“قررت انتحر”.. أثارت تلك الجملة التي كتبها أحد مواطني البدون (عديمي الجنسية) في الكويت على حسابه على “تويتر” الجدل داخل الشارع الكويتي الذي تفاعل معها بصورة كبيرة، ليعاد هذا الملف (البدون) المثير للجدل لساحة الأضواء مرة أخرى، خاصة أن قرار الانتحار جاء بسبب اليأس من الحصول على الجنسية بحسب المنشور.
واستعرض الشاب (27 عامًا) صاحب الحساب الذي يحمل الاسم المستعار “عقل الكاتب قلمه” دوافع إقدامه على هذه الخطوة التي أرجعها إلى “ضيق المعيشه + تعبت وأنا أصبر وما شوف أي بوادر حل حق هالقضية.. أشعر بأنني عال على المجتمع وعلى عائلتي”، مختتمًا منشوره بأنه شخص غير مدخن ومحافظ على صلاته حتى لا يتهم بأن انتحاره جاء لأسباب أخرى كالإدمان أو ضعف الإيمان.
لم تكن تلك الواقعة هي الأولى من نوعها خلال الأيام الأخيرة، إذ سبقتها محاولة انتحار أخرى لشاب من البدون في دورة مياه نظارة مخفر شرطة الوفرة في الـ8 من ديسمبر/كانون الأول، لتصبح الحالة الثانية في أقل من عشرين يومًا، وهي ظاهرة غير مسبوقة يشهدها المجتمع الكويتي حيال هذا الملف المعقد منذ سنوات طويلة.
وتعد محاولتا الانتحار تلك الأولتين في العهد الجديد، عقب تولي الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، إمارة البلاد، وهو ما دفع العديد من النشطاء إلى المطالبة بإعادة فتح تلك القضية مرة أخرى ومحاولة العمل من أجل وضع حلول عملية لها تحفظ حقوق الآلاف من عديمي الجنسية في الكويت.
وتتأرجح أعداد البدون في البلاد بين الأرقام الرسمية وغير الرسمية، بلغت ذروتها قبل الغزو العراقي للكويت عام 1990 حيث وصل عددهم إلى نحو 350 ألف نسمة إلا أنه انخفض بعد التحرير ليصل إلى نحو 225 ألف نسمة، فيما تقدرهم السلطات الكويتية بأقل من 100 ألف شخص، لكنها لم تعترف إلا بنحو 32 ألفًا منهم، وتقول إن الباقين من جنسيات أخرى.
تعد تلك القضية أحد أبرز القضايا الشائكة في المجتمع الكويتي في ظل المعاناة الإنسانية اليومية التي يعاني منها أصحابها (نسبة كبيرة منهم اضطرت للهروب خارج البلاد) الأمر الذي جعل الدولة الخليجية في مرمى الانتقادات الدولية، فيما تعرض سجلها الحقوقي لانتقادات لاذعة من المنظمات الأممية.. فهل تشهد انفراجة في العهد الجديد؟
قررت انتحر
انا شخص غير مدخن .. خاف يقولون مدمن بعدين ??
انا شخص محافظ ع صلاتي .. خاف يقولون ضعيف الايمان ??
دوافع الانتحار
ضيق المعيشه + تعبت وانا اصبر وماشوف اي بوادر حل حق هالقضيه
اشعر بانني عال على المجتمع وعلى عائلتي #حل_قضيه_البدون_هي_الانتحار
— عقل الكاتب قلمه.忍耐が必要 (@abd282011) December 26, 2020
تفاعل كبير
بحسب نشطاء السوشيال ميديا فإن الشاب البدون والمقيم بمنطقة الصليبية (شرق) حاول إنهاء حياته بإشعال النار في جسده بعد تردي أوضاعه المعيشية في الآونة الأخيرة التي يرجعها إلى وضعيته المجتمعية كونه فاقدًا لهويته الوطنية ولا تعترف به السلطات رغم أنه مولود فوق التراب الكويتي.
