“أنقذوا مكة من البرماوية“.. تحت هذا الهاشتاغ غرد مئات السعوديين مطالبين سلطات بلادهم بترحيل أبناء جالية بورما أو ميانمار، متهمين إياهم بالعبث بأمن مكة المكرمة (تتركز أغلبيتهم فيها)، ومحاولة إحداث تغيير ديموغرافي فيها، وتنشئة أجيال على فكرة أن مكة ملك لهم، متداولين العبارة الشهيرة “مكّة حقّنا”.
حملة اعتبرها البعض تحريضية ضد قرابة نصف مليون إنسان في محاولة لطردهم من البلاد، بعد 70 عامًا من الإقامة والعيش بربوعها، لتنضم بذلك المملكة إلى قائمة المجتمعات التي أفرزت فيها جائحة كورونا بعض المظاهر العنصرية بداخلها حيال الأقليات والجاليات الأجنبية، وهو ما توثقه تغريدات مواطنيها.
تتزامن حملة التخلص من البرماوية مع حملات تهجير أخرى تنفذها السلطات السعودية، وذلك لتنفيذ المرحلة الأولى من “مشروع نيوم”، كما هو الحال مع حادثة قتل المواطن السعودي عبد الرحيم الحويطي في منزله بقرية الخريبة (التابعة لمنطقة تبوك)، لرفضه التهجير القسري وما سماه في فيديو له “إرهاب الدولة” بحق أبناء الحويطات، لإجبارهم على الرحيل عن أرضهم ومنازلهم بالقوة.
70 عامًا من المعاناة
منذ وصول أول دفعة من المهاجرين البرماويين لمكة المكرمة عام 1949، في عهد الملك عبد العزيز، هاربين من بطش الجماعات البوذية المتطرفة في بورما، وهم يعانون من أوضاع معيشية وحقوقية سيئة، ورغم ما تبذله حكومة المملكة من جهود لتقنين أوضاعهم، فإن الأمور لم ترتق بعد للحد الأدنى من الحياة الكريمة.
فالوضع الاجتماعي لأغلب أبناء الجالية دون المتوسط، ومعظمهم من الفقراء ومحدودي الدخل، حيث تتراوح دخولهم بين (500-900 ريال سعودي) فيما يعمل معظمهم بالأعمال المهنية كالسباكة والنجارة والكهرباء والبناء، وأغلب أبنائها الذي ولدوا في السعودية يفضّلون التدريس في المدارس الخيرية وحلقات التحفيظ وإمامة المساجد بعد حفظهم لكتاب الله، وحصولهم على شهادات الثانوية أو المرحلة العالية، أو العمل في المكتبات أو كسائقين.
وبحسب الأرقام الرسمية فإن ما يقرب من 70% من الأبناء الصغار يدرسون في المدارس الخيرية أو الحكومية، وملتحقون بحلقات تحفيظ القرآن الكريم، ومع مرور الوقت باتوا جزءًا من نسيج المجتمع السعودي عبر عدد من الأجيال المتلاحقة، حتى صار بعضهم على رأس أئمة المملكة من بينهم الشيخ محمد أيوب الذي عمل لسنوات إمامًا للمسجد النبوي وولد في مكة المكرمة عام 1952، وتوفي في 2016.
ومن أكثر الملفات الحساسة التي تؤرق البورمايين في المملكة، ملف التجنيس، حيث تقبع النسبة الأكبر منهم دون جنسيات أو أوراق ثبوتية، ما يجعلهم عرضة للتنكيل وخطر الترحيل في أي وقت، وإلى حين وقت قريب، كانت سفارتا باكستان وبنغلاديش في السعودية تمنح جنسيات أو جوازات سفر مؤقتة للبرماويين الذين انقطعت صلتهم ببلدهم الأصلي بشكل كامل.
الكاتب الراحل جمال خاشقجي، كان من دعاة تجنيس البرماويين، ودعا لذلك في تغريدات عبر “تويتر”، ومقابلات تليفزيونية، ففي لقاء له في 2013 قال إن من يعيش في السعودية دون الحصول على جنسيتها، يجد صعوبة كبيرة في العمل والتعليم والصحة، وغير ذلك.
