يشهد اليمن هذه الأيام مرحلة فارقة تتسم بتقاطع الأزمات المحلية والإقليمية على نحو غير مسبوق، ما جعل البلاد على شفا تحول جوهري في طبيعة الصراع الداخلي التي امتدت لتشمل تنافسا إقليميا مباشرا، خاصة بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، في سعي متبادل للسيطرة على مفاصل النفوذ والموانئ الاستراتيجية والثروات الطبيعية في الجنوب والشرق اليمني، وخاصة محافظات حضرموت والمهرة، إلى جانب ميناء عدن الحيوي.
وفي هذا السياق، يتضح أن شرق اليمن لم يعد مجرد مسرح للصراعات الداخلية، بل أصبح مختبرًا للتفاعلات الإقليمية والدولية، حيث تتشابك الاعتبارات الاستراتيجية مع الحسابات السياسية، ويصبح كل تحرك عسكري أو اقتصادي أو سياسي حدثًا قد يعيد ترتيب أولويات القوى الكبرى في المنطقة. هذا التقرير يقدم قراءة معمقة لمستقبل المجلس الانتقالي، وحساسية التوازنات العسكرية في حضرموت والمهرة وعدن، وحدود التسامح السعودي، والسيناريوهات المحتملة لأي خطوات أحادية قد تغيّر موازين القوى في اليمن والمنطقة.
صراع النفوذ وإعادة تموضع القوات
الخلاف بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات حول مستقبل اليمن لم يعد خلافًا تكتيكيًا عابرًا، بل يعكس تباينًا استراتيجيًا عميقًا في الرؤى والمصالح، فبينما تركز الرياض على حماية أمنها القومي وحدودها الشرقية ومنع نشوء كيانات مسلحة موازية للدولة اليمنية، تسعى أبوظبي إلى ترسيخ نفوذ طويل الأمد عبر قوى محلية، وعلى رأسها المجلس الانتقالي الجنوبي.
في ضوء التطورات المتسارعة على الساحة اليمنية، يوضح العميد عبدالغني الزبيدي في حديثه لـ”نون بوست” أن الحديث عن إعادة تموضع أو انتشار قوات المجلس الانتقالي الجنوبي في المرحلة الراهنة يظل مستبعدًا، نظرا لأن طبيعة الصراع الحالي لم تعد محصورة بين المجلس الانتقالي والمملكة العربية السعودية، بل باتت تعكس تنافسا أوسع بين السعودية ودولة الإمارات. ويؤكد أن كل طرف يسعى للحفاظ على نفوذه ومواقعه الميدانية قدر الإمكان، في ظل ضغوط إقليمية ودولية متزايدة، دون حدوث تغييرات جوهرية في المدى القريب.
وأشار الزبيدي إلى أن أي تحركات محتملة قد تقتصر على انكماش جزئي لقوات المجلس الانتقالي باتجاه المدن، بينما ستبقى مناطق الحدود، خصوصًا مع السعودية، تحت سيطرة قوات أخرى مثل “درع الوطن”. وفي حال فُرضت إعادة تموضع فعلية مستقبلًا، فقد تتجه القوات نحو محافظات أبين أو شبوة أو حتى الأطراف الجنوبية من حضرموت، ولا سيما الموانئ، وهو ما قد يكرّس أمرًا واقعًا جديدًا على الأرض.
قصف ميناء المكلا رسالة سعودية كسرت صمت التحالف.. هل دخل الخلاف السعودي–الإماراتي مرحلة العلن؟ pic.twitter.com/bPZsVkEPIj
— نون بوست (@NoonPost) December 30, 2025
أما فيما يتعلق بمدينة عدن، فقد شدد الزبيدي على أهميتها الاستراتيجية والتاريخية باعتبارها ميناء دوليًا محوريًا، مؤكدًا أن أي تطوير حقيقي لميناء عدن يصب في مصلحة اليمن ككل. وأوضح أن هناك مساعي إقليمية حثيثة لإعاقة هذا التطور لما قد يشكله من منافسة مباشرة لموانئ أخرى في المنطقة. كما أشار إلى الموقع الجغرافي لعدن وإشرافها على مضيق باب المندب، الذي بات يحظى بأهمية متزايدة في ظل التحولات الإقليمية بعد الأحداث الأخيرة في المنطقة، ما يجعل السيطرة على المدينة هدفًا استراتيجيًا بالغ الحساسية.
