تشهد إيران واحدة من أكثر لحظاتها السياسية حساسية منذ سنوات، مع اتساع رقعة الاحتجاجات لليوم الثالث على التوالي وانتقالها من طابع اقتصادي محض إلى حراك ذي أبعاد سياسية واجتماعية متشابكة، فالمشهد الذي بدأ بإغلاق أسواق الهواتف المحمولة في طهران احتجاجاً على الانهيار المتسارع لقيمة الريال، سرعان ما تمدد إلى الجامعات والمدن الكبرى، كاشفاً عن عمق الأزمة التي تواجهها الدولة الإيرانية على أكثر من مستوى.
يمكن القول بأن التحدي الاقتصادي والاجتماعي الذي تواجهه إيران اليوم، يمثل تجسيداً عملياً للأثار والتداعيات التي أحدثتها عقوبات الضغوط القصوى التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران بعد انسحابها من الاتفاق النووي في مايو 2018، ومن ثم الواقع الصعب الذي فرضته حرب الإثني عشر يوماً في يونيو 2025، إذ لم تكن الحرب التي شنتها إسرائيل ذات طابع عسكري فقط، بل كانت حرب تدمير شامل استهدفت كل القطاعات الاقتصادية والخدمية في إيران، وهو ما جعل إيران اليوم تواجه تحدي كبير في كيفية احتواء هذه التداعيات المركبة، عبر سياسات استرضائية تنهي حالة التصعيد السياسي الذي بدأت تشهده الشوارع والميادين العامة في طهران ومدن أخرى.
من السوق إلى الجامعة: تحول في طبيعة الحراك
يمثل انضمام طلاب الجامعات إلى الاحتجاجات نقطة تحول لافتة. تاريخياً، كان للحراك الطلابي في إيران دور محوري في إعطاء الاحتجاجات بعداً سياسياً ورمزياً، يتجاوز المطالب المعيشية المباشرة. ولعل الاحتجاجات التي قام بها طلاب جامعة طهران في عام 1999، وذلك احتجاجاً على إغلاق صحيفة “سلام” الإصلاحية، يمثل تجسيداً حقيقياً للفجوة بين الجامعة والنظام في إيران، إذ أدت تلك الاحتجاجات إلى هجوم عنيف لقوات الأمن على السكن الطلابي في الجامعة، مما أدى إلى قتلى وجرحى واعتقالات واسعة، وأشعلت مظاهرات امتدت لعدة أيام في أنحاء البلاد، وانتهت بقمع حكومي، لكنها مهدت الطريق للحركة الخضراء لاحقاً في عام 2009.
والمظاهرات التي تشهدها جامعات كبرى في طهران وأصفهان خلال اليومين الماضيين، وما رافقها من شعارات تجاوزت النقد الاقتصادي إلى الطعن في شرعية النظام، تعكس انتقال الغضب من هامش السوق إلى قلب المجال العام والنخبوي.
هذا التحول يضع السلطات أمام معادلة أكثر تعقيداً: فاحتواء احتجاجات التجار يختلف جذرياً عن التعامل مع حراك طلابي منظم، يمتلك أدوات التعبئة والرمزية، ويستحضر إرثاً طويلاً من الصدام بين الجامعة والنظام، فالحالة الطلابية في إيران لطالما فرضت نفسها في سياق سياسي يتجاوز قدرة النظام على التعامل معه في بعض الأحيان، خصوصاً في احتجاجات 2009.
والسبب الرئيسي في ذلك هو أنه رغم محاولات النظام إعادة تشكيل المجال العام داخل الجامعات الإيرانية، إلاّ إن هذا المجال ظل عصياً على النظام، وذلك بسبب تأثر الحياة الجامعية في إيران بأفكار الديمقراطية والحريات العامة الموجودة في الدول الغربية، إلى جانب نجاح الطبقة المثقفة في إيران في فرض نفسها كمنافس حقيقي للنظام، وجعله غير قادر على فرض أيديولوجيته السياسية على توجهات الطلاب في الجامعات الإيرانية.
