“عندما يهاجر أحد اليهود، يفقد المغرب مواطنًا لكنه يكسب سفيرًا” مقولة الملك الراحل الحسن الثاني هذه تلخص الدور المهم الذي اطلع به اليهود المغاربة في إغناء الحياة السياسية بالمغرب منذ قرون خلت، حيث دأب سلاطين الدولة المغربية على صناعة نخب يهودية على المقاس عرفوا تحت مسمى “يهود البلاط”، وهم أفراد كانوا ينتمون إلى صفوة الطائفة اليهودية، خدموا كوسطاء بين السلطان والرعية، وبين السلطان المغربي وحكام أوروبا.
مفتاح الخروج من مأزق أيديولوجي
لم يكن هذا التقليد القديم، أي صناعة النخب اليهودية وتمكينهم من السلطات، بدافع الإحسان، لكن السلاطين الذين تعاقبوا على حكم المغرب، خاصة في العهد المريني (بنو مرين سلالة أمازيغية حكمت المغرب بين القرنين 13-15 ميلادي)، رأوا في ذلك ضرورة وحاجة ملحة فيما يتعلق بالمهام الخارجية، وذلك لأن علاقة المغرب مع أوروبا كانت محكومة بعقيدة دار الإسلام ودار الحرب، أي أن الدولة كانت تجد نفسها في مأزق أيديولوجي حينما كان لزامًا التوفيق بين الحرب تحت راية الإسلام وممارسة التجارة مع أوروبا الصليبية.
لم يكن هناك آنذاك إلا حل وحيد للخروج من هذا المأزق، وهو أن يتفادى حكام المغرب المسلمون الاتصال المباشر بحكام أوروبا، ويتم إسناد النصيب الأكبر من النشاط التجاري والدبلوماسي إلى التجار اليهود، ممن كانت تربطهم علاقات وثيقة ببلاطات الحكام في أوربا، فاضطلعوا بمهامهم كسفراء إلى جانب إبرام صفقات تجارية بالوكالة، وأحيانًا أخرى خدموا في إطار مهمات أحيطت بسرية تامة.
لقد تسلق اليهود المغاربة سلم النفوذ داخل البلاط السلطاني، بالنظر إلى الدور الذي لعبوه في رسم المشهد السياسي للأنظمة التي تعاقبت على حكم المغرب، وعلى الرغم من أن نفوذهم كان يتراجع بين عهد وآخر بحكم علاقتهم بالبلاط التي اتسمت بالمد والجزر، فإن اليهود المغاربة كانوا يعيشون عصورًا ذهبيةً لم ينعموا بمثيلها خلال وجودهم في بلدان أخرى، لدرجة أن الأمريكي دانييل شروتر وصف حالهم قائلًا: “لا يوجد في العالم الإسلامي بلد احتل فيه الوسطاء اليهود مكانة جد مهمة، كما هو الشأن في المغرب”، حسب ما ورد في كتابه الشهير “يهودي السلطان”.
أخذ هارون بن بطاش يقبض الضرائب من السكان، وبالغ في ذلك إلى أن استاء أهل فاس من بطشه هو ورفيقه شاويل، فانضم العلماء إلى الغاضبين وتزعموا الثورة
خرق عقد الذمة
لم يكن عقد الذمة يسمح لليهود كأقلية دينية بممارسة السلطة السياسية أو تقلد الوظائف في مكاتب الدولة، لكن موجبات هذا العقد لم تكن قاعدة عامة يتم الامتثال لها، نظرًا لما كان هؤلاء التجار اليهود يوفرونه من أموال دعم تغري الحكام والملوك، بالإضافة إلى الضرائب التي يقدمونها لبيت المال.
إبان العصر المريني صعد اليهود إلى مراكز متقدمة في السلطة وتميزت علاقتهم مع الدولة بكثير من التفاهم والاستقرار، وتم تعيينهم سفراءً للدول الأخرى، وكانوا ينشطون الحركة الدبلوماسية بشكل ملحوظ، فحركوا مختلف الميادين الصناعية التي دفعت التجارة الداخلية أو الخارجية إلى الازدهار.
هارون بن بطاش.. يد السلطان الباطشة
قبيل أفول العهد المريني في القرن الـ15، كان آخر السلاطين عبد الحق الثاني قد فطن مباشرة بعد وصوله إلى سدة الحكم إلى قوة التجار اليهود ورجال دينهم، فاستقوى بهم في الوقت الذي كانت دولته تعيش أيام ضعفها، نظرًا للوضع غير المستقر للمغرب حينها، فلجأ السلطان لليهود بهدف تقوية موقعه، فكان هارون بن بطاش، أبرز التجار اليهود آنذاك ورجل الظل والمستشار الذي يظهر ويختفي في الأزمات.
