تصعد العلاقات وتهبط، تجد الكثير من المد والجذر، على خلفية التحالفات مع دول تعادي سياساتها، لكن تبقى السعودية شديدة الحرص دائمًا على علاقاتها بباكستان وتحصين نفوذها في البلد الإسلامي الكبير، حتى تبقى الرياض دائمًا صاحبة اليد الطولى على إسلام أباد، ليس في ملفات الاستثمار والاقتصاد فقط، بل وحتى على أخطر مؤسسات البلاد وأكثرها نفوذًا على المواطنين “العسكرية والدينية”.
لماذا باكستان؟
باكستان هي ثاني أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة، وتقع في جنوب آسيا، تأسست سنة 1947 وعدد سكانها يتجاوز 191 مليون نسمة، وتحتل المرتبة الـ36 في العالم من حيث المساحة، وتحدها الهند من الشرق وأفغانستان من الغرب وإيران من الجنوب الغربي، والصين في أقصى الشمال الشرقي ولها حدود بحرية مع عمان، وهو موقع فريد في العالم.
على المستوى العسكري، تحظى باكستان بسابع أكبر قوات مسلحة في العالم، كما أنها دولة نووية وتمتلك أسلحة معلنة في هذا المجال، وهي الوحيدة في العالم الإسلامي التي تمتلك الردع النووي، ورغم كل هذه الإمكانات، تتقدم على المستوى الاقتصادي بشكل متواضع، وخاصة في السنوات الأخيرة، كنتيجة لعقود من النزاعات السياسية الداخلية وانخفاض مستويات الاستثمار الأجنبي بسبب تدخل الدولة المفرط في الاقتصاد، مما يشكل حاجزًا أمام السوق الحرة وبالتبعية الأعمال التجارية الخاصة، وفي النهاية تقوض روح المبادرة في الشعب، فيُعزل القطاع المالي عن العالم الخارجي ويتباطأ الابتكار، بما يشكل خطرًا على مستقبله في الدولة.
عجزٍ باكستان وتواضع اقتصادها رغم ثرواتها الضخمة، فتح الباب على مصراعيه أمام البلدان الخليجية والقوى المتصارعة في المنطقة للنفاذ إليها من خلاله واستقطاب البلد الإسلامي الكبير إلى جانب هذا أو ذاك، لتمرير أجندات سياسية وأمنية، وكان ذلك واضحًا بشدة خلال الأشهر الماضية بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس السابق في الحرس الثوري الإيراني، بطائرة أمريكية مسيرة، والتوتر الذي تصاعد بين هذه القوى في المنطقة.
المراقب للسياسة الخارجية لباكستان سيجد أنها تدرك جيدًا الإشكاليات المحيطة بها وخطورة موقعها في منطقة متقلبة، ولهذا حاولت خلال العقود الماضية عمل موازنة بين علاقاتها القوية بكل من السعودية وإيران، خاصة أن كل منهما تتشارك معها في حدود يبلغ طولها نحو ألف كيلومتر، وعلى هذا المنهج تكيف باكستان علاقتها بكل التوترات في المنطقة، للبقاء في مساحة حياد واضحة من الجميع.
أبعدت باكستان نفسها تمامًا عن التمحور في أي جانب من النزاعات الخليجية والتباينات في مواقف القوى الإقليمية من اليمن والعراق وليبيا، وكانت دائمًا مع الدعوة إلى حلول سياسية للأزمة السورية رغم ما كانت ستجنيه من حوافز إذا انحازات لأحد الأطراف، ولكن تبقى المصلحة الإستراتيجية لإسلام أباد دائمًا في جانب إطالة هذا الموقف التكتيكي مما يحدث في المنطقة.
