يبدو أن دولة الإمارات ماضية في مشروع بناء “نظام إقليمي جديد” بما ينسجم مع خططها وتصوراتها، وذلك من خلال الجهود المكثفة التي تبذلها من أجل توجيه السياسات الداخلية والخارجية لبعض الدول التي تقع في دائرة اهتماماتها، فأبو ظبي لم تتوقف يومًا عن شن هجمات غايتها الأساسية نشر الفوضى في بلدان عديدة منها اليمن والصومال وليبيا ومنع تعزيز الديمقراطيات الناشئة كتونس.
ورغم فشل مساعي الإمارات المحمومة في فرض أجندتها في تونس وعجزها عن هدم حصن الديمقراطية الذي أفرزته ثورة 14 يناير على هشاشته، فإن أبو ظبي ما زالت تُمارس سياسة شد الحبل مستغلة الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد الناتجة عن تعطل ميكانيزمات الإنتاج وجائحة كورونا، وتقاطع مصالح بعض الأحزاب سليلة التجمع المنحل (الدستوري الحر) مع مشروعها.
منع السفر
آخر التحركات الإماراتية على الساحة التونسية، تمثل في إقرار سلطات أبو ظبي منع التأشيرة عن المواطنين التونسيين، كما أعلن ذلك رئيس لجنة النقل الجوي في الجامعة التونسية لوكالات الأسفار عبد العزيز بن عيسي، من أن دولة الإمارات قررت منع إسناد التأشيرات لتونسيين وتستثني من ذلك الأشخاص المتزوجين أو الذين لديهم أبناء أو الذين تفوق أعمارهم الستين عامًا.
القرار الإماراتي أثار جدلًا كبيرًا لدى عموم التونسيين من حيث توقيته وأسبابه، فإدراج البلاد في قائمة تضم اليمن وسوريا والصومال والعراق وكينيا وأفغانستان يحمل أكثر من سؤال ودلالة في نفس الوقت، فالأوضاع في تونس ليست بالقتامة التي يُقرأ من خلالها القرار سواء على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي أم على الصعيد الصحي المرتبط بجائحة كورونا.
من جهة أخرى، ليست المرة الأولى التي تفرض فيها الدولة الخليجية مثل هذه القيود على الشعب التونسي، ففي 2017 نشبت أزمة عميقة بين البلدين عندما قررت أبو ظبي منع النساء التونسيات من السفر على متن الخطوط الإماراتية، وهو ما استفز تونس التي ردت بدورها بتعليق رحلات الناقلة الإماراتية من تونس وإليها، وطالبت أبو ظبي بالاعتذار فورًا عن هذا الإجراء.
الإمارات في تلك الفترة بررت قرارها بوجود تهديدات أمنية على أراضيها وأن تقارير استخباراتية أفادت بإمكانية تنفيذ إحدى النساء عمليات إرهابية، وهو أمر لم يقنع التونسيين واعتبروا أن هذه المبررات واهية تُخفي وراءها خلفيات سياسية وهي جزء من “الحملة الانتقامية” ضد بلادهم بسبب خياراتها السياسية الكبرى وحيادها المعروف في القضايا العربية (حصار قطر والحرب في ليبيا) والإقليمية.
دوافع المنع.. الرسائل
في قراءة موضوعية لقرار المنع، يُمكن تحديد الأبعاد السياسية للخطوة الإماراتية تجاه تونس التي يدفعنا إليها توقيت الإجراء ودوافعه وتتلخص فيما يلي:
- القرار جاء عقب زيارة الرئيس قيس سعيد إلى قطر التي أثمرت تعاونًا بين البلدين على الصعيد الاقتصادي والسياسي، ما يعني أن الإجراء الإماراتي كان رسالة إلى تونس من أن أي تقارب مع قطر سيتبعه تراجعًا في مستوى العلاقات مع أبو ظبي، والأخيرة عملت منذ الحصار على الدولة الخليجية (2015) على استمالة التونسيين الذين اختاروا الحياد والتواصل مع كل الأطراف مع الحفاظ على المصلحة العليا للبلاد بمنطق براغماتي.
