39 صندوقًا خشبيًا قديمًا تحفظ بداخلهم كومة سميكة من الأوراق المهترئة، تحتوي صورًا لوجوه أو عيون أو أنوف لرجال غير معروفين، مكتوب على تلك الصور معادلات رياضية ورموز مبهمة، ويعود تاريخها لستينيات القرن الماضي، التي كشفها مركز “بريسكو” للتاريخ الأمريكي بجامعة تكساس مؤخرًا.
تلك هي الصناديق التي نجت من حريق التهم إحدى المزارع في بلدة مِيسفيل، أوكلاهوما، بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1995، وتعود ملكية تلك المزرعة لوودرو ويلسون بليدسوي، المعروف باسم وودي، وودي هذا إن لم تكن في الغالب تعرفه، هو مؤسس علم وتقنية التعرف على الوجه.
من التقنيات التي شاع استخدامها في السنوات القليلة الماضية تقنية التعرف على الوجه، فالجميع يستخدمها كل يوم عشرات المرات لفتح قفل الهاتف أو لتسجيل الدخول إلى مؤسسة حكومية أو الشركة التي نعمل بها.
تلك التقنية التي غيرت مفاهيم “الأمن البيومتري” منذ انطلاقها، كانت ولا تزال أهم سمة أمنية لحماية الأجهزة، فَمقلةُ العينِ من الصعب جدًا تزويرها كما هو الحال مع بصمة الإصبع، وتكاد تكون متفردة بالأشخاص، فلا يمكن أن ترى شخصين يتطابقان تمامًا بتقاسيم الوجه وشبكية العين، حتى إن كانا توأمين متماثلين.
وهي كذلك أبرز تقنية ينشط اسمها عند الحديث عن اضطهاد تقوم به حكومة ما ضد مكون بعينه أو أقلية.
تمكن وودي باستخدام الموارد الحاسوبية الضعيفة في تلك الفترة من وضع القواعد الأولى لتقنية التعرف على الوجه، وكانت في تلك الفترة ذات مفهوم بسيط
بداية القصة
ولد وودي عام 1921، ومنذ نعومة أظافره كان يمتاز بذكاٍء حاٍد يميزه عن أقرانه، وخلال مشاركته كجندي في الحرب العالمية الثانية، حصل على النجم البرونزي لابتكاره طريقة لإطلاق السفن البحرية الكبيرة – المصممة لإنزال الشواطئ – إلى نهر الراين.
تخصص بعد انتهاء الحرب في الرياضيات بجامعة يوتا، ثم حصل من جامعة بيركلي على درجة الدكتوراه، وبعد ذلك عمل بوظيفة في شركة “سانديا” بنيو مكسيكو، حيث عمل على أبحاث الأسلحة النووية الممولة من الحكومة، في شركة “سانديا” وضع وودي خطواته الأولى في عالم الحوسبة، التي ظل منشغلًا بها لبقية حياته المهنية.
في البداية، كانت جهوده في كتابة التعليمات البرمجية المرتبطة بالحسابات السرية لأبحاث الأسلحة النووية، بعد ذلك ابتكر برنامج “احتساب احتمالات السقوط من هجوم نووي حراري واسع النطاق”، الذي يتنبأ بالأضرار الناجمة عن التعرض لهجوم نووي وكيفية الحد منه وأفضل نقطة لاعتراض الصواريخ النووية.
عام 1960 أسس وودي شركة “Panoramic Research Incorporated”، وكان أول مشاريعها ابتكار جهاز “Hear-a-Lite”، وهو جهاز على شكل قلم للمكفوفين يترجم مستويات الضوء إلى صوت، بعد ذلك بدأ بالعمل على تقنية “التعرف على الوجه” عام 1963، وكانت وكالة الاستخبارات الأمريكية الممول الرئيس لذلك المشروع.
بعد سنوات عمل طويلة، تمكن وودي باستخدام الموارد الحاسوبية الضعيفة في تلك الفترة من وضع القواعد الأولى لتقنية التعرف على الوجه، وكانت في تلك الفترة ذات مفهوم بسيط وتعمل على الصور الثابتة ثنائية الأبعاد.
