تودع مصر عام 2025 محمّلة بإرث سياسي واقتصادي، بل وإنساني، بالغ القسوة؛ إرث تشكّل بفعل سياسات ومواقف بدت في كثير من محطاتها خارج الإطار الأخلاقي الذي ميّز الدولة المصرية في كثير من محطات تاريخها، تلك السياسات التي أسهمت بشكل أو بأخر في تشكيل العديد من المسارات العامة، دون أن تفضي إلى اختراقات حقيقية في عدد من الملفات الحساسة التي ظلّت تراوح مكانها، أو تتفاقم تعقيداتها مع مرور الوقت.
وفيما يحتفي الإعلام الرسمي والموالي بما يُقدَّم بوصفه “إنجازات”، يفرض الواقع نفسه بصورة مغايرة، كاشفًا عن مشهد مأزوم تعكسه حزمة من الأزمات والملفات المفتوحة، وهكذا يتجسد انفصام واضح في المشهد العام، احتفاء في الخطاب الرسمي، وغضب في الشارع، نجاحات معلنة، وإخفاقات ملموسة، وبين الطرفين يقف المواطن المصري في موقع المتفرج، بعيدًا عن دوائر التأثير وصناعة القرار.
في هذا الجولة السريعة، نسلّط الضوء على أبرز المحطات التي شهدتها الساحة المصرية خلال العام المنصرم، تلك التي فجّرت سجالات حادة بين مهلّل ومتحفّظ، وبين منتشٍ ومتوجّس، في محاولة لتقديم ما يشبه “كشف حساب” سنوي لأداء السياسة المصرية خلال عام حافل بالجدل والتناقضات.
اتفاق غزة.. جدلية الإنجاز والإخفاق
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أُبرم اتفاق شرم الشيخ بشأن غزة في محاولة لوضع حد للحرب المستمرة على القطاع بعد عامين من الدمار الشامل، وسط آمال واسعة بأن يشكل هذا الاتفاق مخرجًا لمعاناة نحو مليوني فلسطيني ذاقوا صنوف القتل والحصار والتجويع، وقد قُدِّم الاتفاق حينها بوصفه لحظة فارقة يمكن أن تفتح نافذة نحو التهدئة، وتخفف من واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية قسوة في التاريخ الحديث.
داخليًا، تعامل الإعلام المصري مع الاتفاق باعتباره إنجازًا دبلوماسيًا كبيرًا يُحسب للقاهرة، وجرى الترويج للرئيس عبد الفتاح السيسي بوصفه “رجل السلام في المنطقة”، بل ذهب بعض الخطاب الإعلامي إلى توصيف عام 2025 بـ”عام الرئيس” كما جاء على صدر صفحات جريدة “اليوم السابع” المصرية.
غير أن هذا الزخم الاحتفائي سرعان ما تراجع مع انكشاف واقع مغاير، فمع اليوم الأول لدخول الاتفاق حيز التنفيذ بدا عاجزًا عن إيقاف آلة الحرب، فاستمر القتل والقصف، بينما فقدت المقاومة إحدى أوراقها الضاغطة المتمثلة في ملف الأسرى، ما جعل الاتفاق أقرب إلى التزام شكلي بلا أثر فعلي.
ومع مرور الوقت، تصاعد الجدل حول الدور المصري في هذه التسوية، خاصة بعد أن اتضح أن الاتفاق منح إسرائيل مكاسب عجزت عن تحقيقها عسكريًا، من دون أن يفرض عليها التزامات أو ضمانات واضحة، لينقسم إزاءها الرأي العام العربي بين من رأى في الاتفاق نجاحًا سياسيًا نسبيًا لمصر، استنادًا إلى موقفها المعلن الرافض للتهجير القسري، وبين من اعتبره خطوة أفرغت المقاومة من أدواتها وأبقت الحرب مفتوحة، في ظل غياب رؤية واضحة لمستقبل غزة أو لتفاهمات المرحلة الثانية، ما جعل الاتفاق موضع تشكيك وانتقاد متواصلين.
