في توافق غير معتاد، تمكّن أعضاء مجلس النواب العراقي في 29 ديسمبر/كانون الأول 2025، من انتخاب النائب هيبت الحلبوسي رئيسًا للمجلس بأغلبية مريحة، بعد انسحاب منافسه الرئيسي في اللحظات الأخيرة.
هذا التفاهم السني الشيعي في أولى جلسات المجلس للدورة التشريعية السادسة، اعتُبر خطوة مفصلية لتدشين مرحلة سياسية جديدة وتفادي الوقوع في فراغ دستوري مطوّل، لكنه يضع البرلمان أيضًا أمام اختبارات صعبة لتشكيل الحكومة المقبلة ومواجهة استحقاقات تشريعية مؤجلة.
توافق اللحظة الأخيرة
جاء انتخاب هيبت (ابن عم رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي) بعد تفاهمات عاجلة داخل المكوّن السني، أفضت إلى ترشيحه لتولي المنصب، سعيًا لتوحيد الصف وتجنب انقسام الأصوات.
في البداية، تمسّك زعيم تحالف العزم النائب مثنى السامرائي بترشيح نفسه معترضًا على هذا التوافق المسبق، لكنه ما لبث أن أعلن انسحابه خلال الجلسة الأولى احترامًا لرغبة الأغلبية وتفاديًا للانقسام، بل وعبّر عن دعمه لمنافِسه قائلًا إنه يقدم المصلحة العامة على الطموح الشخصي.
وقد مهّد انسحاب السامرائي الطريق لفوز الحلبوسي بسهولة بالغة، حيث حصد 208 أصوات متجاوزًا بذلك الأغلبية المطلقة اللازمة (166 صوتًا من أصل 329) لتحقيق الانتصار.
هذا الدعم الواسع عكس حالة توافق نادرة جمعت مختلف الكتل بما فيها القوى الشيعية والكردية خلف مرشح المكوّن السني، في مشهد غير مألوف يهدف إلى تسهيل انطلاقة الدورة البرلمانية الجديدة دون عقبات.
والحلبوسي البالغ 45 عامًا، نائب لثلاث دورات متتالية وكان يرأس لجنة النفط والطاقة سابقًا، وينتمي لحزب تقدم بزعامة ابن عمه محمد، ما يعني استمرار نفوذ هذه العائلة في رئاسة البرلمان للدورة الثالثة على التوالي.

تحدّي تشكيل الحكومة
بعد هذا الإنجاز، تنتظر النواب مهمة دستورية حاسمة تتمثل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال 30 يومًا من الجلسة الأولى، على أن يتولى الرئيس تكليف مرشح الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة المقبلة.
ووفق العرف السياسي ونظام المحاصصة المعتمد منذ أول انتخابات متعددة عام 2005 بعد سنتين من الاحتلال الأمريكي للعراق، تتولى شخصية شيعية رئاسة الحكومة، المنصب التنفيذي الأقوى، بينما يذهب البرلمان إلى السنة، في حين يشغل الأكراد رئاسة الجمهورية، وهو منصب فخري.
وتشير التقديرات إلى أن الكتلة الأكبر ستكون للتحالف الذي يقوده رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، إذ فازت قائمة الأخير (ائتلاف الإعمار والتنمية) بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات البرلمان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ويثار جدل حول ما إذا كان السوداني سيحظى بولاية جديدة أم أن قوى الإطار التنسيقي (التجمع السياسي الشيعي الأبرز) ستقدم مرشحًا بديلًا لرئاسة الوزراء.
ولا سيما بعد محاولة السوداني خوض الانتخابات بقائمة مستقلة حققت نتائج كبيرة (حوالي 46 مقعدًا) قبل أن يُلزم بقرار قضائي بالعودة إلى عباءة الإطار التنسيقي.
هذه الاستحقاقات تجري تحت ضغط الحاجة لتجنب أي فراغ تنفيذي طويل، فقد تطلّب تشكيل حكومة السوداني نحو عام كامل من المساومات بعد انتخابات 2021، نتيجة الخلافات بين الكتل.
واليوم تجد القوى السياسية نفسها مطالَبة بتفادي تكرار سيناريو الشلل الذي أصاب الدولة خلال الفترة الانتقالية، لاسيما وأن البلاد تُدار حاليًا بحكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات منذ انتهاء ولاية البرلمان السابق.
كما أن المشاورات القادمة لتكوين ائتلاف حكومي ستكون محفوفة بتوازنات معقّدة؛ فمنصب رئيس الجمهورية قد يشهد تنافسًا بين الحزبين الكرديين الرئيسيين مما قد يؤخر حسمه، كما أن توزيع الحقائب الوزارية السيادية سيخضع لمساومات شاقّة بين الكتل وفق مبدأ المحاصصة.
