بعض التحليل الطبقي قد يكون مفيدًا في هذه المرحلة لأن الوضع أشكل على كثيرين. جنحت وآخرون إلى البحث عن بصيص أمل في تعيين السيد الفخفاخ على رأس الحكومة التونسية القادمة لا إيمانًا بتغيير قادم يقوده الفخفاخ بقدر البحث عن فرصة تقدم بسرعة مخفضة على طريق عدالة اجتماعية راسخة ولو بعد حين، لكننا نرى من منظور مادي تاريخي مبسط ودون مفاهيم ماركسية معقدة أن حكومة الفخفاخ هي حكومة الطبقة الوسطى التونسية التي وقفت دومًا ضد الثورة والتغيير وحاربت كل احتمال تقدم فقراء تونس للحكم سواء قادتهم النهضة أو قادهم غيرها ولا أعني اليسار التونسي بالطبع فهذا اليسار عماد الطبقة الوسطى الخائنة طبقيًا أو المخلصة لطموحاتها الفردانية.
التشكيل القادم ممثل طبقة وسطى فردانية
لن نشقى بالبحث في مكونات حكومة الفخفاخ، ولا يحتاج الأمر إلى استباق ذكي/عبقري، فأنصار الفخفاخ الفعليون ظاهرون في المشهد بعد، حزب التيار وتحيا تونس وحركة الشعب وشق من النهضة (حادث عليها وليس من جيل المعاناة المفقّر) يدفع إلى المشاركة بأي ثمن وبأقل موقع متاح، وفئات أخرى كثيرة تقودهم النقابة الناشطة فقط في قطاع الموظفين العموميين (عماد الطبقة الوسطى التونسية) رأت في الفخفاخ ممثلها الاجتماعي (مهديها) المنتظر، ولذلك كان وطبقًا لهواها سيختار وسيحكم مطمئنًا إلى سند سياسي وبرلماني واسع يعرف أن السلطة غنيمة لا برنامج اجتماعي موجه طبقًا لقيم الثورة ومطالبها، أي مطالب الطبقات الأفقر والأضعف سياسيًا.
إن حزب التكتل (المندثر بحكم الصندوق) مثل حزب نجيب الشابي (المتلاشي) مثل حزب حركة المسار (الشيوعي سابقًا الذي انمحى من الوجود) مثل حزب التيار الديمقراطي الناشئ مثل حزب حركة الشعب (حزب رجال التعليم وبعض المحامين خريجي الحقوق والآداب) مكونة أساسًا من فئات وسطى، أغلب كوادر هذه الأحزاب من المهن الحرة والموظفين الكبار (الرواتب العالية) ونادرًا ما نجد بها منخرطين فقراء اللهم لتوزيع المنشورات والتصفيق بأجر في الاجتماعات الشعبية الضعيفة الحضور.
ويعتبر الفخفاخ نموذجًا مثاليًا لمكونات هذه الطبقة، فهو الحائز على دبلوم أجنبي من تعليم فرنسي مفيد (عصري حداثي بلا ديني) وهو الذي اشتغل في إدارة شركات ناجحة دون أن يملكها فيصير برجوازيًا وهو الذي يدافع عن مشاريع الطبقة الوسطى المثقفة ومطالبها الحيوية المثقفة مثل حرية ممارسة الجنس خارج الزواج وحرية استهلاك المخدرات والمساواة في الميراث وقضايا أخرى مشابهة، مع بعض اللغو الجميل عن الدولة الاجتماعية التي تعيش من ضرائب لا يدفعها الأغنياء، لكن يدفعها ذوو الرواتب الضعيفة فهم من يقعون دومًا في فخ الاقتطاع من المصدر.
نحن نعيش عبر التجربة التونسية المصغرة درسًا في علم الاجتماع لم نسع إليه بل جاء وحده
إن الفخفاخ وكيل جميل غير ريفي كالح الوجه بل بعينين ملونتين، لمطالب الطبقة الوسطى الكامنة في مفاصل الدولة التي ترى في كل تغيير جذري خطر عليها، وقد دفعها خوفها من التغيير الجذري إلى تخيل حزب النهضة حزبًا شعبيًا يمكنه أن يقلب الطاولة الاجتماعية فحاربته ولكن دون كشف نواياها الفعلية (الاجتماعية)، فركبت له ملفات الحداثة ضد الرجعية وهي الملفات التي تحسن تأثيثها بخطاب ثقافي جميل ورائق، فوجد نفسه يدافع عن بقائه لا عن حقه في الحكم. فتخلى عن قاعدته الفقيرة المحتاجة فعلًا إلى الدولة الاجتماعية ليبقى حيًا ويحلم بالعدالة ويناور بعضه ليحوز مكانًا في طبقة وسطى تشتغل شرطي حماية ضد ثورة الفقراء.
الفخفاخ مثل من سبقه منذ أول الثورة، عنوان لسرقة ثورة الفقراء وتحويلها إلى رواتب مجزية وامتيازات للطبقة الوسطى وقد فاوض المقرضين الدوليين زمن الترويكا وسيواصل التفويت باسم النجاعة دون أن يجرؤ على مواجهة النقابة الشرسة حارسة مصالح الطبقة الوسطى في القطاع العام، فالنقابة (الحارس الكاذب للقطاع العام) هي التي فرضته رئيسًا للحكومة ضد منجي مرزوق مرشح النهضة الفقيرة (لا النهضة الانتهازية) وهذا موضوع للكتابة لاحقًا، فانقسام حزب النهضة الذي يخرج بخاره الآن للعلن هو انقسام اجتماعي لا اختلاف بشأن منهجية ثورية.