وأوضح الزبيدي أن ثقل شبوة الحقيقي يكمن في طبيعتها الجغرافية والقبلية أكثر من ثقلها الحزبي أو السياسي، مبينًا أن حضور المجلس الانتقالي فيها محدود نسبيًا، رغم وجود نفوذ إماراتي في ميناء بلحاف ومحاولات مستمرة للتأثير عبر شراء الولاءات. وأكد أن شبوة لا تمثل أولوية استراتيجية كبرى مقارنة بمحافظتي حضرموت والمهرة، وأن تأثيرها يظل محدودًا في المعادلة الإقليمية.
كما أكد الزبيدي أن حضرموت والمهرة تمثلان عمقًا استراتيجيًا بالغ الأهمية للمملكة العربية السعودية، بعلاقات تاريخية واجتماعية متجذرة، معتبرًا أن أي تمدد لقوى أخرى في هذه المناطق يُنظر إليه سعوديًا كتجاوز للخطوط الحمراء. وأشار إلى أن الخطاب الداعم لوحدة اليمن غالبًا ما يُستخدم في الإطار الإعلامي، بينما تظل الحسابات الاستراتيجية والأمنية هي المحرك الفعلي للسياسات على الأرض.
حضرموت والمهرة بوابة اليمن الشرقية
تمثل محافظة حضرموت شرقي اليمن أكبر مساحة جغرافية في البلاد، وتمتلك ثروات طبيعية ضخمة، إذ تُنتِج نحو 80% من النفط اليمني وتضم موانئ استراتيجية مطلة على بحر العرب، مما يجعلها مصدر الدخل الأبرز للدولة اليمنية وورقة ضغط قوية في أي تسوية سياسية مستقبلية. كما أن موقعها الحدودي مع السعودية يضفي عليها أهمية أمنية بالغة، ويضعها في قلب التنافس السعودي الإماراتي حول النفوذ في اليمن.
الباحث رماح الجبري أكد أن محافظتي حضرموت والمهرة تمثلان أكبر مساحة جغرافية في اليمن، وتشكلان البوابة الشرقية للبلاد، مؤكدًا أن أهميتهما لا تقتصر على الداخل اليمني فحسب، بل تمتد لتشمل بعدًا أمنيًا واستراتيجيًا مباشرًا للمملكة العربية السعودية، سواء في حماية الحدود أو تأمين الملاحة الدولية ومصادر الطاقة. وشدد الجبري على أن استقرار حضرموت والمهرة يُعد مصلحة يمنية سعودية مشتركة، وخطًا أحمر لا يحتمل العبث أو محاولات فرض الأمر الواقع.
قصف ميناء المكلا رسالة سعودية كسرت صمت التحالف.. هل دخل الخلاف السعودي–الإماراتي مرحلة العلن؟ pic.twitter.com/bPZsVkEPIj
— نون بوست (@NoonPost) December 30, 2025
وأوضح الجبري في تصريح لـ”نون بوست ” أن ما تشهده محافظة حضرموت في المرحلة الراهنة يمكن قراءته بوصفه محاولة من المجلس الانتقالي الجنوبي لفرض واقع بالقوة، في مواجهة رفض حضرمي واسع، إلى جانب رفض رسمي من مجلس القيادة الرئاسي، وموقف سعودي واضح باعتبار المملكة قائدة لتحالف دعم الشرعية. كما أشار إلى وجود تحفظات إقليمية ودولية تجاه أي تحركات أحادية، مؤكدًا أن مجمل هذه المعطيات يكشف أن المجلس الانتقالي يسير في مسار صدامي قد يضعه في مواجهة شاملة مع مختلف الأطراف، دون غطاء سياسي أو قانوني.
وأضاف أن التطورات في حضرموت لا يمكن عزلها عن المشهد اليمني العام، إذ إن أي توتر أو صراع داخلي ينعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على البلاد ككل. واعتبر أن الصراعات بين الأطراف اليمنية لا تصب إلا في مصلحة مليشيا الحوثي، من خلال تشتيت الجبهة الوطنية، وإضعاف مؤسسات الدولة، وإطالة أمد الحرب على حساب مصالح اليمنيين.
وفي سياق متصل، رأى الجبري أن خروج دولة الإمارات العربية المتحدة من اليمن استجابة لقرار رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي قد يُحدث تحولًا في قواعد الاشتباك، لافتًا إلى أن الأرض تميل بطبيعتها إلى جانب أبنائها. وأكد أن قبائل حضرموت تمتلك الإرادة والقدرة على حماية محافظتها، وترفض بشكل قاطع فرض أي واقع بالقوة، بما في ذلك محاولات المجلس الانتقالي توسيع نفوذه خارج الإرادة المحلية.