ونظرًا لعدم امتلاك أي طرف أغلبية مطلقة منفردًا بعد انتخابات برلمانية لم تُفرز فائزًا حاسمًا، يُرجّح المراقبون جولات تفاوض مطوّلة وتشكيل ائتلافات عريضة تضم معظم القوى لتأمين الأغلبية البرلمانية المطلوبة لمنح الثقة للحكومة الجديدة.
ملفات تشريعية ملحّة
بالتوازي مع جهود تشكيل الحكومة، أمام البرلمان الجديد تركة ثقيلة من التشريعات المؤجلة تراكمت في ظل الجمود السياسي السابق، وأبرزها:
- إقرار قانون الموازنة الاتحادية 2026، لضمان استمرار تمويل رواتب الموظفين والمشاريع الخدمية دون انقطاع.
- مشروع قانون النفط والغاز لتنظيم إدارة الثروة النفطية بين بغداد وإقليم كردستان، إذ كانت الحكومة السابقة قد شكّلت لجنة مشتركة لوضع الصيغة النهائية له، ما يشير إلى إمكانية طرحه للتصويت قريبًا.
- البدء بمراجعة قانون الانتخابات تحت قبة البرلمان الجديد، بعدما أقرّت تعديلات مثيرة للجدل عليه في مارس/آذار 2023، اعتُبرت منحازة للأحزاب الكبرى على حساب المستقلين، بعد إعادة نظام الدوائر الواسعة بدل المتعددة التي اعتُمدت عقب احتجاجات 2019.
- مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي الذي يهدف إلى دمج هذه المليشيات الشيعية ضمن أجهزة الأمن الرسمية، والذي يحظى بتأييد واسع من القوى الشيعية الرئيسية، فيما تتخوف أطراف أخرى محلية ودولية من أن إقراره بصيغته المقترحة سيؤدي إلى تعظيم نفوذ إيران.
هل يصمد التوافق أم تعود الانقسامات؟
على الرغم من الأجواء الإيجابية التي سادت الجلسة الافتتاحية، هناك تساؤلات جدية عما إذا كان هذا التوافق الأولي سيصمد عند الشروع في تقاسم السلطة الفعلية أم ستعود الانقسامات والصراعات الحزبية والطائفية إلى الواجهة.
التجارب السابقة في الدورات الماضية أظهرت أن مرحلة توزيع المناصب الوزارية والمنافع عادةً ما تفجر خلافات كامنة بين الشركاء.
فكثيرًا ما اختلفت القوى الكردية فيما بينها على منصب رئيس الجمهورية واحتدم التنافس داخل البيت الشيعي على منصب رئيس الوزراء كما حدث عقب انتخابات 2021 حين انسحب تيار مقتدى الصدر بالكامل من البرلمان احتجاجًا على عدم قدرته على تشكيل حكومة أغلبية.
وحتى التحالف السني الحالي الذي بدا موحدًا خلف الحلبوسي، قد يواجه اختبار الحفاظ على وحدته عند اقتسام الحقائب الوزارية والمواقع التنفيذية بين مكوناته المختلفة.
وخاصة أن المشهد البرلماني نفسه أكثر تعقيدًا هذه المرة، إذ أسفرت الانتخابات الأخيرة عن صعود ملحوظ لكتل مرتبطة بفصائل مسلحة موالية لإيران داخل مجلس النواب، يشغل ممثلوها ما بين 80 إلى 90 مقعدًا من أصل 329، مقارنة بحوالي 17 مقعدًا فقط في برلمان 2021.
هذا الثقل الجديد للجناح الموالي لطهران قد يزيد الاستقطاب داخل البرلمان ويضع السياسة الخارجية للعراق تحت اختبار التوفيق بين النفوذ الإيراني من جهة والضغوط الأمريكية من جهة أخرى، خاصة مع تحذير واشنطن من تنامي نفوذ المليشيات داخل مؤسسات الدولة.
ولذلك فإن أي تصدع في التفاهمات الحالية بين الكتل قد يدفع هذه الأطراف المتشددة إلى الواجهة ويعقّد مهمة الحكومة المقبلة في تحقيق توازن بعلاقات العراق الإقليمية والدولية.
وعليه فإن الأسابيع المقبلة ستبيّن ما إذا كان التناغم الذي ظهر مطلع هذه المرحلة تكتيكيًا مؤقتًا أم بداية لتحول أعمق نحو تغليب المصلحة الوطنية على الحسابات الضيقة.