ترجمة وتحرير: نون بوست
أحيينا هذه الفترة الذكرى المئوية لجائحة الإنفلونزا الإسبانية لسنة 1918، التي لم تستمر سوى بضعة أشهر ولكنها أودت بحياة ما بين 50 و100 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 675 ألفا في الولايات المتحدة. لا يزال هذا الوباء نقطة مرجعية، حيث سارع العديد من المعلقين إلى مقارنته مع تفشي فيروس كورونا الحالي. ولكن أكثر ما يلفت النظر في هذه المقارنات، ليس التشابه بين الفيروسين، وإنما الشوط الذي اجتازه الطب في القرن الماضي. وبغض النظر عما سيحدث بعد ذلك، فإن ما حدث سنة 1918 لن يتكرر.
في تلك السنة، اجتاحت الإنفلونزا الإسبانية مجتمعات متنوعة على غرار كاليفورنيا وكلكتا، ولم يكن أحد يعرف ما الذي كان يتسبب في مقتل الأشخاص. لذلك، تعددت النظريات. اقترح البعض أن ذلك كان نتيجة لاختلال الكواكب. (ومن هناك جاء اسم الإنفلونزا، من الكلمة الإيطالية التي تعني “التأثير”). واعتقد البعض الآخر أن السبب كان الشوفان الروسي الفاسد أو الانفجارات البركانية.
في المقابل، ركز علماء الأحياء الدقيقة على البكتيريا التي اكتشفوها قبل عقود في رئتي ضحايا الإنفلونزا، وأطلقوا عليها اسم المستدمية النزلية، لكنهم لم يكتشفوا سوى بكتيريا تغزو الرئتين الضعيفتين بالفعل بسبب الإنفلونزا. وحتى سنة 1933، أثبت عالمان بريطانيان أن السبب يكمن في فئة جديدة من الأمراض، التي نطلق عليها اليوم اسم الفيروسات. وفي نهاية المطاف، في سنة 1940، التقط المجهر الإلكتروني الذي اُختُرع حديثًا صورة لفيروس الإنفلونزا، وللمرة الأولى في التاريخ، استطعنا تسمية ورؤية مسبب المرض في الوقت نفسه.
لا يمكن للتناقض مع فيروس كورونا، الذي تسبب في تفشي وباء كوفيد-19، أن يكون أعظم. فمنذ بداية تفشي الفيروس، اشتبه العلماء في أنه فيروس. وفي غضون أسبوعين، حددوا هويته على أنه فيروس كورونا، وتتبّعوا جينومه، واكتشفوا أن الخفافيش هي الحيوانات الأكثر احتمالًا لحمله. تم مشاركة هذه المعلومات، التي نُشرت من قبل فريق صيني، على الفور في مختلف أنحاء المجتمع العلمي، مما سمح لمختبرات الأبحاث حول العالم ببدء عملية طويلة ومعقدة لفهم الفيروس، والتوصّل إلى لقاح وعلاج. ربما لم ننتصر على العدو بعد، لكننا بالتأكيد نعرف الكثير عنه.
ظهرت الإنفلونزا الإسبانية سنة 1918 في فترة ما قبل المضادات الحيوية. وعلى الرغم من أن المضادات الحيوية لا تعالج الفيروسات، إلا أنها تعالج الالتهابات البكتيرية الثانوية التي تنجر عنها في بعض الأحيان. وتتسبب هذه الالتهابات الثانوية في الالتهاب الرئوي الحاد، ومن المحتمل أنها كانت مسؤولة عن معظم الوفيات في سنة 1918.
في ذلك الوقت، لم تكن هناك حلول كثيرة متوفرة. لذلك أوصى الأطباء باستخدام مركب الكينين (غير مفيد)، والشمبانيا الجافة (لم تكن مفيدة، بيد أنها ممتعة أكثر)، والفينول فيثالين (مهدئ يسبب السرطان). وخلال انتشار سابق للإنفلونزا في سنة 1916، حاول الأطباء العسكريون البريطانيون استخدام طريقة الفصد أثناء علاجهم للجنود المحتضرين. ولكن عندما فشلوا، أشاروا إلى أن الطريقة لم تُجرّب بسرعة كافية أثناء انتشار المرض. ويُذكر أن المرضى نجوا على الرغم من محاولات أطبائهم الفاشلة.