صفقة الغاز.. تواطؤ في حرب الإبادة
في أغسطس/آب 2025، وفي ذروة حرب الإبادة التي كانت تشنها إسرائيل على قطاع غزة، ومع اتساع رقعة المقاطعة الشعبية والسياسية للاحتلال، أعلنت تل أبيب توقيع اتفاق ضخم لتصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر، بقيمة تُقدَّر بنحو 35 مليار دولار حتى عام 2040، وقد رُوِّج للاتفاق حينها باعتباره “أكبر صفقة غاز في تاريخ إسرائيل”، وفق ما أعلنه وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين، في توقيت اعتبره كثيرون مستفزًا ومشحونًا بالدلالات السياسية.
وأثار الإعلان موجة غضب عارمة في الشارعين المصري والعربي، حيث رأى فيه منتقدون طعنة لقضية الشعب الفلسطيني الذي كان يواجه حرب إبادة مفتوحة على مرأى ومسمع من العالم، في ظل صمت وعجز رسمي عربي لافت.
وتفاقم الغضب مع استخدام إسرائيل للصفقة كورقة ضغط وابتزاز سياسي ضد القاهرة، قبل أن يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 17 كانون الأول/ديسمبر 2025، المصادقة النهائية على الاتفاق، مؤكدًا مجددًا أنه الصفقة الأكبر في تاريخ بلاده وبقيمة تقارب 35 مليار دولار.
في المقابل، سعت الحكومة المصرية إلى احتواء ردود الفعل الرافضة، مؤكدة أن الاتفاق لا يُعد جديدًا بل امتدادًا لاتفاق سابق أُبرم عام 2018، ومشددة على طابعه الاقتصادي البحت في محاولة لنزع أي بعد سياسي عنه.
غير أن هذه التبريرات لم تُفلح في وقف الانتقادات، إذ رأت قطاعات واسعة أن الصفقة عمّقت فجوة المصداقية المصرية، وحوّلت القاهرة من وسيط يُفترض حياده أو داعم سياسي للفلسطينيين إلى طرف متهم بالتواطؤ، ما دفع أصواتًا حقوقية إلى تحميل مصر مسؤولية أخلاقية والمطالبة بمحاسبة المتورطين في سياق الحرب على غزة.
الانتخابات البرلمانية.. شهادة وفاة للحياة السياسية
على الصعيد الداخلي، تحوّلت الانتخابات البرلمانية، بشقيها النواب والشيوخ، من فرصة لتسليط الضوء على الديمقراطية المصرية، إلى ما يشبه شهادة وفاة رسمية للحياة السياسية والنيابية بعد الانتهاكات الصارخة التي رافقت العملية الانتخابية.
وقد شهدت هذه الانتخابات فضائح واسعة وثقتها مئات المقاطع، أظهر فيها الناخبون والمرشحون تزويرًا فجًّا لصالح أحزاب الموالاة، إلى جانب انتشار الرشى والتحشيد السياسي الممنهج، ما وضع السلطة في موقف محرج دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى التدخل وطلب مراجعة الطعون المقدمة.
أسفرت هذه المراجعة عن قرار تاريخي بإلغاء الانتخابات في نحو 70% من الدوائر بالمرحلة الأولى، في سابقة لم يعرفها البرلمان المصري من قبل، هذه الخطوة كشفت عن حجم الفوضى والهندسة السياسية التي طالت المشهد برمته، لتصبح فضيحة هذه الانتخابات الحدث الذي غطى على أي إنجاز آخر في المشهد العام.
ونتيجة منطقية لهذا الفشل تعمقت فجوة الثقة بين الشارع والمؤسسة البرلمانية، حيث بدا البرلمان أكثر ضعفًا ومجردًا من أي شرعية شعبية حقيقية، في ظل إحساس المواطنين بأن العملية السياسية أصبحت أداة لتمرير أجندات السلطة بدلًا من أن تكون منصة للتعبير الشعبي والمساءلة.
