سحر الطبيعة الريفية، والطينة القروية، وجمال هوائها، ونقاء عبيرها، ونسيم سمائها، وروعة خضرتها الندية، وملامح الثورة المنظورة فى طبيعة الحياة الريفية، وتفاصيلها الجزئية من استنشاق هواء جميل وجديد يوميًا بدون روائح المدنية الكريهة ولا أبخرة عوادم السيارات ولا غبار المصانع، ومع تنوع أشكال الجمال والطبيعة والتمتع بها وبألوانها وأشكالها المختلفة وتجدد الحياة بتفاصيلها حولك من ميلاد لمحاصيل زراعية جديدة وحصاد أخرى دون رتابة أو ملل حياة، وروعة أشجارها ونخيلها وروائح أزهارها وحدائقها وبساطة أهلها.
كل ذلك من مميزات الطبيعة الريفية وحياة القرى والنجوع والكثير والكثير أيضًا.
إلا أنه ستظل القرى والنجوع مهد العبودية ومحضن الذل وصوبة الخنوع والهوان، وليس هذا تجنيًا مني على موطن أجدادي وجذوري الراسخة في الطبيعة الطينية والحياة الريفية، لكنه ظاهر وجلي في الكاتلوج النهائي للقرى والنجوع في محاولات التغيير التي أصابت مراكز ثقل الدول ولم تلامس أطرافها وقراها، كما أنه رصد لتمظهرات الحياة وصورها في الجانب الطيني لسكان القرى والنجوع، ومتابعة دقيقة لمظاهر ذلك الحقن المجهري والزرع الجيني والتدخل الصناعي الذي أصاب العقول والقلوب والنفوس وملامحه والتي تكمن في الآتى:
(1) الرضا بالقليل والكفاية بالمتاح والتأقلم معه، والرضا به ضعفًا واستكانة واستسلامًا لا تعبدًا مع سعي أو بذل، والتصبر بالممكن في غير همة ولا بأس.
(2) السكون والخضوع للكبير – وإن كان جبارًا أو متكبرًا أو على خطأ – في صورة كبير الحسب والنسب والسطوة أو كبير السن أو كبير العائلة أو عمدة القرية وشيخ الخفر أو الأعيان أصحاب القرى والنجوع والأطيان.
(3) الثبات على تقاليد القرية وعاداتها البالية وأخطائها الجسيمة في حق الأفراد والمجتمعات وعدم الثورة عليها بل وتوريثها توريثًا إجباريًا، وإما لفظ الفرد من سبيكة العائلة أو القرية وطرده إن لم يتقيد بتقاليدها وطبائعها.
(4) قولبة الشكل وحدودية التمظهر والإسطمبة في الحياة وتفاصيلها والحفاظ على رتم واحد كالاستيقاظ مبكرًا والذهاب للحقول ثم العودة مع غياب الشمس والنوم مبكرًا وهكذا فى شكل دولبة الحياة وتدويرها.
(5) العادة المنتنة والمتصلبة فى جينات النفس القروية وهي من صور الطينية الحمقاء ألا وهى التعصب للعائلة والقرية والنعرات القبلية الكاذبة في صور النقاء العرقي والعنصري المقيت الذي يهتك أستار النسيج المجتمعي ويعزله في شكل كنتوني بغيض.
(6) التهميش المتعمد من الأنظمة الحاكمة، والمركزية المتوغلة إعلاميًا وسياسيًا واقتصاديًا في المدن الرئيسية، والتي أصابت المجتمعات القروية بالضعف والغياب عن المشهد السياسي واللحاق بالركب الثوري متأخرًا ومتأخرًا جدًا.
(7) الإيمان الشكلي والمخدر في النفوس والذي لا يلامس القلوب والعقول وإنما مظاهره تكمن في عادات شكلية في صور تعبدية:
– أركان الإسلام كالصلاة والصيام والحج شكليات وطقوس تعبدية دون أثر لها على النفوس والقلوب والأعمال، فتجده يصلي ويصوم ويسرق جاره ويقلب أرضه ليأخذ من حدود جاره وأرضه ويترك ماء الري ليغرق أرض جاره ويتلف زرعه وثماره ويفرح لمقتله ويسب عرضه ويتكلم في حقه وإذا استضعفه تجبر وإذا استكثره تكسر.
– فجوة كبيرة وبون شاسع بين الأخلاق والتدين، فالمتدين إما سيء الأخلاق والمعاملات وإما به قصور شديد في الأخلاق الأساسية كالكرم والشجاعة والمروءة وصاحب الأخلاق الأساسية ليس متدينًا فلا يحافظ على صلاة أو صيام (وهذا ليس تعميم ولا إجحاف لكنه لقطة مصورة لكثير من الصور والأشكال).