ورغم أنه لم يتضح بعد مصير هذا الشاب بعد كلماته المنشورة وما إذا كان على قيد الحياة أو فارقها، فإن خطوته تلك أثارت ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عبر المئات من رواد تويتر عن تضامنهم الكامل مع البدون محملين الحكومة مسؤولية الوضعية الحرجة التي وصلوا إليها بسبب تجاهل قضيتهم.
وبعد ساعات قليلة من التغريدة تصدر وسم “انتحار بدون بالصليبية”، مواقع التواصل الاجتماعي في الكويت، حيث المطالبة بإعادة النظر مرة أخرى في هذا الملف وإنهاء معاناة عشرات الآلاف من ضحايا هذا التعنت الرسمي رغم المناشدات الإنسانية في الداخل والخارج بمنحهم الجنسية حتى إن تم تقييدها بضوابط تحقق للسلطات ضماناتها الأمنية والمجتمعية والسياسية.
التفاعل الكبير على هذا الوسم تضمن بعض أوجه المعاناة التي يتعرض لها أبناء هذه الطائفة التي تعيش في الإمارة الخليجية منذ ما يقرب من نصف قرن تقريبًا، غير أن السلطات الكويتية ترفض الاعتراف بهم وتعرقل أي خطوات من أجل منحهم حق المواطنة، لافتة إلى أن لها ما يبرر موقفها هذا دون طرح تلك التبريرات للمناقشة المجتمعية لبحث مدى أحقيتها في ذلك، مع الوضع في الاعتبار أن صفة البدون تنتقل من الآباء إلى أبنائهم، حتى الذين ولدوا في الكويت.
وتستمر معاناة إخواني البدون ..
و يستمر إهمال المسؤليين للقضية..
صحيح معاناتهم توجع..
بس إهمالكم يوجع أكثر..
أتمنى #رئيس_مجلس_الوزراء يأمر بتشكيل لجنه طارئة لحل الملف بكبره مو بس تحقيق بحالة #انتحار_بدون_بالصليبية pic.twitter.com/pEX5plxLsG
— مع حمد قلم (@7amadQalam) December 27, 2020
عهد جديد وآمال تتجدد
منذ أداء أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الصباح، اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة في 30 من سبتمبر/أيلول الماضي، ليتسلم مهامه الرسمية كأمير للبلاد خلفًا للراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح، وحالة من التفاؤل خيمت على أوساط عديمي الجنسية، أملًا في تحريك المياه الراكدة في هذا الملف الذي بات يمثل تحديًا كبيرًا للسلطات الحاكمة في الإمارة.
ويرجع هذا التفاؤل إلى التصريحات الإيجابية التي صدرت قبل سنوات على لسان أمير البلاد بضرورة إغلاق هذا الملف في أسرع وقت، حيث قال في حديث له في 2003 حين كان نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية، “سيتم بلورة التصورات الخاصة لوضع حلول لهذا القضية خلال الشهر أو الشهرين المقبلين”.
ورغم الجمود الذي رافق تلك التصريحات خلال السنوات الماضية لأسباب مختلفة، فإن البعض يشير إلى احتمالية أن تكون هناك خطوات جادة مع العهد الجديد خاصة أن أمير الكويت لديه رؤية إصلاحية مرنة بنسبة كبيرة تطرح كل الملفات على طاولة النقاش وهو ما يعزز فرص اتخاذ خطوات بناءة بشأن هذه القضية المسببة للصداع للشارع والسلطات على حد سواء.
وأول خطوة يأملها النشطاء لحلحلة هذا الملف تعيين مجلس إدارة جديد للجهاز المركزي لمعالجة أوضاع “البدون” لا سيما بعد الاتهامات التي وجهت له بانتهاك حقوق البدون، ووصل الأمر إلى رفع بعض القانونيين دعاوى قضائية ضد رئيس الجهاز صالح الفضالة والمطالبة بإغلاقه ومحاسبة القائمين عليه.