لكن السعودية لا ترضى بمثل هذه المواقف لحلفائها، فهي ترغب من شركائها الانحياز تمامًا لعلامتها التجارية للسلام الإقليمي، ولهذا فهي تنظر لباكستان على أنها جزء من شبكتها الأمنية بما في ذلك أسلحتها النووية، وتضغط عليها بكل قوة، وقد تخيفها بتوسيع علاقتها بالهند، لدرجة أنها أبدت ترددًا في عقد اجتماع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن قضية كشمير المتنازع عليها مع الهند خلال الأسابيع الماضية، بناءً على طلب باكستان، وكاد الموقف يتسبب في توتر كبير بين البلدين، وذكرت تقارير إعلامية، الانتقادات شديدة اللهجة التي وجهها رئيس وزراء باكستان عمران خان للرياض، خلال ندوة مغلقة في ماليزيا، بعدما تخلت عن تعهداتها بمناقشة قضية كشمير في الاجتماع الوزاري لمنظمة التعاون الإسلامي.
النفوذ السعودي في باكستان.. لماذا؟
منذ سبعينيات القرن الماضي، والمملكة العربية السعودية تحشد نفوذًا هائلًا لها داخل باكستان، ساعدها في ذلك حدثان تاريخيان: الأول عام 1979 عندما اشتعلت الثورة الإسلامية في إيران، والثاني جاء في وقت متزامن مع الأول، وهو الغزو السوفيتي لأفغانستان، الذي عظم بشدة من النفوذ السعودي في باكستان، فمن ناحية عززت الثورة الإيرانية الحوافز السعودية، للسيطرة على السنة في إسلام أباد، بينما أعطت الحرب السوفيتية الأفغانية السعوديين آلية للقيام بذلك، من خلال تمويل المدارس والمؤسسات الدينية.
كانت الأموال السعودية تتدفق إلى المدارس والمعاهد الدينية الباكستانية، وخاصة التي كانت تلقن العلم الشرعي للمجاهدين الأفغان في الثمانينيات، وتلخص الذكاء السعودي في منح التمويل عبر كيانات ومؤسسات وأشخاص، بحيث لا يمكن تتبع رأس المال ولا محاصرته من الدولة أو البلدان العظمى التي تراقب عن كثب ما يحدث في المنطقة.
نجحت المملكة في تغيير طابع التدين في باكستان واستغلته في انتشارها الأيديولوجي إلى ما وراء العالم العربي، ولهذا استثمرت في بناء أضخم المساجد، لنشر المنهج السلفي الوهابي، وهذا أكبر نجاح للسعودية، فباكستان تأسست لتكون وطنًا للمسلمين في جنوب آسيا، على عكس الدول ذات الأغلبية المسلمة مثل بنغلاديش وجمهوريات آسيا الوسطى، والهوية الإسلامية جزء من هويتها الوطنية ورسالتها، وتوطين السلفية هناك يعني قيادة هوى ومشاعر المواطنين والمسؤولين تجاه رياح الاتجاهات والمصالح السعودية.
لم تكتف المملكة بهذا، بل نجحت في جعل نفسها واحدة من الدول القليلة في العالم التي تعتمد عليها باكستان بطريقة عمياء في المجال الاقتصادي وجلب العملة الصعبة لها، عبر استقطاب ما يقرب من مليوني باكستاني يعملون لديها، بجانب المنح والعطايا الاستثمارية من وقت لآخر، وأكثر ما يدلل على ذلك، الزيارة الأخيرة لولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، التي جددت العلاقات بين البلدين ووثقت الكثير من نفوذ المملكة في إسلام أباد.
وقعت باكستان والسعودية خلال زيادة ابن سلمان، سبعة عقود استثمارية تبلغ قيمتها أكثر من 20 مليار دولار، لإنعاش الاقتصاد الباكستاني، من خلال الاستثمار في العديد من القطاعات الرئيسية بداية من الطاقة والاحتياطيات المعدنية والبتروكيماويات، نهاية بمشاريع التنمية والاهتمام بالشباب.