الغيرة تذهب الشيرة?
الإمارات تمنع التاشيرة عن التونسيين ‼️‼️
وضعت الامارات تونس في نفس القائمة مع أفغانستان والصومال وسوريا واليمن والعراق وكينيا…فأوقفت الفيزا للتوانسة…!!!!
ويتزامن ذلك مع زيارة الرئيس قيس سعيد الى قطر…!
— Rashid El (@rachidasyly) November 17, 2020
المعروف عن الإمارات أنها تعاملت مع تونس وفق ما يُسمى بالابتزاز الاقتصادي ووعود مفتوحة الآجال، وهو ما تجلى في ضعف مشاركتها في المؤتمر الدولي للاستثمار والدعم لتونس الذي كان لأسباب إستراتيجية وسياسية أهمها عدم رضاها عن سياسة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وتوافقه مع حركة النهضة.
ابتزاز الإماراتيين لتونس تبين بشكل لا يحمل الشك في تجميد المشاريع الضخمة بعد ثورة 14 يناير، كانت قد وعدت بإنجازها في تونس خلال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي على غرار مشروع بوابة المتوسط “سما دبي” و”مدينة تونس الرياضية”، لدواعي قالت إنها تتعلق بالوضع المضطرب في البلاد، والحقيقة أن القرار يعود بالأساس إلى أن الإماراتيين قرروا عدم استئناف أشغال مشروع “سما دبي” المتعطل منذ سنة 2011، نكاية بالرئيس السبسي بسبب تحالفه مع حركة النهضة وإشراكها في الحكم، وليس لأسباب لوجيستية أو أمنية.
- يحمل القرار بين طياته أيضًا دعمًا للتحركات الأخيرة التي تقودها الحليف الأول للإماراتيين زعيمة الحزب الحر الدستوري سليل حزب التجمع (بن علي)، ويبدو أن القرار أُريد من ورائه تسليط مزيد من الضغط على السلطات التونسية، وهو طرح يتماهى إلى حد كبير مع تسريبات سابقة للمغرد السعودي المشهور (مجتهد) التي جاء فيها أن الإمارات والسعودية تُعدان لخطة انقلابية لتسليم السلطة لنظام يقمع الإسلاميين على غرار ما حدث في انقلاب مصر، يشارك في تنفيذها كل من عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر ومحسن مرزوق رئيس حزب مشروع تونس وأكاديميين وناشطين وشخصيات تونسية أخرى معروفة بقربها من الإمارات.
- منع سفر التونسيين جزء من إستراتيجية كاملة تضعها الدولة الخليجية للتحكم في المشهد السياسي التونسي ولضرب حركة النهضة (الإسلام السياسي)، إضافة إلى البروباغندا الإعلامية التي تُمارسها لتدمير أي حركة إسلامية قد تشكل تهديدًا لأمن نظامها، ويتم تنفيذ هذه السياسة داخل الدولة وعلى مستوى دول الخليج وبلدان الشرق الأوسط والصعيد الدولي.
- الإجراء يأتي تزامنًا مع احتضان تونس للحوار الليبي وعودة حركة السفر بين البلدين، فالإمارات تتخوف من أن تتخلص تونس من حيادها في هذا الملف وتنخرط في دعم معسكر طرابلس على حساب الشرق بدفع من قطر بعد الزيارة الأخيرة لقيس سعيد.
- تسعى الإمارات من خلال هذه الإجراءات إلى تطويع السياسة التونسية خدمة لمشروعها وأجندتها في المنطقة، فالضغط الذي تسلطه ترى فيه ورقة تلعب من خلالها على قطع أي تقارب تونسي مع قطر وتركيا، خاصة أن الأخيرة تسلك تمددًا ناعمًا ودبلوماسية نشطة تلقى قبولًا في شمال إفريقيا، كما يأتي القرار ضمن مساعي أبو ظبي لفرض مسار التطبيع وتوسيع دائرته.