تجربة تونس تدحض فكرة الطبقة الوسطى مؤسسة الديمقراطية
نحن نعيش عبر التجربة التونسية المصغرة درسًا في علم الاجتماع لم نسع إليه بل جاء وحده، نقض أطروحة الثمانينيات المبررة لبرامج الإصلاح الهيكلي (الريغانية والتاتشرية) القائلة بأهمية دور الطبقات الوسطى في بناء الديمقراطية، إذ قيل حينها إن تمكين الطبقة الوسطى من مواقع القرار يدفع إلى تدعيم مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد مكن الشعب التونسي (دون تنظير ليبرالي) للطبقة الوسطى (من مواقع الحكم) بدفع 400 شهيد وهو يشاهدها رغم الثمن تخونه مدافعة عن مصالحها القطاعية ومتحالفة موضوعيًا مع الطبقة الأعلى، وحكومة الفخفاخ نموذجًا تتفق بشأنه مكونات هذه الطبقة بعد أن أفشلت كل احتمالات تمكين الفقراء من السلطة عبر الصندوق الانتخابي.
مطلوب أن نوسع القراءة إلى أبعد من التصور التقليدي أو الكلاسيكي لصراع البروليتاريا ضد البرجوازية كما في القرن التاسع عشر
لقد كان ظاهر النقاش بخصوص حكومة الجملي ثقافيًا (تقدمية ضد رجعية) ولكن جوهره كان وسيظل طبقة وسطى نخبوية فردانية ضد فقراء، وأول الخونة كانوا الذين اقترحوا الجملي وفاوضوا بأقل القليل من الجدية عن سلامة الصندوق الانتخابي واحترام نتائجه. فما الذي على التونسيين فعله؟
تغيير موقع النظر خارج مقولات الديمقراطية الشكلية
إعادة قراءة المشهد السياسي الداخلي وتحليله على ضوء صراع الطبقات الاجتماعية وليس الاكتفاء بتحليل سياسي ثقافوي تغطية لمشهد صراع اجتماعي سواء قبلنا التحليل المادي التاريخي أم رفضناه بدعوى أن ماركس هو فقط الدين أفيون الشعوب.
مطلوب أن نوسع القراءة إلى أبعد من التصور التقليدي أو الكلاسيكي لصراع البروليتاريا ضد البرجوازية كما في القرن التاسع عشر أي تجاوز ذلك التناقض الشكلي/ السطحي إلى تفصيل مهم تقدمه ثورات العالم الثالث غير النمطية. لقد بنيت الطبقة الوسطى (بحلول ليبرالية مستوردة) لتحمي البرجوازية التابعة (برجوازية المناولة الدولية) من الانهيار أمام ضغط ثورات الشعوب المفقرة (أو البروليتاريا العالمية الرثة في المستعمرات القديمة)، وهي تواصل دورها وما مناورات حكومات تونس إلا فصل جديد.
طبقة هشة وكل تغيير حقيقي للتركيبة الاجتماعية القائمة يهددها بمزيد من الهشاشة لذلك ففائدتها من منع التغيير بواسطة الاضطراب الشعبي أو تخفيف حدته على الأقل هو الحفاظ على موقعها المكتسب
إذا قرأنا الربيع العربي كمرحلة من ثورة البروليتاريا الرثة (العالمية ضد مسارات الهيمنة الكونية) بمنظور ماركسي مبسط لا يهتم بتنبي الكلية الثقافية لماركسية القرن 19، فإننا نرى مكونات الطبقة الوسطى (التونسية مثالًا) تقوم الآن بدور ممتص الصدمات أو مخففها لكي لا يصل غضب الفقراء إلى طبقة عليا يضيرها كل تغيير. ما فائدة الطبقة الوسطى من هذا الدور؟
إنها طبقة هشة وكل تغيير حقيقي للتركيبة الاجتماعية القائمة يهددها بمزيد من الهشاشة لذلك ففائدتها من منع التغيير بواسطة الاضطراب الشعبي أو تخفيف حدته على الأقل هو الحفاظ على موقعها المكتسب ودورها الوسيط أو الحاجز المانع للصدامات أي ضمان أن يظل الأغنياء أغنياءً (لا تهم الوسيلة كثيرًا ولذلك نستشعر عدم جدية هؤلاء في محاربة الفساد، فالفساد معروف المصدر والمواقع والقضاء عليه فعلًا ينهي مهمة التهديد بمحاربته التي تتقنها طبقة المحاميين والنقابيين).
الفخفاخ وحكومته مثل من سبقهم سيدخل مرحلة أخرى من الوساطة لمنع تغيير جذري حقيقي ووسيلته الأفضل للبقاء لن تكون استيعاب الطبقات الدنيا في الوسطى فهذا مستحيل في اقتصاد غير ريعي لا يملك توزيع أي مغانم طاقية، لكنه سيفاوض مقرضيه الكبار بواسطة التهديد المسلط عليه في الداخل. كان يجلس مع الاتحاد الأوروبي قائلًا احموني من فقراء بلدي أو تحملوا عبورهم إليكم. وهو نفس موقع بن علي والقذافي في آخر أيامهما، فهل عدنا إلى الوراء؟ لم نتقدم لأن الطبقات الوسطى تمنع التغيير الجذري.