عندما سئل المخرج الإنجليزي العظيم كين لوتش في لقاءٍ له مع Sky News عن أفلام الأبطال الخارقين كان رده قاسيًا، لا يختلف كثيرًا عن رد أقرانه من معلمي فن السينما مارتن سكورسيزي وفرانسس فورد كابولا، فقد قال: “أنا أجدها مملة.. مجرد تسليع، صنعت لتكون سلعة مثل الهامبرغر أو أي كان، حتى تجلب الأرباح لمنتجيها.. ليس لها علاقة بفن السينما، إنها مجرد تمارين/تدريب لسوق المال”.
رد لوتش كان مقتضبًا وخاطفًا لكن لا يجانبه الصواب كثيرًا، فوجود نوع فيلمي مثل أفلام الأبطال الخارقين يدفع عجلة الإنتاج لتدور بشكلٍ ربما ليس مثاليًا بالطبع، لكنه مفيد على عدة أصعدة. نعم، هو محق بشأن المال، فأفلام الأبطال الخارقين جزء كبير منها مجرد تسييل للأموال في دورة لترجع بعائدات مضاعفة، تجارة خالصة، إلا أننا رأينا مشاريع تستحق الاحتفاء، نقلت هذا النوع الفيلمي من سلعة مجوفة، إلى أفلام ذات فلسفة تناقش ثيمات تمس الإنسان في كثير من المناطق، في سياق يتلاعب بين الخير والشر، بحيث يفكك هذه القيم الجاهزة والمستعملة ويسيّلها حتى نصل إلى نقطة لا نعرف فيها ما هو الخير ومن هو الشرير، وعليه لا نستطيع أن نصدر أحكامًا قطعيةً على الشخصيات وندور بعقولنا حول تفسير لهذه الأطروحة أو الفكرة المبهمة، من تلك الأفلام الأيقونية كان فيلم المخرج زاك سنايدر الأفضل “Watchmen ــ المراقبون” وثلاثية المخرج كريستفور نولان عن الرجل الوطواط.
في أغلب الأعمال الفنية، لكي يعطي المخرج قيمة أكبر لعمله الفني، وخصوصًا أفلام الأبطال الخارقين، يقرنها بفكرة أعظم من الحبكة الكلاسيكية عن الخير والشر والثنائية القيمية المعهودة، فتنتقل مركزية الصراع من يد الأبطال الخارقين أنفسهم، إلى غرضٍ أسمى يتماس مع كون المشاهدين بشرًا عاديين.
في فيلم “الأرملة السوداء ــ Black Widow” حاولت المخرجة كيت شورتلاند أن تصنع من بطلة شبه خارقة رمزًا نسويًا يتحقق وجوده بتهميش العنصر الذكوري من الفيلم، في محاولة منها للعب على وترٍ يمس الحياة الاجتماعية في نقطة شديدة الحساسية، وهي مناصرة المرأة وانتشالها من ظل الرجل ككيان مستقل له حق السيطرة على حياته، وانتقاد النظام الأبوي المجحف بحق الأنثى.
والحق أن الفيلم مكتظ بالثيمات والموتيفات التي تثبّت وجود الفكرة إلا أنها وقعت في فخ تسطيح وسذاجة بالغين، ومحاولة خلق أفكار ومشاعر ليست بعيدة فقط عن هذا النوع الفيلمي، بل أعظم وأثقل مما يستطيع فيلم أبطال خارقين يقيم خطه السردي على عدة قتالات وانفجارات أن يتحمله.
والحق أن هذا النوع من المحاولات مجازفة خطيرة، إما أن تفشل فشلًا ذريعًا وإما أن تنجح حد السماء، لكنها هنا سقطت في الهاوية، ولم تعمّق الفيلم وتكسبه نكهة فلسفية تحررية أو ثقل فكري – إنها حتى لم تكن محاولة جدية لتقديم فيلم نسوي – كل ما أعطته للفيلم كان مجرد لحظات ميلودرامية مزيفة، لكن يجب أن ننوه بقيمة أي عمل فني إذا وضع في سياقه الصحيح، سواء التجاري أم الفني.
الأرملة السوداء (Black Widow) كقطعة من سياق منتهٍ
خلقت شخصية الأرملة السوداء Black Widow على يد كاتب القصص المصورة الشهير ستان لي وصديقيه دون ريكو ودون هيك عام 1964، وظهرت لأول مرة في عدد 52 بعنوان Tales of Suspense حكايات تشويقية، ومن تلك النقطة انطلقت شخصية الأرملة السوداء لتكون ركنًا أساسيًا في عالم مارفل.
وخلال الأعوام الكثيرة الماضية، طرأ على الشخصية عدة تعديلات مثل لون شعرها الذي يتغير بين الطويل والقصير وبين اللونين الأصفر والأحمر، والجدير بالذكر أن الأرملة السوداء بدأت كجاسوسة روسية تظهر كغريم للرجل الحديدي.
منذ نحو عشر سنوات أُعلن عن وجود فيلم خاص بشخصية الأرملة السوداء، لكن حالت الأمور دون تنفيذ الفيلم على أرض الواقع، لتنتج الشركة الفيلم بعد نهاية دورها تمامًا من السياق القصصي، بحيث أصبحت قصة الفيلم لا تؤدي إلى الأمام بل للوراء، وهذا يخالف السياق القصصي الخاص بعوالم الأبطال الخارقين، خصوصًا شركة مارفل، التي تصنع شبكة من الأقاصيص الصغيرة توحدها فيما بعد عن طريق جمع نسيج خيوطها المفرّقة لتخرج شيئًا كليًّا يتماس مع جميع العوالم المتفرقة ويحتاج لحشد كل الشخصيات لمواجهة شيء معين.