تتواصل الحركات البهلوانية للإمارات الإسرائلية المتحدة بمنع إسناد الفيزا للتونسيين كعقاب على الموقف من القضية الفلسطنية
وصنفت تونس مع عدة دول تشهد إضطرابات مثل أفغانستان والصومال وليبيا وسوريا واليمن والعراق ودول أخرى معادية لمحورها مثل إيران وتركيا pic.twitter.com/R78jGKlL8H
— montasser chb (@montasser_chb) November 17, 2020
تحركات أبو ظبي
لم توقف الإمارات تحركاتها الرامية للتحكم في المشهد السياسي التونسي وتدجينه منذ الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، فالدولة الخليجية سعت إلى ضرب المشروع الانتقالي التونسي في مهده الأول بتدخلات سافرة تسعى من خلالها إلى إعادة ماكينة القمع والاستبداد، وذلك عبر دعمها السخي لحماة الثورة المضادة في العالم العربي وفي تونس على وجه الخصوص وإثارة المعارك الجانبية بين الكتل البرلمانية والأحزاب رغبة في تفكيك مؤسسات الدولة، للسيطرة فيما بعد على قرارها السيادي.
#المغرب و #تونس بالذات بالإضافة الى #الجزائر و #ليبيا و #موريتانيا ثبت لديهم تآمر #الإمارات عليهم.
المفروض يتم قطع العلاقات مع الإمارات وطرد سفراءها في كل تلك الدول واصدار قوانين تجرم التعامل مع الإمارات او التخابر معها او السفر اليها.
الباب الذي تأتي منه الريح سده واستريح.
— المراقِب الشرعي (@ALMURAQB_ASSAD) July 10, 2020
تقويض الديمقراطية الناشئة واستعداؤها في تونس وتوجيه دفة الإرادة الشعبية من أجل النكوص عن المنجز الثوري، كان أولوية قصوى لحكام أبو ظبي طيلة السنوات التسعة الماضية، من خلال دعم الأذرع المحلية بقوة المال والإعلام من أجل التأثير في المسار الانتقالي وخلق نخبة حاكمة خانعة يسهل السيطرة عليها وتطويعها ضمن مشروعها الجديد.
مساعي الإمارات لضرب الاستقرار التونسي لم تكن أساسًا بدافع خلق حكام على شاكلة “سيسي مصر” فقط، فأبو ظبي ترى في تونس عقبة حقيقية أمام مشروعها الإقليمي المتمثل في خلق منظومة عربية جديدة منضوية تحت مشروع عولمة الصهيونية، ففي مقال نشر في مجلة “جون أفريك” الصادرة بباريس يعود التوتر الذي طبع العلاقات بين تونس وأبو ظبي إلى الخلاف السياسي بين العاصمتين يمتد ليشمل الأوضاع في ليبيا، فبينما تبدي أبو ظبي تأييدًا كاملًا للمشير الليبي خليفة حفتر، يفضل الائتلاف الحكومي في تونس عدم الخوض في المستنقع الليبي بحكم تعقيداته وتداعياتها على الداخل التونسي.
في هذا الإطار، فإن وضع تونس على قائمة الأهداف الإماراتية، يعود بالأساس إلى أن الفاعلين في السياسة التونسية لا يخدمون النظام الإقليمي المطلوب تأسيسه بدفع من أبو ظبي والمتمثل في خلق توازنات في ليبيا، فالحياد التونسي كان مصدر انزعاج للإماراتيين الذين يعملون بالوكالة لتغيير الخريطة الجيوإستراتيجية في منطقة البحر المتوسط.
وكانت الإمارات قد دعمت الاحتجاجات المناهضة لحركة النهضة عام 2013، ودعمت حزب نداء تونس بقيادة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي (ليبرالي) ضد حركة النهضة في الانتخابات الرئاسية عام 2014، وعملت على استمالته لكسر تحالف النهضة/نداء تونس، الذي بزغ عقب انتخابات 2014، إلا أن الأخير اختار مصلحة بلاده وأعلى من شأن سيادتها، وفقًا لتصريحات سابقة للإعلامي سفيان بن فرحات.