خرق السلطان المريني عقد الذمة، وعين ابن بطاش في منصب الصدر الأعظم أو ما كان يطلق عليه يومها كبير وزراء السلطان عبد الحق المريني، وعلاوة على ولائه لسيده، ساعد ابن بطاش السلطان في تثبيت حكمه، فقد كان العقل المدبر لمذبحة عام 1458 التي أدت إلى تخلص السلطان عبد الحق من أقربائه الوطاسيين الذين كانوا يزاحمونه على الحكم، وعلى طرف النقيض، استاء الناس من جبروت السلطان الذي بدأ يشتد شيئًا فشيئًا.
لم يكن فقط كبير الوزراء بل حاكمًا على مدينة فاس، في الوقت الذي كان السلطان بمنطقة الشمال، أخذ هارون بن بطاش يقبض الضرائب من السكان، وبالغ في ذلك إلى أن استاء أهل فاس من بطشه هو ورفيقه شاويل، فانضم العلماء إلى الغاضبين وتزعموا الثورة التي اندلعت بعدما قبض ابن بطاش على امرأة شريفة وأوجعها ضربًا.
ثار مجتمع فاس عام 1465 بزعامة خطيب القرويين، وكان اسمه أبو فارس عبد العزيز ابن موسى الورياغلي، فانتهت الثورة بقطع رقبة هارون بن بطاش، إذ كان يعتقد الثوار أن اليهودي هارون هو الحاكم الفعلي الذي يسير شؤون البلاد، وهو من يملي على السلطان أفعاله الشنيعة، كما قتل السلطان عبد الحق ليكون ذلك إعلانًا بنهاية العهد المريني.
لكن الأمور لم تنته مع إعدام ابن بطاش، فقد كانت سلطته نقمة على اليهود، حيث تعرضوا إلى التصفية الجسدية ومصادرة أملاكهم، كما أجبر العديد من رموز اليهود على اعتناق الإسلام في جلسات شبيهة بمحاكم التفتيش، واستمر هذا الاضطهاد إلى عهد محمد الشيخ الوطاسي، أحد الناجين من المذبحة الكبيرة التي نفذها عبد الحق المريني بتخطيط من وزيره.
وضع متقدم ومتميز حظي به أعضاء النخبة اليهودية في بلاط السلاطين المغاربة
يعقوب الروطي.. سفير الثقة إلى لشبونة
في عهد الوطاسيين فتحت المملكة المغربية أبوابها على مصراعيها عام 1492 لأكثر من 30 ألف يهودي طردوا من إسبانيا نتيجة ظلم الملوك الكاثوليك في ذلك الوقت.
اضطلع التاجر اليهودي يعقوب الروطي بدور دبلوماسي بالغ الأهمية، حيث بدأ مترجمًا بمدينة آسفي وانتقل إلى فاس ليسخر حينها جهوده لخدمة الدولة الوطاسية، فأضحى مقربًا من السلطان الوطاسي أحمد بن محمد الثاني.
في صيف عام 1536 كتب يعقوب الروطي رسالة إلى القائد البرتغالي بأصيلة يبلغه بانهزام الجيش الفاسي أمام جيش الشريف السعدي، وهي التطورات التي دفعت السلطان إلى إبرام هدنة مع البرتغاليين خاصة بعد تعرض المناطق الساحلية لغارات متواصلة من السعديين، فبرز دور يعقوب الروطي الذي بُعث سفيرًا بأمر من سيده إلى لشبونة من أجل طلب العون من ملك البرتغال خوان الثالث ضد السعديين.
لم يكن من باب العبث أن وضع السلطان ثقته التامة في سفيره اليهودي، لكنه كان يخشى أن يختار سفيرًا مسلمًا، فيتحالف هذا الأخير مع البرتغاليين وينقلب ضده.
على الرغم من اكتسابه ثقة البرتغاليين لم ينجح يعقوب الروطي دائمًا في مفاوضاته، ومن واقع أن الهدنة مع السعديين والبرتغاليين كانت تشكل تهديدًا ضد استمرار الدولة الوطاسية، أرسل السفير اليهودي إلى أصيلة قصد إفشال مشروع الهدنة بين الشريف السعدي والبرتغال، لكن تفوق السعديين على البرتغاليين أمام تراجع قوة الوطاسيين جعل مهمة يعقوب الروطي تبوء بالفشل الذريع.
وضع متقدم ومتميز حظي به أعضاء النخبة اليهودية في بلاط السلاطين المغاربة، ليس فقط لأنهم أثبتوا ولاءهم وساعدوا الحكام على تثبيت سطوتهم والتصدي للقبائل الأمازيغية المتمردة، أو أن سفاراتهم إلى أوروبا كانت أكثر جدوى من السفراء المسلمين، بل أيضًا باعتبارهم جزءًا من المجتمع اليهودي النافذ ببلاطات الحكام الأوروبيين والمتمركز آنذاك في أهم مواقع التجارة البحرية.