ونتيجة لتلك الأوضاع المتدنية يشكل البرماويون هاجسًا أمنيًا للمملكة، إذ تشير التقارير الصادرة عن شرطة العاصمة المقدسة، مكة المكرمة، أن عامي 2008-2008 شهدا تورط المقيمين البرماويين والبنغاليين في ارتكاب أكثر من 1700 قضية جنائية وأخلاقية، لافتة إلى أن نسبة القضايا الأخلاقية فاقت الجنائية، من بينها القتل واختطاف أطفال واغتصابهم وتصنيع العرق المسكر وترويجه وتزوير العملات وتزييف الوثائق الرسمية وإنشاء عيادات لإجراء عمليات الإجهاض للنساء الحوامل والاعتداء على رجال الأمن في أثناء إزالة التعديات.
تحريض على الترحيل
مغردون سعوديون عبر الهاشتاغ المدشن طالبوا بترحيل البرماويين بدعوى أن الأحياء العشوائية التي يقطنونها تمثل “منظرًا غير حضاري وتلوثًا بصريًا ومستنقعًا للأوبئة والأمراض والجرائم”، على حد قولهم، وذلك في سياق حالة الهلع التي أصابت الشارع السعودي جراء فيروس كورونا.
البعض زج باسم بعض الدول الخارجية في الأزمة، ومن بينها قطر وتركيا، زاعمين أنهما استغلتا الجالية البرماوية لخلخلة أمن المملكة الداخلي، وسوّقت لهم هذا المشروع “الاستيطاني” وتموّله نكاية في السعودية، بل ورفدت الجالية البرماوية بعناصر أمنية، فضلًا عن إنشاء 16 منصة إخبارية تخدم أجندتهم التخريبية، وهي الإستراتيجية التي يتبعها الذباب الإلكتروني بالمملكة مع كل أزمة تمر بها البلاد.
كما حاول مغردون تحميل جماعة الإخوان المسلمين مسؤولية ما يحدث، كما جاء على لسان حساب “خربشات مواطن” السعودي، الذي غرد قائلًا: “البرماوية يعملون تحت منظومة جماعة الإخوان والعصملي ولا يدافع عنهم إلا شخص منهم منتحل شخصية ما أو خائن منافق عميل عدو للإسلام والنظام السعودي”.
فريق آخر طالب بإعادة تجربة المملكة في إزالة حي (المسوره) بالقطيف للقضاء على الإرهاب، مطالبين بتكرارها في الأحياء التي تسكنها الجالية البرماوية وهي النكاسة والمسفلة وغيرها من الأحياء والمناطق التي يرى المغردون أنها تحولت لبؤر إجرامية يجب استئصالها.
ووصلت عنصرية البعض أن اتهم أبناء الجالية بأنهم مصدر تلوث للشعب السعودي، بجانب بعض الجاليات الأخرى كالبنغالية، كما جاء على لسان حساب “مراح الأولين”: “لقد تلوثنا بما لا ذنب لنا به ويجب أن ننظف وننظف مكة قبل كل شيء، وهو الرأي الذي اتفق معه فيه آخرون”.
نظرية المؤامرة كانت مسيطرة على بعض التغريدات، التي ذهب أصحابها إلى وقوف جهات أجنبية وراء ممارسات أبناء البرماويين وأنهم ينفذون خططًا ممنهجة وممولة تستهدف أمن واستقرار المملكة، مطالبين ولي العهد محمد بن سلمان بغلق هذا الملف في أقرب وقت على حد قولهم.
إلا أنه وفي الجهة الأخرى أعاد مغردون نشر مقاطع لأمير منطقة مكة المكرمة، خالد الفيصل، وهو يتحدث في اجتماعات مع الجالية البرماوية عن الأخوة وشرف استضافتهم في المملكة منذ سنوات طويلة، فضلًا عن تثمين آخرين للدور الذي قدموه لخدمة المجتمع السعودي سواء على المستوى الديني أم الخدمي.