– أكل ميراث المرأة، فالنساء ليس لها أن ترث في دين القرية ودين الأخوة الرجال فلا أرضًا ترثها ولا قيمتها نقودًا تحق لها، مع انتهاك حقوقها وسفك عزيمتها وإراداتها، وقتل روح الإيجابية والمشاركة الاجتماعية فيها.
– انتشار زنا المحارم كالنار في الهشيم في القرى والنجوع؛ لكثافة شركاء بيت العائلة والاختلاط المحرم وضعف الوازع الأخلاقي والرسالي مع الفراغ القروي الكبير وزيادة تكاليف الحياة وأعبائها.
(8) توغل صورة التدين النمطي المتمثلة في تيارات الإسلام السياسي الإصلاحي الساكن في مركزه والمتحرك في بعض أطرافه، وجماعات السلفية الداجنة وتفصيل أشكال وصور إسلامية راكده تؤمن بالدولة السلطوية وتعمل من خلالها مع بعض الأنياب الديكورية كملح الطعام.
(9) انتشار الجهل والفقر والمرض (ثلاثية الأنظمة) للسيطرة على القرى والنجوع بأشكالها وصورها بل على دول بأكملها، فالجهل هنا لا يعني الأمية فقط لكنه أيضًا الجهل الثقافي والمجتمعي والرسالي بدور الفرد والمجتمع المدني كنوع من أنواع التغيير الناعم في الدول.
ومنذ أن قال لي أستاذى في الجامعة انظر إلى خريطة العالم ودقق في جنوب أي مكان فيها ستجده فقيرًا مهمشًا مقارنة بشمالها، فشمال أمريكا غير جنوبها، وشمال أفريقيا غير جنوبها، وشمال مصر غير جنوبها، وشمال محافظتك غير جنوبها، وشمال مدينتك غير جنوبها، وهكذا، وأنا أتمعن في نقاط الفوران الثوري الملهم أجده يتجاوز التربة الريفية إلى مدنية الحضر ونواصيه.
وحاول بعض الباحثين كما يقول الأستاذ “إسماعيل الإسكندراني” الباحث في الشأن السيناوي في مقاله (الشمال الثائر والجنوب الساكت) أن يفسروا وجود الفعل الثوري وغيابه في ضوء ثنائية (الحضر – الريف)، حيث اعتبروا الثورة مدينية بالمقام الأول، وأن الريف هو معقل الثورة المضادة وشبكات المصالح الداعمة لفلول النظام مخلوع الرأس.
وحتى الآن لم يثبت الصعيد خاصة والقرى الريفية عامة أي انحياز ثوري خالص إلا من بعض هبات في مدن الصعيد والريف ومراكزها كادت أن تخفت تدريجيًا مع القبضة الأمنية القوية وسطوة العائلية والقبلية وارتباط مصالحها بالنظام القديم.
ورغم تاريخ الصعيد النابض بالثورة والتمرد ومقاومة الظلم والطغيان كما يقول الأستاذ “خالد إسماعيل” في مقال له بعنوان (الصعيد والثورة): و” الثورة ” – بمعنى التغيير الجذرى للعلاقات السائدة – عرفها الصعيد منذ آلاف السنوات، وطوال عصور الحكم الروماني والإسلامي، كانت تتفجر الثورات ويتم قمعها، ولكن هناك “انتفاضات” وقعت في عصر محمد علي وأولاده، كانت من روافد الثورة العرابية، من اشهرها: انتفاضة “بدو” الفيوم والمنيا، وانتفاضة “البداري” بقيادة الشيخ أحمد الطيب، وكلتاهما وقعت في عهد الخديو سعيد والخديو إسماعيل، ويضاف إليها انتفاضات “الفلاحين” الرافضين أسلوب جمع الضرائب الذي قرره – إسماعيل – لحل أزمة الديون، ثم جاءت الثورة العرابية وشارك فيها أهل الصعيد بالمال والقتال، والتاريخ يحفظ أسماء “العائلات” التي اضطهدت عقب دخول الإنجليز مصر وفشل الثورة العرابية …، وكان جيش عرابى قد ضم حوالي 15 ألف مقاتل من فرسان “البدو” المنتمين لمحافظات الصعيد والشرقية.
ولكنه الصعيد العصي الذي مازال في غربته منذ ذلك الحين ولم يعد منها إلى الآن فماذا بعد؟ ومتى سينتفض؟ سنترك الأيام والسنون لتجب عن آمالنا وآلامنا.