هناك لحظات قد تغير مجرى حياة الإنسان ولحظات أخرى تتعدى الفرد وربما تغير مجرى حياة البشر ككل، لحظات يدونها التاريخ على صفحاته وتمضي بصاحبها نحو المجد، منها اللحظة التي تم فيها تصوير الثقب الأسود لأول مرة في أبريل/نيسان 2019 التي نقلت النظريات والتصورات السابقة للعلماء لما يزيد على قرن كامل فيما يخص الثقب الأسود إلى الحيز المرئي، اللحظة التي أذهلت البشرية وتابعها أكثر من 4 مليارات إنسان.
فريال أوزال
عاشت البروفيسورة فريال أوزال العالمة التركية تلك اللحظة التي غيرت مسار البشر، فهي أستاذة علم الفلك والفيزياء الفلكية بجامعة أريزونا التي طورت طرقًا نظريةً وحسابيةً على مدار 20 عامًا لدراسة الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية وبناء نماذج لبيئاتهم القاسية، فكانت ضمن فريق العلماء الذي استطاع التقاط أول صورة للثقب الأسود.
فريال أوزال من مواليد ولاية إسطنبول 1975، ورغم نشأتها في أسرة ذات توجه نحو الطب ورغم كون كلا والديها أطباء، فإن ذلك لم يغير مسارها، ودائمًا ما تتذكر أعظم الهبات التي حدثت لها في طفولتها عندما أهداها والداها موسوعة شاملة للعلوم التي زرعت تلك البذرة المُحبة للكون والفيزياء وأينعت فيما بعد.
فريال التي أظهرت منذ نعومة أظفارها توقًا كبيرًا إلى المعرفة وفضولًا أكبر نحو الكون الذي نعيش فيه وتساؤلات كثيرة دفعتها إلى تحديد مسارها والحرص على الدراسة والتفوق، أكملت تعليمها الثانوي في أكاديمية إسكودار الأمريكية بإسطنبول لتلتحق بعدها بجامعة كولومبيا في مدينة نيويورك قسم الفيزياء والرياضيات التطبيقية.
عام 1996 أكملت دراستها الجامعية، لكن حلمها الكبير دفعها لإكمال دراسة الماجستير وانتقلت إلى كوبنهاغن لتكمل دراستها للفيزياء ومن ثم دراسة الدكتوراة في هارفارد بتخصص الفيزياء الفلكية عن بحثها المتعلق بتأثيرات الحقول المغناطيسية والتثاقلية الشديدة للنجوم النيوترونية، واستطاعت بعدها الحصول على زمالة ما بعد الدكتوراة من وكالة ناسا.
يكمن مجال ريادة الدكتورة فريال أوزال في اتباعها تقنيات جديدة لإجراء أول قياس دقيق لأنصاف أقطار النجم النيوتروني واستنباط قيود مهمة على معادلة الحالة ذات الكثافة الباردة، كما قامت بالتنبؤات الأولى لصور الثقوب السوداء الهائلة القريبة بأطوال موجية مختلفة بناءً على عملها على تدفقات التراكم، التي وجهت تطوير تلسكوب أفق الحدث.
بهذه الإمكانية الأكاديمية الرفيعة والعقلية الفذة استطاعت الدكتورة فريال أن تحظى بثقة كبيرة في الأوساط العلمية وتولت العديد من المناصب المرموقة منها رئاسة اللجنة الاستشارية للفيزياء الفلكية التابعة لناسا والإسهام في تأسيس Event Horizon Telescope (وهي مجموعة تلسكوبات كبيرة تتكون من شبكة عالمية من التلسكوبات الراديوية التي تجمع البيانات من عدة محطات قياس تداخل طويلة جدًا حول الأرض بدقة زاويّة كافية لرصد الأجسام بحجم أفق الحدث للثقب الأسود الهائل) وبعد التأسيس بسنوات تحديدًا عام 2016 ترأست مجلس العلوم لهذه المجموعة واستطاعت أن تكلل قيادتها لمجموعة من 200 عالم من مختلف الجنسيات بالنجاح المذهل الذي حققته المجموعة بالتقاط أول صورة للثقب الأسود.
بالإضافة إلى ترؤسها للمناصب العلمية، فهي أحد علماء النخبة الذين يقدمون المشورة لحكومة الولايات المتحدة في مجال العلوم.
وبهذه المسيرة المتفوقة والأبحاث الرصينة (لها ما يزيد على 150 بحثًا) حصلت الدكتورة فريال على العديد من الجوائز العالمية المرموقة، منها وضعها في قائمة “الأفكار الكبيرة” مع أشهر العلماء في العالم مثل أينشتاين وجون نيش، وجائزة Breakthrough وجائزة برونو روسي للجمعية الفلكية الأمريكية 2020 وكذلك جائزة Maria Goeppert Meyer من الجمعية الفيزيائية الأمريكية وجائزة معهد هارفارد رادكليف وجائزة Diamond Achievement من مؤسسة العلوم الوطنية، وتم الاعتراف بها بتميز Breakthrough of the Year by Science.
اليوم تعمل الدكتورة فريال رئيسًا مشاركًا لبعثة ناسا لمرصد Lynx X-ray، وهو مشروع ضخم تموله الأكاديمية الوطنية للعلوم ويهدف إلى تحقيق تقدم كبير في مجالات الاكتشاف الفيزيائية الفلكية الثلاث: فجر الثقوب السوداء ودوافع تشكل المجرة وتطورها والخصائص النشطة للتطور النجمي والنظم البيئية النجمية.
ورغم التزاماتها العلمية، تعطي الدكتورة فريال أولوية للأطفال وتشجعهم على المعرفة والتساؤل، فهي تؤمن أن العلوم يجب أن تُدرس بشكل مشوق يُنمي روح الفضول المعرفي لدى الطفل ويطلق العنان لتساؤلات تكون إنجازات علمية في المستقبل، لذلك تعمل محاضرًا مجانيًا في المدارس والثانويات حالما أتيحت لها الفرصة لذلك، وتحاول أيضًا إثراء المعلمين وتدير جلسات حوارية على زووم لنشر الفيزياء الفلكية في جميع أنحاء العالم.
وبالإضافة الى موقفها من الأطفال واليافعين، معروف عنها سعيها إلى تعزيز دور المرأة في الشرق الأوسط، فقد ساهمت في العديد من الحملات والأفلام الوثائقية وعملت مستشارةً علميةً لبرامج PBS وBBC بهدف تمكين النساء من الحصول على المعلومات وتشجيع الفتيات للحصول على التعليم.