تصدع التحالف
تشير تقارير إعلامية دولية إلى أن ما يجري في اليمن يعكس أزمة أوسع داخل التحالف العربي، حيث بدأت الاصطفافات الإقليمية بالتغير، وظهرت مؤشرات على إعادة رسم العلاقات الخليجية. ويُنظر إلى التوتر السعودي الإماراتي في اليمن باعتباره عاملًا قد يعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة، ويؤثر سلبًا على جهود مواجهة جماعة الحوثي، التي تستفيد من أي انقسام داخل معسكر خصومها.
حيث يرى الباحث في العلاقات الدولية عادل المسني أن إعلان رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي بطرد دولة الإمارات العربية المتحدة مثّل صدمة قوية داخل التحالف، وعكس مستوى غير مسبوق من التوتر والانقسام. ويشير إلى أن البيان السعودي الذي أعقب الإعلان جاء شديد اللهجة، وحمّل أبوظبي بشكل مباشر مسؤولية دعم المجلس الانتقالي الجنوبي، في تحول واضح في الخطاب السياسي السعودي تجاه شريكها في التحالف.
ويؤكد المسني في تصريح ل”نون بوست” أن مسار التطورات الحالية يتجه نحو مواجهة مباشرة، معتبرًا أن ما يجري يعكس بداية مرحلة جديدة تتجاوز الإطار التقليدي للتحالف، وتؤشر على نهاية التفاهمات التي حكمت العلاقة خلال السنوات الماضية.
ما خلفية الصراع بين السعودية والإمارات، وكيف أشعلت اليمن شرارته؟ pic.twitter.com/a9WSZwp4ka
— نون بوست (@NoonPost) December 30, 2025
ويضيف أن السيطرة على محافظتي حضرموت والمهرة قلبت موازين المعادلة السياسية والعسكرية، وشكّلت مؤشرًا قويًا على تصاعد التوتر في مختلف الملفات، ليس داخل اليمن فحسب، بل على مستوى العلاقات الإقليمية المرتبطة به. ويصف المسني هذا المسار بأنه تعبير عن “تمرد إماراتي” يعكس تحولًا عميقًا في طبيعة العلاقة مع المملكة العربية السعودية، محذرًا من أن تداعيات هذا التوتر لن تبقى محصورة داخل الساحة اليمنية، بل ستتجاوزها إلى نطاق أوسع.
وفي هذا السياق، يشير المسني إلى أن الاصطفافات والتحالفات الإقليمية بدأت تتشكل من جديد، ما ينذر بأزمة خليجية وإقليمية آخذة في التشكل. ويعتبر أن البيان السعودي يمثل دليلًا واضحًا على استنفاد جميع مسارات الحل، لا سيما مع تزامنه مع تصعيد ميداني على الأرض، وهو ما يعكس انتقال الأزمة إلى مرحلة أكثر تعقيدًا وخطورة.
الأمن القومي السعودي وخطوط لا تقبل المساومة
وتحذر مراكز بحثية غربية من أن التحولات الجارية في اليمن، خصوصًا في الشرق والجنوب، لا تقتصر آثارها على الداخل اليمني، بل تمتد إلى أمن الخليج والملاحة الدولية في البحر العربي وباب المندب. وتؤكد هذه الدراسات أن أي تفكك إضافي في بنية الدولة اليمنية أو صراع نفوذ بين حلفاء الأمس قد يخلق فراغات أمنية تستفيد منها أطراف إقليمية ودولية منافسة.
الخبير العسكري والاستراتيجي السعودي، عبد الله غانم القحطاني، قال في حديثه لـ”نون بوست” إن المنطقة بأسرها، ولا سيما النطاق الجغرافي المحيط بالمملكة العربية السعودية، تمثل أهمية بالغة من الناحيتين العسكرية والاستراتيجية، ليس فقط لأمن المملكة الوطني، بل أيضًا لمصالحها الإقليمية ولمصالح الأشقاء في المنطقة العربية عمومًا.
وأوضح القحطاني أن المخاطر التي تهدد المملكة تتجسد بشكل أساسي في التهديدات الأمنية، خاصة في حال اندلاع صراعات بين قوى أخرى داخل اليمن، لافتًا إلى أن اليمن يشهد وجود ميليشيا انقلابية في صنعاء اختطفت الدولة، وهي عدو لليمنيين كافة، مؤكدًا أن اليمن والمنطقة لا تحتاجان إلى ميليشيا جديدة أو قوة مسلحة إضافية تدخل في صراع مع قوات يمنية أخرى على حدود المملكة.
وشدد القحطاني على أن مواقف المملكة كانت واضحة، إذ جاءت إلى اليمن لدعم الشعب اليمني ومساندته، وليس لإشعال الفتن أو إعادة تأجيج الصراعات. وأوضح أن المجلس الانتقالي الجنوبي يُعد أحد مكونات المشهد اليمني، لكنه لا يمثل جميع الأطراف ولا يعبر عن كل الجنوبيين في المحافظات الجنوبية.