طورت مايكروسوفت التقنية المستخدمة في الصين في الوقت الحاليّ، بينما أمازون هي المجهزة للحكومة الأمريكية
الشركات المطورة للتقنية في العصر الحديث
في وقتنا الحاليّ هناك تنافس كبير بين الشركات المصنعة لهذه التقنية، ولعل أبرز المطورين لها شركات “مايكروسوفت” و”أمازون” و”آي بي إم”، وكلها شركات أمريكية.
وأظهرت الإحصاءات أن 75 دولة على الأقل على مستوى العالم تستخدم بنشاط تقنيات الذكاء الاصطناعي لأغراض المراقبة، ومن تلك النظم، نظم التعرف على الوجه.
تتصدر الصين قائمة الدول المستخدمة لهذه التقنية، تليها الولايات المتحدة الأمريكية، ويشير تقرير لوكالة “أسوشيتد برس” AP أن عددًا كبيرًا من الحكومات الديمقراطية في أوروبا وأماكن أخرى تثبت مراقبة الذكاء الاصطناعي مثل التعرف على الوجه.
طورت مايكروسوفت التقنية المستخدمة في الصين في الوقت الحاليّ، بينما أمازون هي المجهزة للحكومة الأمريكية، ويرى تقرير AP أنه في الفترة القادمة ستكون دول الخليج العربي من المستخدمين الفاعلين لتلك التقنية.
أثيرت أقاويل كثيرة بشأن أنظمة التعرف على الوجه، متهمة إياها بالتحيز لفئة دون غيرها
الاستخدامات المفيدة لتقنية التعرف على الوجه
يستخدم ملايين الناس التعرف على الوجه لتأمين هواتفهم المحمولة ووضع علامات على الصور، وهناك أمثلة لا حصر لها على كيفية حد هذه التقنية من الاحتيال المالي في البنوك ومنع الأخطاء الطبية في المستشفيات وحماية الشركات الصغيرة من السرقة وتحسين الأمن في المطارات، وغيرها الكثير.
كذلك من الفوائد المهمة لها هو تحديد هوية المفقودين من الأطفال، على سبيل المثال، تشتهر الهند بوجود أعداد كبيرة من الأطفال المفقودين، ففي السنوات الخمسة الأخيرة تم تسجيل فقدان 250000 ألف طفل، ولهذا السبب، أنشأت الحكومة الهندية قاعدة بيانات تحتوي على صور للأطفال المفقودين واستخدمت تقنية التعرف على الوجه للتعرف على الآلاف منهم.
كذلك يتم استخدامها للتعرف على المفقودين المصابين بمرض الزهايمر، الذين لا يتذكرون بيوتهم ومنازلهم.
الأخطاء والتحيز الموجود في هذه التقنية
أثيرت أقاويل كثيرة على أنظمة التعرف على الوجه، متهمة إياها بالتحيز لفئة دون غيرها، أجرت صحيفة “واشنطن بوست” و”معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” دراسة للتأكد من صحة تلك الأقاويل، ووجدت الدراسة وجود تحيز واضح ضد أصحاب البشرة الداكنة، وكشفت وجود اختلافات كبيرة في دقة أنظمة التعرف على الوجه، بما في ذلك تلك التي طورتها شركتي IBM وMicrosoft Corp، وأن التحيز كان اعتمادًا على الجنس ولون البشرة.
بينما وجدت دراسة حديثة أخرى أجراها المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا، أن هناك معدلات خاطئة كبيرة تجاه الوجوه الآسيوية والأفارقة في أنظمة شركة “أمازون” التي تعتمدها الحكومة الأمريكية.
كشف التقرير السابق أن الحكومة الأمريكية ركزت في نشرها للكاميرات على الأحياء الفقيرة أو تلك التي يقطنها مهاجرون أو ذوو البشرة الداكنة
الاستخدام السيء لنظام التعرف على الوجه في الولايات المتحدة
في السنوات القليلة الماضية دعت الولايات المتحدة الصين للكف عن اضطهاد الناس عبر إخضاعهم للمزيد من المراقبة عبر الكاميرات، ولا يخفى على أحد مقدار الاضطهاد الذي يعاني منه المسلمون “الإيغور” من جراء تلك الأنظمة التي تحدد حركتهم وتنقلاتهم بشكل كبير.