ومن المفترض أن يعمل هذا الجهاز الذي أُنشئ بمرسوم من أمير البلاد الراحل في 2010 لمدة 5 سنوات، ثم تمَّ تمديده سنة 2015 بمرسوم آخر لمدة سنتين، تبعه عام 2017 مرسوم ثالث لتمديده 3 سنوات، لمعالجة أوضاع البدون، إلا أن أداءه العام لم يرتق لمستوى رضا “عديمي الجنسية” والنشطاء المتعاطفين معهم ممن وصفوا ما يقوم به بالانتهاكات التي تستوجب المحاكمة.
الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان (مؤسسة مجتمعية مستقلة) تصف وضع البدون عبر بيان رسمي لها نشرته على موقعها على “تويتر” في 13 من يوليو/تموز 2019 قائلة إنهم “أكثر سوءًا من ذي قبل بسبب الجهاز المركزي من خلال إجراءاته التعسفية والضغط الممارس على الأغلبية الساحقة من البدون”.
بيان من#الجمعية_الكويتية_لحقوق_الإنسان بشأن اعتقال الناشطين البدون pic.twitter.com/u9pqjcMjvp
— Kuwait Human Rights (@Kuwaithr) July 13, 2019
ويُناقش داخل أروقة مجلس الأمة الكويتي (البرلمان) في دورته الأخيرة “قانون البدون” الذي يسعى لوضع حد نهائي لتلك القضية، إلا أن هناك تعمدًا من بعض النواب لعرقلته وعدم تمريره، وهو الأمر الذي دعا رئيس المجلس مرزوق الغانم، للتعهد بالكشف عن أسماء المتسبيين في تعطيل هذا القانون للرأي العام.
وبين الحين والآخر تشن السلطات الكويتية حملة اعتقالات لبعض البدون، الأمر الذي أثار حفيظة وانتقادات المنظمات الحقوقية الدولية، حيث اعتبرت لين معلوف، مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية، أن مثل هذه الممارسات تؤدي إلى مفاقمة وضع شديد التوتر أصلًا.
وأضافت في منشور على صفحة المنظمة الرسمية على “تويتر” أن: “السلطات باستمرارها في حرمان البدون من الجنسية، تكون قد حرمت هؤلاء المقيمين منذ مدة طويلة من سلسلة من الحقوق الأساسية، بما في ذلك حقهم في الصحة والتعليم والعمل، إذ تستثنيهم، عمليًا، من أن يكونوا جزءًا أساسيًا ومساهمًا في مجتمع كويتي مفعم بالحيوية”.
شنت السلطات في #الكويت حملة قمع ضد محتجين سلميين طالبوا بحقوق عديمي الجنسية المعروفة باسم فئة البدون. ندعو السلطات إلى احترام الحق في حرية التجمع السلمي والتعبير وإلى الإفراج الفوري عن المحتجزين، ما لم يثبت ارتكابهم جريمة جنائية معترف بها. https://t.co/mjthc7uROs
— منظمة العفو الدولية (@AmnestyAR) July 17, 2019
وفي المحصلة ربما تدفع حالتا الانتحار تلك الجميع إلى التحرك لتسليط الأضواء مجددًا حيال هذا الملف تجنبًا لتفاقم الوضع أكثر مما هو عليه، ما قد يترتب عليه جرائم أخرى تضع السلطات الكويتية في مرمى الاتهامات والانتقادات في هذا الوقت الحساس، وهو الرأي الذي يميل إليه سياسيون كويتيون.
يعقد البدون على العهد الجديد آمالًا في إجراء مباحثات سريعة وبناءة خلال الفترة القادمة بين الأطراف الفاعلة في هذا الملف (أمير البلاد ورئيس مجلس الأمة ووزير الخارجية بجانب الجهاز المركزي “لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية”) من أجل إنهاء تلك المعاناة التي يدفع ثمنها أجيال تو الأجيال دون خطوة إيجابية واحدة تعطي الأمل في غد أفضل لعشرات آلاف المواطنين في وطن يتوجس خيفة من الاعتراف بهم.