إننا نعيش اليوم في عالم مليء بالمضادات الحيوية. وعلى الرغم من وجود مخاوف من أن البكتيريا أصبحت أكثر مقاومة من أي وقت مضى، إلا أن المضادات الحيوية تظل أداة قوية للغاية لعلاج الالتهاب الرئوي البكتيري الثانوي. من ناحية أخرى، شخّصت تقارير الحالة الأولى هذه العدوى في مرضى كوفيد-19، ولدينا كل الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن المضادات الحيوية سوف توفر علاجًا للعديد من المرضى، ولكن للأسف ليس جميعهم.
لدينا أيضًا فئة أخرى من الأدوية المتاحة في الوقت الراهن، التي تتمثّل في مضادات الفيروسات التي تستهدف مباشرة الفيروس المسبب للمرض. هناك ما لا يقل عن أربعة أدوية مضادة للفيروسات، بعضها يُتناول عن طريق الفم والبعض الآخر عن طريق الوريد. قد لا تكون هذه الأدوية فعالة كما نرغب، ولكنها قُدّمت لعدد من المصابين بفيروس كورونا. ومن الصعب تحديد ما إذا كانت الأدوية المضادة للفيروسات أو المضادات الحيوية التي غالبا ما تعطى بالترادف مسؤولة عن الشفاء. ولكن مازال لدينا خيارات لم يسبق لها مثيل قبل قرن من الزمان.
وضع مريض مصاب بالإنفلونزا أو بمرض فيروس كوفيد-19على جهاز الأكسجة الغشائية خارج الجسم يمثل آخر علاج ممكن
لقد ساهم ظهور المستشفيات الحديثة ووحدات العناية المركزة والأخصائيين الطبيين في تغيير الاستجابة للمرض خلال القرن الماضي. في الفترة التي انتشرت فيها جائحة الإنفلونزا سنة 1918، لم توفر المستشفيات سوى نسبة ضئيلة جدًا من العلاجات، واكتظت أجنحة المستشفى المشتركة بالعديد من المرضى، حيث يرقد عشرات أو حتى مئات الأشخاص الذين يسعلون باستمرار، ولم تفصل بينهم سوى ملاءات قطنية رفيعة.
دوّن فيكتور س. هيو، وهو طبيب وعميد كلية الطب بجامعة ميشيغان، رواية شاهد عيان تحدث عن المأساة التي حصلت في مستشفى ميداني، حيث كتب في مذكراته: “رأيت المئات من الجنود الشبان الذين يرتدون الزي الرسمي لبلادهم متوجهين نحو أجنحة المستشفى في شكل مجموعات متكونة من عشرة أفراد أو أكثر، ثم وُضعوا على الأسرة حتى امتلأ كل سرير ومع ذلك تواصلت أعداد الأشخاص القادمين في التزايد. سرعان ما تحولت وجوههم إلى اللون الأزرق، وأفرز السعال المؤلم البلغم الملطخ بالدم. في الصباح كانت الجثث مكدسة مثل حزم الخشب حول المشرحة”.
يمكن للمختصين إذا عملوا في شكل فريق أن ينقذوا نفس المريض الذي كان سيموت منذ قرن دون أن يلاحظه أحد في زاوية جناح مزدحم ومكتظ.
شعر هيو بالعجز إزاء وباء لم يستطع علاجه، حيث قال: “أثبتت الإنفلونزا القاتلة ضعف التدخلات البشرية في وجه الأمراض القادرة على تدمير حياة البشر”. أما اليوم، نحن نتفهم أهمية مكافحة العدوى والحاجة إلى عزل المرضى لمنع انتقال العدوى. كما نمتلك الآن وحدات للعناية المركزة حيث تقع معالجة المرضى. في بعض الحالات، قد يقع إيصال المرضى بجهاز الأكسجة الغشائية خارج الجسم. يمكن لهذه الوحدة ذات الحجم المربع أن تتولى مؤقتًا عمل الرئتين عن طريق تزويد الدم بالأكسجين وإزالة الغازات الضارة.
تجدر الإشارة إلى أن وضع مريض مصاب بالإنفلونزا أو بمرض فيروس كوفيد-19على جهاز الأكسجة الغشائية خارج الجسم يمثل آخر علاج ممكن، وهو المعادل الطبي للمحاولة اليائسة. لكنني شاهدت حالة نجحت فيها هذه الطريقة. بالنسبة للمريض المناسب، الأصغر سنًا عادةً والذي لا يمتلك عادة مشاكل قلبية أو رئوية مزمنة أخرى، يمكن لجهاز الأكسجة الغشائية خارج الجسم أن ينقذ حياته.