لكن مع اندلاع المظاهرات، التي رافقها أعمال عنف وشغب في عدة مدن بالولايات المتحدة الأمريكية، عقب وفاة جورج فلويد، طفت إلى السطح المطالب القديمة المنادية بعدم استغلال أنظمة الذكاء الاصطناعي للحد من الحرية واضطهاد الأقليات، التي اتضح فيما بعد سبق الولايات المتحدة للصين في استخدام تلك التقنية بسنوات!
إذ قال تقرير لـPOGO – هيئة أمريكية مستقلة، مهمتها كشف الفساد في المؤسسات الأمريكية – إن المسؤولين الأمريكيين كانوا يستخدمون تقنية التعرف على الوجه سرًا لمدة تزيد على عشر سنوات، “دون أي رقابة أو مساءلة أو تفويض تشريعي من أي ممثل مستقل”.
وفي العام الماضي، كشف تحقيق أجرته “الفاينانشال تايمز” أن الباحثين في جامعة مايكروسوفت وجامعة ستانفورد جمعوا ثم شاركوا علنًا، مجموعات بيانات ضخمة من صور الوجه دون معرفة أو موافقة الأشخاص، وحذر ناشطون من استغلال ميزة “التعرف على الوجه” من الشرطة الأمريكية لتحديد هوية المشاركين في التظاهرات ومن ثم اعتقالهم.
كما كشف التقرير السابق أن الحكومة الأمريكية ركزت في نشرها للكاميرات على الأحياء الفقيرة أو تلك التي يقطنها مهاجرون أو ذوو البشرة الداكنة.
Microsoft أول شركة تقنية كبيرة تطالب بقوانين بشأن تقنية التعرف على الوجه ومنذ عام 2018 وهي تطالب بتشريع قانون
موقف الشركات الكبرى من إساءة استخدام تلك التقنية
رغم أن كبرى شركات التكنولوجيا هي من طورت أنظمة التعرف على الوجه، لكن عقب الاحتجاجات والضغط الشعبي المطالب بإيقاف اضطهاد ذوي البشرة الداكنة، استجابت تلك الشركات واتخذت موقفًا صارمًا تجاه الحكومة، ففي البدء أعلنت “IBM” إيقاف تجهيز تلك الأنظمة لوكالات تطبيق القانون لمدة عام واحد لحين تشريع قانون وطني يحدد عمل تلك الأنظمة.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة “IBM” آرافيند كريشنا في رسالة إلى الكونغرس: “شركة آي بي إم لن تقدم بعد الآن برنامجًا للتعرف على الوجه أو برنامجًا للتحليل لوكالات تطبيق القانون”، بعدها أعلنت أمازون نفس القرار، علمًا أنها المجهز الأكبر لتلك التقنية للحكومة، وفي الأسبوع الماضي انضمت “مايكروسوفت” هي الأخرى إلى قائمة المقاطعين، وأعلنت إيقاف تجهيز الحكومة لأنظمة التعرف على الوجه.
علمًا بأن Microsoft أول شركة تقنية كبيرة تطالب بقوانين بشأن تقنية التعرف على الوجه ومنذ عام 2018 وهي تطالب بتشريع قانون بهذا الشأن، وقالت الشركة في بيان لها إنها تعارض استخدام برامج التعرف على الوجه للمراقبة الجماعية، والتنميط العنصري أو غيرها من الانتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
هناك شركات صغيرة، لكنها فاعلة في تطوير تلك التقنيات لم يصدر عنها بيان، وما زالت مستمرة في تقديم خدماتها، مثل NEC Corp، وIdemia وClearview AI، علمًا بأن الأخيرة أثيرت بشأنها الكثير من الاتهامات بشأن انتهاكات الخصوصية، فهي بنت برنامجها بالكامل عبر استخدام صور حسابات منصات التواصل الاجتماعي، واعترفت مؤخرًا بجمعها لقرابة 3 مليارات صورة وجه شاركها الناس على تلك التطبيقات.