الاقتصاد كوقود سياسي
لا يمكن فصل الاحتجاجات الحالية عن الانهيار غير المسبوق في المؤشرات الاقتصادية، فإن تجاوز الدولار عتبة 1.4 مليون ريال في السوق غير الرسمية ليس مجرد رقم صادم، بل مؤشر على فقدان الثقة بالنظام النقدي برمته. ومع تضخم رسمي يتجاوز 50 في المائة، وتضخم فعلي أعلى بكثير في أسعار السلع الأساسية، باتت الضغوط المعيشية عاملاً جامعاً لفئات اجتماعية متباينة، من التجار إلى الموظفين والطلاب.
لكن الأخطر في هذه المرحلة أن الأزمة الاقتصادية لم تعد تُقرأ كفشل إداري مؤقت، بل باتت تُفسر شعبياً بوصفها نتيجة مباشرة لبنية سياسية واقتصادية مغلقة، وعقود من العقوبات وسوء الإدارة. وهذا ما يفسر سرعة انتقال الاحتجاجات من مطالب “إصلاحية” إلى شعارات سياسية جذرية.
في هذا السياق، نُشرت في الأيام الماضية دراسة للباحث الإيراني ولي ناصر والتي تحدث فيها عن حاجة إيران لنموذج (شي جي بينغ إيراني)، وهو يتحدث في هذه المقالة إلى أن الثورة التي أحدثها الرئيس الصيني شي جي بينغ في الصين خلال السنوات الماضية، تمثل نموذج حقيقي يمكن الركون إليه إيرانياً، فالنموذج الصيني حسب رأيه أبقى الأيديولوجية الشيوعية كإطار سياسي حاكم، لكنه حرر الاقتصاد، وبالتالي فإن النظام الإيراني إذا كان مصراً على التمسك بالأيديولوجية الثورية، فإن هذا لا يمنع من تحرير الاقتصاد، لأن بقاء النموذج الحالي حسب رأيه سيجعل إيران أمام تحديات سياسية كبيرة في المستقبل.
بازار كرمانشاه يدخل في إضراب واسع ويوقف نشاطه التجاري ضمن الاحتجاجات الحالية في إيران رفضًا للأوضاع الاقتصادية والمعيشية في إيران وانهيار العملة الإيرانية بشكل حاد يوميًا. pic.twitter.com/TUSWEiaL2F
— نون بوست (@NoonPost) December 30, 2025
وبالعودة للسياق الاقتصادي للاحتجاجات الحالية، لم يعد التضخم المرتفع مجرد رقم اقتصادي، بل تحول إلى تجربة يومية ملموسة للمواطنين، حيث ترتفع أسعار السلع الأساسية بوتيرة أسرع من قدرة الدخول على التكيف، ما أدى إلى تآكل واسع للطبقة الوسطى ودفع فئات كانت تقليدياً أقل ميلاً للاحتجاج، مثل صغار التجار وأصحاب الأعمال الصغيرة، إلى الانخراط في أشكال من العصيان الاقتصادي، أبرزها إغلاق المحال وتعليق الأنشطة التجارية.
وتكتسب انطلاقة الاحتجاجات من الأسواق دلالة خاصة، إذ إن السوق لطالما شكل أحد أعمدة التوازن الاجتماعي للنظام، مستفيداً من علاقات متبادلة مع الدولة. خروج هذا الفاعل من موقع الحياد أو الدعم الضمني إلى موقع الاحتجاج يعكس خللاً في العقد غير المعلن الذي حكم العلاقة بين الدولة وهذه الفئة لعقود.
السلطة بين خطاب الحوار وهاجس الانفلات
يحاول الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ومنذ انطلاق الاحتجاجات الحالية تقديم مقاربة مزدوجة تقوم على امتصاص الغضب عبر الدعوة إلى الحوار، بالتوازي مع إجراءات اقتصادية إسعافية، مثل إجبار رئيس البنك المركزي الإيراني (محمد رضا) على تقديم استقالته، ووعود بإصلاحات نقدية وضريبية مؤقتة. ومن ثم فإن هذا الخطاب يعكس إدراكاً رسمياً لخطورة اللحظة، ومحاولة لتفادي تكرار سيناريوهات سابقة انتهت بتصعيد أمني واسع.