إمامة المساجد في مكة
يحتكر أئمة الجالية البرماوية إمامة المساجد ودور تحفيظ القرآن في مكة، وهو ما يتضح بشكل أكبر في شهر رمضان، حيث يسيطرون على معظم مساجد المنطقة والقرى التابعة لها، وقد قدر عدد الأئمة البرماويين الرسميين والخريجين من جمعيات تحفيظ القرآن الكريم المعتمدة بمكة المكرمة بنحو (3000) حافظ كما صرح بذلك الأمين العام للجالية الروهنغية بالسعودية عبدالله سلامة معروف.
الشيخ أحمد محمد أيوب وهو أحد الأئمة البرماويين يعلق على هذه الوضعية قائلًا: “أجور الأئمة البرماويين الرسميين خلال شهر رمضان تتجاوز (5000) ريال مع ضرورة توفير السكن والإعاشة، بينما تترواح أجور غير الرسميين الذين قدرهم بنحو (4000) إمام ما بين (2500) ريال إلى (3000) ريال بخلاف توفير السكن والإعاشة أيضًا، وهو ما يعني أن دخل الجالية البرماوية من إمامة بعض أبنائها للتراويح خلال شهر رمضان فقط تصل إلى نحو الـ30 مليون ريال سعودي بمعدل مليون ريال عن كل ليلة.
وتتميز الجالية خلال الشهر الكريم بتقديم عدد من الملتقيات الاحتفالية والتعارفية والإنشادية والتكريمية للأئمة المكلفين بإمامة التراويح في المناطق التي يوجدون بها، ليس داخل المملكة فقط، بل تجاوزوا ذلك إلى الدول الخليجية المجاورة، حيث يتم الاتفاق مع بعضهم لإمامة بعض المساجد في تلك الدول مثل البحرين وقطر والإمارات ومن هؤلاء الأئمة المعروفين الشيخ عبد الولي الأركاني الذي يتنقل في رمضان ليؤم المصلين في البحرين وقطر والإمارات بمعدل عشر ليال في كل دولة، والشيخ راشد الأركاني إمام جامع الراجحي بمكة المكرمة الذي يؤم المصلين في أحد جوامع البحرين المعروفة.
وقد بدأت هجرة البرماويين منذ خمسينيات القرن العشرين الميلادي، بعد حملات الإجلاء الإجبارية في بورما، وبدأت هجرتهم إلى السعودية بعد أن منحتهم حكومة المملكة في حينها إقامات بمهنة مجاور للعبادة، وقد كان وصولهم إلى السعودية على 4 مراحل زمنية مختلفة.
الأولى كانت بين عامي 1368هـ و1370هـ في عهد الملك عبد العزيز آل سعود وحصلوا خلالها على إقامات بمهنة مجاور للبيت، فيما كانت المرحلة الثانية بين عامي 1370هـ و1380هـ وحصل بعض منهم على الجنسية السعودية وهؤلاء غالبيتهم دخلوا عن طريق اليمن والأردن.
أما المرحلة الثالثة فكانت بين عامي 1383هـ و1392هـ وهؤلاء أكثرهم دخلوا بجوازات سفر للعمرة والحج عن طريق بنغلاديش أو باكستان، بينما كانت المرحلة الرابعة وهي التي تعرف بالهجرة الجماعية بعد عملية ناجامين التي أبيدت فيها قرى بكاملها بحجة المواطنة غير الشرعية وكانت بين عامي 1387هـ و1391هـ، ومن عام 1391هـ إلى عام 1426هـ توقفت الهجرة البورمية الجماعية وبقيت الهجرة الفردية.
لا يوجد إحصاء رسمي لعدد البرماويين في السعودية، ففي تعداد عام 2015 بلغ عدد من تحسنت أوضاعهم واستخرجت لهم إقامات نظامية ربع مليون شخص، وفق بعض التقارير الحكومية، في حين أشارت تقارير أخرى إلى أن عدد البرماويين المقيمين ممن لم تتحسن أوضاعهم أو ما زالوا مجهولين 500 ألف شخص.
وبين دعوات التحريض العنصرية المطالبة بالترحيل والطرد خارج البلاد، في مواجهة مناشدات البعض تقنين الأوضاع وتحسين الأجواء لطمأنة الشارع السعودي، ينتظر أبناء الجالية البرماوية مصيرهم المحتوم بعد سبعة عقود من الإقامة والخدمة في رحاب الحرم المكي.