دول الجوار.. خطوط حمراء منزوعة الدسم
تعاني السياسة الخارجية المصرية تجاه ملفات الجوار الساخنة من تضخم في التصريحات وشعبوية المواقف دون ترجمتها إلى تحركات فعلية على الأرض، ما حول الدبلوماسية المصرية إلى خطاب ناعم يفتقر للقدرة الردعية.
ففي السودان، على سبيل المثال، وبينما تتصاعد الأزمة بين جنرالات الجيش وميليشيا الدعم السريع، أعلنت القاهرة عن خطوطها الحمراء، على رأسها رفض أي تهديد لوحدة السودان أو تفكك مؤسساته، معتبرة أن ذلك حدًا لا يمكن التفاوض بشأنه، إذ تعتبر الدولة المصرية استقرار السودان حجر الزاوية للأمن القومي المصري ولمنع فوضى إقليمية محتملة.
ومع ذلك، لم تنجح هذه الخطوط الحمراء في ثني الأطراف السودانية عن النزعات الانفصالية، خاصة مع الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي الذي تتلقاه ميليشيا الدعم السريع من الإمارات، الحليف المصري التقليدي، ما يجعل الوضع في السودان متأزمًا رغم الخطاب الرسمي المصري.
الوضع ذاته يتكرر في الصومال، حيث أثار الاعتراف الإسرائيلي الأحادي بإقليم أرض الصومال كدولة مستقلة زلزالًا دبلوماسيًا في منطقة القرن الإفريقي، مهددًا استقرار الممر الاستراتيجي ومؤشرات الأمن القومي العربي في البحر الأحمر.
القاهرة اكتفت بالخطاب الدبلوماسي، مؤكدًة دعمها لوحدة وسيادة الأراضي الصومالية، دون أي تحرك عملي على الأرض، ما يعكس وعيها بالمخاطر الاستراتيجية لكن محدودية أدواتها في مواجهة النفوذ الإسرائيلي.
وفي اليمن، يشهد الجنوب تحولات جيوسياسية خطيرة مع توسع نفوذ المجلس الانتقالي في حضرموت وعدن وتصاعد الخطاب الانفصالي الذي يشير إلى إعادة إحياء مشروع “دولة الجنوب”، ما يفتح فصلًا جديدًا من الصراع له أبعاد داخلية وإقليمية.
وهنا تتبنى القاهرة موقف المراقب الحذر، عكس السعودية مثلا، دون أي انخراط مباشر في هذا الملف، رغم إيمانها – وهو ما وضح في خطابها الإعلامي الرسمي- بأن الأحداث في الجنوب اليمني أكثر من مجرد صراع داخلي، إذ تشكل تقاطعًا للمصالح الإقليمية والدولية ولها تأثير مباشر على الأمن الإقليمي والتوازنات الاستراتيجية.
ولا تختلف الاستراتيجية المصرية كثيرًا في ملفات أخرى مثل ليبيا ولبنان وسوريا والعراق، أو حتى في إثيوبيا مع أزمة سد النهضة، حيث يطغى على خطاب القاهرة الشعبوي التهديدي والتصريحات القوية، فيما يظل اختراقها الفعلي محدودًا، الأمر الذي يترك الدولة المصرية محاصرة على حدودها ويضع أمنها القومي على المحك، ويبرز فجوة واضحة بين التصريحات الجريئة على المستوى الإعلامي والدبلوماسي والقدرة على التأثير الفعلي على الواقع الميداني في محيطها الإقليمي.
وقبل هذا كله، التهديدات التي يواجهها الأمن القومي المصري من الناحية الشمالية الشرقية، حيث الحدود مع غزة، ففي الوقت الذي تعربد فيه قوات الاحتلال على الحدود المصرية بعد السيطرة على محور فيلادلفيا والتحرش بين الحين والأخر بالدولة المصرية، وبدلا من التصدي لهذا الخطر الوجودي، ذهبت مصر لإبرام صفقة غاز تاريخية تضمن إنعاش الخزانة الإسرائيلية حتى عام 2040 في تحول فاضح وفارق في نفس الوقت لما آلت السياسة الخارجية المصرية ومقارباتها المتناقضة.