أبو ظبي دعمت أيضًا الاحتجاجات المناهضة للحكومة عام 2018، لإيجاد أزمة مصطنعة باتخاذ قرار لا يتناسب مع الأعراف الدبلوماسية عبر منع التونسيات من دخول الإمارات، ودفعت تحركات لشخصيات تونسية مثل وزير الداخلية السابق لطفي براهم، وهو ما أكده موقع “موند أفريك” الفرنسي الذي نشر تقريرًا أورد فيه أن اجتماعًا سريًا جمع بين وزير الداخلية التونسي المُقال لطفي براهم ورئيس المخابرات الإماراتي في جزيرة جربة جنوب شرق تونس في نهاية شهر مايو/أيار الماضي لبحث انقلاب أمني يستولي على السلطة في تونس ويزيح حكومتها الديمقراطية المنتخبة.
وكمثال على استقطاب الإمارات لأحزاب سياسية تونسية، بينت إحصاءات “فيسبوك” أن الصفحة الرسمية لحركة مشروع تونس يديرها 15 شخصًا، من بينهم 6 من الإمارات العربية المتحدة وشخص من مصر، فيما يقيم البقية بتونس، ما اعتبره ناشطون دورًا إماراتيًا واضحًا في دعم حركة مشروع تونس التي يديرها محسن مرزوق ويصفه البعض بأنه أحد رجال المشروع الإماراتي في تونس.
تسميم الإمارات للوضع الداخلي، دفع الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي في وقت سابق إلى مهاجمة أبو ظبي واصفًا إياها بـ”عدوة الديمقراطية والحرية”، ونقلت وكالة الأناضول قوله: “نحن لم نتدخل في شؤون الإمارات لتغيير نظام الحكم، بل هي التي تدخلت في نظام حكمنا، ومن واجبي الدفاع عن تونس”.
ويبدو أن حكام الإمارات لم يأخذوا بالحسبان تصاعد دعوات عدد من السياسيين التونسيين ومكونات المجتمع المدني بمطالبة سلطات بلادهم بقطع العلاقات مع الإمارات نظرًا للتدخل السافر في الشأن الداخلي سواء بأذرعها الإعلامية أو السياسية، وكذلك ردة فعل التونسيين على قرارها السابق (منع سفر التونسيات)، حيث دفع حراكهم إلى إرغام الحكومة على إقرار إجراء مماثل، لقي صدى محليًا وإقليميًا تُرجم في هاشتاغ “تونس تؤدب الإمارات”.
اليوم أحرار الأمة الإسلامية من شرقها الى غربها يهللون ويكبرون مع #تونس
والخونة والعملاء والانقلابيون وأعداء الدين يتحسرون ويتباكون
شكراً لكل أخ وأخت حر صفق للحق
تسقط الخيانة وعبيد الدرهم والدينار
يسقط حلف الشر
يعيش كل مسلم حر
اذا الشعب يوما أراد الحياة…??♥️#تونس_تؤدب_الامارات
— Nadya Saâfi✴ناديا (@NedyaMuslima) July 30, 2020
بالنهاية، إن الفشل المزمن الذي تُعانيه الدبلوماسية الإماراتية في تونس يعود بالأساس إلى درجة الوعي الشعبي الذي وصل إليه التونسيون وإلى ثمار ثورة 14 يناير على قلتها، فرغم الوضع الاقتصادي والسياسي الهش، فإن حرية التعبير وتطور الوعي الجمعي ساهم بشكل كبير في منع انزلاق السياسيين والحكام إلى الهوة في أكثر من مرة، وهذا ما سيعقد مهمة الإماراتيين الذين سيُعييهم اتباع مثل “الدوام ينقب الرخام”.