وأشار القحطاني إلى أن إعادة انتشار قوات المجلس الانتقالي أو انسحابها من بعض المحافظات قد يكون خطوة إيجابية، إذا أسهمت في تخفيف التوتر وحفظ الحقوق المحلية. وأكد أن أي اقتراب من حدود المملكة أو تهديد لمصالحها يُعد خطًا أحمر، مستحضرًا مواقف تاريخية حاسمة اتخذتها الرياض دفاعًا عن أمنها القومي.
المجلس الانتقالي ومستقبل التمثيل الجنوبي
سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي مؤخراً على محافظتي حضرموت والمهرة في شرق اليمن لم تكن مجرد تطور ميداني، بل مثلت نقطة مفصلية في مسار السلطة الشرعية اليمنية ومستقبل الدولة الموحدة. هذه الخطوة أثارت احتقاناً حاداً داخل مكونات الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وبخاصة داخل مجلس القيادة الرئاسي الذي يضم أبرز القوى السياسية الرئيسية
ترى أطراف يمنية أن هذا التوسع العسكري أدى إلى تفكيك الرمزية السياسية للدولة اليمنية الموحدة وتقويض وحدة القرار الأمني والعسكري، وهو ما يُنظر إليه على أنه تهديد مباشر لوحدة اليمن وسيادته، ويزيد من مخاطر الانزلاق نحو مزيد من الانقسامات الداخلية. كما حملت هذه السيطرة مؤشرات قوية على تراجع نفوذ الحكومة المركزية مقابل تعزيز حضور قوى إقليمية محلية، ما أعاد فتح النقاش حول احتمالات تصدع الدولة اليمنية الموحدة وتجزئتها على أسس جغرافية وسياسية جديدة.
الأكاديمي والباحث السياسي، عائد المناع قال في حديثه لـ”نون بوست” إن خروج المجلس الانتقالي الجنوبي من مجلس القيادة الرئاسي يُعد خطوة ضارة من حيث المبدأ، لما يترتب عليها من غياب التمثيل السياسي المنظم للجنوبيين داخل أعلى سلطة تنفيذية في البلاد، وإن كان من الممكن تعويض هذا الغياب بشخصيات جنوبية أخرى لا تخضع لتوجيهات المجلس الانتقالي.
وأوضح المناع أن هذه الخطوة سيكون لها تأثير مباشر على مشروع المجلس الانتقالي نفسه، لا سيما في ظل إعلانه التوجه نحو استعادة دولة اليمن الجنوبي السابقة، ولو تحت مسمى جديد مثل “الجنوب العربي”، معتبرًا أن هذا التطور يحمل دلالات خطيرة، خصوصًا إذا اقترن بدعم خارجي، وعلى وجه الخصوص من دولة الإمارات، الأمر الذي قد يفتح الباب أمام مواجهات عسكرية تُدخل اليمن في متاهة جديدة من الصراع.
وأشار إلى أن ملء الفراغ الذي قد يتركه المجلس الانتقالي يمكن أن يتم عبر الاستعانة بعدد مناسب من القيادات الجنوبية التي لا تزال تؤمن بوحدة اليمن، أو على الأقل ترفض اتخاذ أي خطوات أحادية تتعلق بالقضية الجنوبية قبل إنهاء الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة.
وأكد المناع أن العلاقات بين السعودية والمجلس الانتقالي تشهد تعثرًا واضحًا، وأن هذا المسار قد يفتح المجال أمام إعادة تموضع سياسي داخل المعسكر الجنوبي، بما يسمح بإعادة التفاهم مع الرياض حول سبل معالجة الوضع الراهن، خاصة فيما يتعلق بوجود قوات المجلس الانتقالي في حضرموت والمهرة، وكذلك عمليات الحشد الجماهيري العاطفي للمطالبة بفك الارتباط الذي تم في 22 مايو 1990.
وشدد على أن إخراج المجلس الانتقالي من مجلس القيادة الرئاسي يُعد، في جوهره، فشلًا لمشروع مواجهة الحوثيين، أو إضعافًا خطيرًا له، فضلًا عن كونه توجهًا نحو إقامة دولة جديدة دون توافق واضح مع الشريك اليمني الآخر، أو مع الحليف السعودي، محذرًا من أن أي خطوة انفصالية دون هذا التوافق ستؤدي إلى عدم استقرار الجنوب واليمن عمومًا.
واختتم المناع تصريحه بالتأكيد على أن السعودية، بحكم ثقلها الإقليمي والدولي، تملك من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية ما يجعل أي إعلان أحادي للانفصال في الجنوب يواجه تحديات جسيمة.