تماما مثل ما نمتلك الآن آلات ذات تركيز فردي، فنحن نمتلك أطباء وممرضات من ذوي الخبرة في طب الطوارئ والعناية المركزة والأمراض المعدية. قبل قرن، لم تتوفر تدريبات مماثلة، ومن الممكن أن يعالج الطبيب الذي أشرف على علاجك من الإنفلونزا عظامك المكسورة أو يساعد على ولادة طفلك أو أن يزيل الزائدة الدودية.
نحن لا نقدر التخصصات الطبية في هذه الأيام، ونشتكي أحيانًا من عدم قدرة المتخصصين على علاج أي شيء خارج نطاق تركيزهم الضيق. مع ذلك، يمثل هذا التخصص الشيء الوحيد الذي يمنح المرضى أفضل فرصة للشفاء. من طبيب الطوارئ الذي يشخص حالتك ويعالجك أولاً، إلى الممرضة التي تعتني بك وأنت مستلق في سريرك، ومن أخصائي الأمراض المعدية الذي يساعد في ضبط الأدوية الخاصة بك، إلى معالج الجهاز التنفسي الذي سيساعد في علاج رئتيك التالفتين، يمكن للمختصين إذا عملوا في شكل فريق أن ينقذوا نفس المريض الذي كان سيموت منذ قرن دون أن يلاحظه أحد في زاوية جناح مزدحم ومكتظ.
الأقنعة وفرت شعورًا زائفًا بالأمان. ربما كان ذلك صحيحًا، ولكن لا يزال توفير أي نوع من الأمن أمرا ضروريا
ما زلنا لا نعرف الكيفية التي سينتشر بها فيروس كورونا عبر مجتمعاتنا ومدى تأثيره علينا. وفي الواقع، تكشف البيانات الأولى، التي يجب أن تُراجع، أنه من المرجح أن يسبب هذا المرض على غرار الإنفلونزا مضاعفات عند كبار السن وأولئك الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة والذين يعانون من مشاكل مزمنة في القلب أو الرئة. ولكن على عكس الإنفلونزا، ولأسباب لم نفهمها بعد، لا يبدو أن فيروس كورونا يشكل خطرًا على الأطفال. وسط الأخبار المظلمة، يمثل هذا الأمر بصيصا من الأمل.
إذا كانت جائحة الإنفلونزا لسنة 1918 تشترك مع تفشي فيروس كورونا الحالي في خاصية واحدة، فهي تشترك في الخوف الشديد الذي يشعر به الناس. في كانون الأول/ ديسمبر من سنة 1918، في خضم الجائحة، تجمع ألف مسؤول صحة عامة في شيكاغو لمناقشة المرض الذي قتل في ذلك الوقت ما يقدر بنحو 400 ألف شخص على مدى ثلاثة أشهر. لم يعرفوا سبب الجائحة، ولم يتلقوا علاجات ولم يكن لديهم فكرة عن كيفية السيطرة على انتشاره. كما لم تضمن أقنعة الوجه التي ارتداها في ذلك الوقت عدد كبير من عامة الناس حمايتهم من المرض (وهي حقيقة تنطبق على أقنعة الوجه اليوم).
يعتقد العديد من مسؤولي الصحة أن الأقنعة وفرت شعورًا زائفًا بالأمان. ربما كان ذلك صحيحًا، ولكن لا يزال توفير أي نوع من الأمن أمرا ضروريا، كما أوضح مفوض الصحة في شيكاغو هذا الأمر، بقوله: “من واجبنا أن نحمي الناس من الخوف. يقتل القلق الناس أكثر من الوباء. من ناحيتي، لا أمانع وضعهم قدم أرنب على سلسلة ساعة يد ذهبية إذا أرادوا ذلك، إذا كان ذلك سيساعدهم على التخلص من فكرة الخوف النفسية”.
قد يوفر قناع الوجه نفس قدر الحماية الذي تقدمه قدم الأرنب. لكنه سمح للناس بأن يشعروا بأنهم فعلوا شيئًا وقائيا، والذي كان يُنظر إليه قبل قرن من الزمان على أنه أمر ذو أهمية نفسية كبيرة. يمكننا اتباع طرق أفضل. وبينما ننتظر أن تخف الجائحة، فإن ترك مسافة بين بعضنا البعض وغسل اليدين وتغطية أفواهنا عند السعال والبقاء في المنزل عندما نكون مرضى من الإجراءات المهمة والبسيطة التي يمكننا اتخاذها لتقليل فرص انتشار العدوى وللحد من الخوف الذي يزيد من ضرر هذه العدوى.
المصدر: الأتلانتيك