في المقابل، يبرز خطاب أكثر تشدداً من البرلمان، حيث حذر رئيسه (محمد باقر قاليباف) من “استغلال” الاحتجاجات والانزلاق نحو الفوضى. هذا التباين في الخطاب داخل هرم السلطة لا يعكس بالضرورة انقساماً حاداً، بقدر ما يعكس توزيعاً للأدوار بين الاحتواء السياسي والردع الأمني.
العاصمة الإيرانية طهران تشهد احتجاجات واسعة في سوقها المركزي ومحيطه احتجاجًا على الانهيار الحاد في سعر الريال الإيراني وتدهور الأحوال المعيشية. pic.twitter.com/OukbKJtx6W
— نون بوست (@NoonPost) December 29, 2025
إذ إن الرسائل التحذيرية التي نُسبت إلى أجهزة أمنية، واستخدام الغاز المسيل للدموع في بعض المناطق، تؤكد أن خيار القوة ما زال حاضراً كأداة احتياطية، حتى وإن جرى تغليفه بخطاب دستوري يعترف “بحق التظاهر السلمي”، إذ إنه من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن الخيار الأمني سيكون حاضراً، بل وسيكون العنصر الأكثر حضوراً في قادم الأيام، خصوصاً إذا ما استشعر النظام الإيراني بأن هناك تحرك عسكري إسرائيلي سيحدث، خصوصاً وإنه في الوقت الذي تسيطر فيه الأصوات الاحتجاجية على الشوارع الإيرانية، كانت هناك رسائل تحذير شديدة اللهجة قادمة من واشنطن على لسان كل من الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) ورئيس الحكومة الإسرائيلية (بينيامين نيتنياهو) خلال زيارته الحالية للولايات المتحدة، والتي أظهرت توافقاً أمريكياً إسرائيلياً على إمكانية شن عملية عسكرية ضد إيران في قادم الأيام.
إن تزامن الاحتجاجات مع مواقف داعمة من أطراف خارجية، يمنح السلطة الإيرانية ذريعة مألوفة لربط الحراك بـ “التدخل الخارجي”، غير أن هذا العامل الخارجي، على أهميته في الخطاب السياسي الإيراني، لا يلغي حقيقة أن جذور الأزمة داخلية بامتياز، فالعقوبات الغربية قد تكون عاملاً ضاغطاً، لكنها تعمل في بيئة اقتصادية هشة أصلاً، تفتقر إلى الشفافية والمرونة، وتعاني من اختلالات بنيوية عميقة.
إلى أين تتجه الأزمة؟
المشهد الحالي يوحي بأن إيران تقف أمام اختبار مزدوج: اختبار القدرة على احتواء أزمة اقتصادية خانقة، واختبار إدارة حراك اجتماعي آخذ في التسييس. نجاح الحكومة في فتح قنوات حوار حقيقية، مقرونة بإجراءات ملموسة تخفف الضغط المعيشي، قد يحد من اتساع الاحتجاجات مؤقتاً. لكن من دون إصلاحات بنيوية أعمق، كما تحذر قوى سياسية إصلاحية ومعارضة، فإن جذوة الغضب مرشحة للاشتعال مجدداً.
تشير المعطيات الحالية إلى ثلاث مسارات محتملة. الأول يتمثل في احتواء مؤقت عبر تنازلات اقتصادية محدودة، قد تخفف حدة الاحتجاجات دون معالجة جذورها. الثاني يتمثل في تصعيد تدريجي، في حال فشل الحوار واستمرار التدهور الاقتصادي، ما قد يدفع الدولة إلى تشديد القبضة الأمنية. أما الثالث، وهو الأقل احتمالاً في المدى القصير، فيقوم على إطلاق إصلاحات بنيوية حقيقية تعيد ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع وتخفف من قابلية تكرار الاحتجاجات.
في المحصلة، لا تبدو الاحتجاجات الراهنة مجرد موجة عابرة، بل تعبيراً عن تراكم طويل من الأزمات، حيث بات الاقتصاد مرآة تعكس أزمة ثقة أوسع بين الدولة والمجتمع. وكيفية تعامل النظام مع هذه اللحظة ستحدد ليس فقط مسار الاحتجاجات، بل شكل العلاقة بين السلطة والشارع في المرحلة المقبلة.
