلت إلى موقع في صحراء الضمير شمال شرقي دمشق.
وبحسب الزميلين، شعر إسمندر بالقلق من أن يلاحظ السكان الجثث المكدسة على الشاحنات، فطلب من أحد مساعديه توفير أغطية قماشية لتغطيتها. واقترح فريقه أيضاً فرش طبقة من التراب فوق الجثث داخل الشاحنات لإخفائها بشكل أكبر.
وقال أحمد غزال، ميكانيكي في مدينة الضمير كان يقدّم خدمات إصلاح منتظمة للشاحنات وتعرّف لاحقاً على سائقيها: «كان هناك مدنيون، وأشخاص يرتدون زيّاً عسكرياً، وكبار السن بلحى بيضاء، وأشخاص عراة».
وقال إنه كان يحاول مراراً إلقاء نظرة على الجثث، على أمل العثور على رفات اثنين من أبناء عمومته اللذين اختفيا عام 2015، لكنه لم يفلح في ذلك.
وفي إحدى الليالي، استُدعي غزال إلى موقع المقبرة الجديدة لمساعدة فريق العمل في إصلاح حفّارة معطلة، وكان العقيد مازن إسمندر واقفاً إلى جانب الحفرة ويداه معقودتان خلف ظهره.
وشاهد غزال سائق الحفّارة يغرس أسنانها في إحدى الجثث ثم يقذف بها قبل إسقاطها في خندق.
نظر إسمندر إلى غزال وسأله: «أحمد، هل رأيت شيئاً؟» بحسب ما استذكره غزال. فأجاب: «لا، لم أرَ شيئاً». ثم حذره إسمندر قائلاً: «إذا قلت إنك رأيت أي شيء، فسوف تنضم إلى الجثث في الخندق».
السقوط
وعندما أصدرت الولايات المتحدة «قانون قيصر» أواخر 2019، اعتبر كثيرون العقوبات خطوة مهمة نحو مساءلة النظام السوري عن جرائم الحرب التي ارتكبها بحق شعبه.
وقال النائب الأميركي إليوت إنغل من نيويورك، الذي ساهم في ترتيب شهادة «قيصر» أمام الكونغرس: «علينا الآن التأكد من محاسبة الأسد، المسؤول المباشر عن معاناة واسعة لشعبه».
غير أن العقوبات بدت عاجزة عن ردع النظام، وأفاد محققون في جهازين أمنيين، هما الفرع 248 وإدارة استخبارات سلاح الجو، أنهم وزملاءهم أصبحوا أكثر قسوة مع المعتقلين، مدفوعين بالغضب من تراجع قيمة رواتبهم بشكل حاد نتيجة تدهور الاقتصاد، جزئياً بفعل العقوبات.
وأكد هؤلاء وغيرهم من المسؤولين الأمنيين الذين تحدثت إليهم صحيفة نيويورك تايمز أنهم لم يتلقوا أي تعليمات لتقليص أو وقف استخدام التعذيب بعد فرض العقوبات.
وبينما دخل «قانون قيصر» حيز التنفيذ، ظهرت مخاوف من أن المعتقلين المفرج عنهم قد يدلون مستقبلاً بشهادات تكشف تفاصيل التعذيب. وفي السنوات السابقة، تحدث بعض المعتقلين مع منظمات حقوقية، ما أثار قلق المسؤولين من أن أي شهادات إضافية قد تؤدي إلى تشديد العقوبات، وفقاً لما أفاد به محققون في ثلاثة أجهزة أمنية: الفرع 248، وفرع فلسطين، وإدارة استخبارات سلاح الجو.
وقال أحد المحققين، الذي عمل في الفرع 248 حتى عام 2020، إن بعض مسؤولي السجون باتوا يفضّلون إبقاء المعتقلين قيد الاحتجاز حتى وفاتهم، خشية تسريب شهاداتهم لاحقاً.
ورغم محاولات التستّر، بدأت تداعيات الجرائم تلاحق النظام بحلول عام 2023. ففي أبريل/نيسان من ذلك العام، أصدر قضاة تحقيق فرنسيون مذكرات توقيف بحق ثلاثة مسؤولين بارزين، من بينهم علي مملوك، على خلفية التعذيب والإخفاء القسري ووفاة مواطنين سوريين-فرنسيين. وبعد أشهر، صدرت مذكرات إضافية بحق بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة، إلى جانب مسؤولين آخرين، بتهمة استخدام الأسلحة الكيميائية ضد مدنيين عام 2013.
وتكشف وثائق رسمية أن هذه التطورات أثارت نقاشاً داخل مؤسسات النظام. ففي مذكرة صادرة عن القضاء العسكري في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ورد أن «النهج التقليدي القائم على نفي الاتهامات واعتبارها مسيّسة لم يعد كافياً».
وأضافت المذكرة أن قضية المفقودين، بما تحمله من «تعقيدات وطنية وإقليمية ودولية»، تتطلب معالجة حقيقية.
ولإظهار أنهم يتخذون إجراءات فعلية، دفع المسؤولون الحكوميون نحو تشكيل لجنة يُفترض أن تحقق في مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان، وفقاً للوثائق. وفي الوقت نفسه، كُلّفت مجموعة أخرى بتجميع خبراء سوريين في القانون الدولي لتقديم الدفاع القانوني في مواجهة القضايا المنظورة أمام المحاكم الفرنسية.
ثم، في ديسمبر/كانون الأول 2024، انهار النظام بسرعة مفاجئة؛ حيث اندفعت قوات التحالف المتمرّد بقيادة أحمد الشرع، الذي أصبح لاحقاً رئيس سوريا، إلى دمشق في تقدم خاطف. وفرّ بشار الأسد، وعلي مملوك، ومحمد كنجو الحسن، ومسؤولون كبار آخرون إلى روسيا.
كما فرّ العقيد مازن إسمندر، المسؤول عن عمليات المقابر الجماعية. وفي الليلة التي وصل فيها المتمرّدون، أخرج صندوقاً خشبياً من الخزانة المقفلة خلف مكتبه، وفقاً لأحد مساعديه.
وكان الصندوق يحتوي على بطاقات هوية لمدنيين سوريين توفوا أثناء الاحتجاز أو أُعدموا. ووزع إسمندر هذه البطاقات على بعض أفراد فريقه، معتقداً أنها قد تساعدهم على الفرار، بحسب المساعد.
ولا يزال إسمندر متوارياً عن الأنظار.
المصدر: نيويورك تايمز