خصوصية العلاقات مع الجيش الباكستاني
على مر السنين، والعلاقات الباكستانية السعودية العسكرية تتمتع بنوع من الخصوصية الشديدة، وظهرت بشدة في مساعدة باكستان للسعودية في تحرير الجامع الكبير بمكة عام 1979، كما أنها ساعدت السعودية في تمركز قواتها العسكرية للدفاع عن أرضها خلال الحرب العراقية الإيرانية، وفي المقابل تتمتع السعودية بنفوذ كبير على القيادات العسكرية الباكستانية ولها علاقات قوية للغاية بهم.
تدرك السعودية جيدًا أن إسلام أباد تميل للحكم العسكري المطعم بنكهة مدنية، وبالتالي في منطقة ملغومة كالتي نعيش فيها، لا يمكن الاستناد على النفوذ والتأثير الاقتصادي وحده، ولهذا هدفت السعودية إلى الوصول للمؤسسة العسكرية ووطدت علاقاتها هناك وجلبت الخبراء العسكريين إليها من جميع المجالات، لا سيما أن الجيش الباكستاني كانت له بصمات واضحة تاريخيًا في تأسيس القوات المسلحة السعودية، وحتى الآن ينتشر نحو 1200 خبير باكستاني في جميع القطاعات الأمنية والعسكرية بالمملكة.
المثير أن توغل النفوذ السعودي داخل المؤسسة العسكرية الباكستانية أصبح محل قلق لمجلس الشيوخ الباكستاني الذي استدعى وزير الدفاع خرم دستغير خان قبل عامين لمعرفة سر إرسال فرقة عسكرية من القوات البرية والبحرية إلى المملكة دون علم البرلمان، ولكن دستغير اكتفى بالقول إنها كانت في مهمة تدريبية واستشارية في إطار ما وصفه بالتحالف العسكري الإستراتيجي بين باكستان والسعودية، رغم تمركز هذه القوات في السعودية، بغض النظر عن التصرحات الرسمية التي أكدت أنها لن تشارك في أي مهمات خارج حدودها.
كانت هذه الخطوة من الجيش أول تجاوز لقرار البرلمان بأغلبية أعضائه عام 2015 بعدم إرسال قوات عسكرية باكستانية إلى السعودية، في إطار سياسة النأي بالنفس عن الصراع في اليمن وعدم الاصطفاف إلى أي جانب في هذه الحرب واتخاذ موقف متوازن من جميع الدول المجاورة والصديقة بما فيها السعودية وإيران واليمن.
النفوذ السعودي داخل المؤسسة العسكرية الباكستانية والعلاقات الموثقة معها اتخذ أشكالًا عدة على مدار العقود الماضية، مرورًا بالأحداث التي مرت بها المنطقة خلال السنوات الماضية، وتعيين قائد الجيش الباكستاني السابق الجنرال رحيل شريف رئيسًا للتحالف الإسلامي العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن، نهاية باستغلالها للتحفظ العسكري على الأنشطة الهندية بالأراضي الإيرانية، لتحفيز الجيش الباكستاني على موازنة النفوذ الهندي بالمملكة بما يحمي مصالح البلدين الإستراتيجية.
المخاوف العسكرية الباكستانية من تدهور علاقات بلادها مع الولايات المتحدة، وحجب واشنطن مئات الملايين من الدولارات كمساعدات أمنية لإسلام آباد واتخاذها إجراءات عقابية أخرى، لإجبارها على بذل المزيد من الجهد لكشف ملاذات طالبان في باكستان، كلها تحديات تعلمها السعودية جيدًا، ولهذا يفعل ابن سلمان كل الحيل الممكنة لتجنب اضطرار باكستان الاختيار بين إيران والمملكة العربية السعودية، فالهدف الأسمى دائمًا بقاء البلدين متورطين في أمن بعضهما البعض، وهذا لن يحدث إلا بإبقاء المؤسسة العسكرية في صف المملكة ومصالحها مهما كان الثمن!