وخلال رحلة صنع تلك الأقاصيص التي تبدو ضئيلة، تؤسس مارفل لقاعدة جماهيرية كبيرة، وتواصل تغذيتها بأقاصيص أخرى لمدة سنوات، لتحظى في النهاية بالربح المطلوب الذي دائمًا ما كان يفوق التوقعات، وهذا ليس شيئًا غريبًا، فالشركة تطور سرديتها، وتطور معها الجمهور وذائقته، وتربطه بالأبطال فيصبح متعلقًا بهم، ينتظر الجديد بشغف.
لكن هنا الأمر يختلف، فالأرملة السوداء ضحت بنفسها في فيلم Avengers: Endgame عام 2019، وبذلك تكون قد أدت مهمتها في نقل القصة من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، وأغلقت صفحتها منذ عامين تقريبًا.
من المعروف أن عوالم الأبطال الخارقين تلتزم دائمًا بالاتجاه إلى الأمام، حتى تصنع السياق القصصي ـ الزمني المناسب، وهذا لا يحدث في الفيلم لأن فصل القصة التي كانت تشارك فيه الأرملة السوداء، الذي استغرق سنوات، انتهى بالكامل عام 2019، لذا فالفيلم ليس له فائدة على السياق المعرفي، ولم يتم إنتاجه إلا لجني الأرباح وإرضاء قاعدة محبي الشخصية، الذي يراها البعض شخصية استثنائية بالفعل وتتميز بجانب عاطفي كبير يمكن استغلاله لصنع عمل هائل على المستوى الإنساني.
يمكننا القول إن الأرملة السوداء نتاج بروباغندا لها دلالة تاريخية مثل أغلب الأبطال الخارقين الذين خلقوا في لجة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، فالصراع بين الدولتين كان يشمل أغلب الفنون والألعاب، وكانت تلك القصص المصورة ردة فعل للوعي الجمعي الأمريكي في ذلك الوقت.
أن تظهر الأرملة السوداء كامرأة روسية وليست رجلًا، يكشف لنا مدى تغلغل الصراع في المجتمعات، الذي لم يتوقف عند الأماكن المغلقة والاجتماعات السرية والممرات التي كان يتلاقى فيها الجواسيس، بل طغى على كل ما هو شعبوي، ليتحول من صراع يمكن احتواءه إلى هوس اجتماعي بقدرة وعبقرية المواطن الأمريكي ووحشية المواطن الروسي.
الأرملة السوداء.. ماضٍ مكثف وحاضر مكتظ بالفرقعات
ومن هنا استهل الفيلم أحداثه، من الماضي، عام 1995 بولاية أوهايو الأمريكية، تفتتح المخرجة كيت شورتلاند الفيلم بمشهد لطفلتين تلعبان في الحديقة، يتضح أنهما الشقيقتان ناتاشا رومانوف (الممثلة سكارليت جوهانسون) ويلينا بيلوفا (الممثلة فلورنس بيو)، تأخذهما أمهما (الممثلة ريتشل وايز) للمنزل، ليدخل والدهما ويأخذ أمهما من على مائدة الطعام ويخبرها أن الوقت قد حان، ليركبوا سيارة مسرعين، وتبدأ سيارات الشرطة الأمريكية بمطاردتهم، لتنشب معركة بين الشرطة والأب ألكسي (الممثل ديفيد هاربور) الذي تظهر قدراته غير العادية التي تتمكن بفضلها العائلة من الهروب على متن طائرة معدة سابقًا لمثل هذه الظروف الطارئة، وتنقلهم الطائرة إلى كوبا، ليتضح أنهما جاسوسان روسيان متخفيان، ينتظرهم هناك الجنرال دريكوف، الذي يسلم إليه هارد دسك، ويلقي إليه بالفتاتين دون أي شعور بالندم أو تأنيب الضمير.
ويبدأ الفيلم على مدار 3 دقائق في تكثيف قصصي عبر لقطات قصيرة وخاطفة ونغمة أغنية بطيئة تتكشف على ألحانها كيفية تدجين أولئك الفتيات وتعذبيهم بغرض تحويلهم إلى مجرد آلات قتل، وإلى هذه النقطة ينجح الفيلم في تمرير قصصي مميز، ويفلح في تعميق القصة وإعطائها بعدًا إنسانيًا مميزًا بغض النظر عن البروباغندا الأمريكية وما إلى ذلك.
بعد النصف ساعة الأولى، يرجع الفيلم للزمن الحاضر، ويبدأ العالم السردي حرفيًا بالانهيار، حين تحاول ناتاشا الوصول للعقل المدبر الذي يتلاعب بأقدار الكثير من الفتيات حول العالم ويتحكم في مصائرهن، وتبدأ مع رحلة البحث، سلسلة من الانفجارات والفرقعة تحدث كل مشهد أو مشهدين، وفي ذيل تلك الفرقعات متوالية من القتالات تحدث في الكثير من المشاهد داخل الفيلم، ليحدث نوعًا من الفصل بين السرد الجيد والدرامي في النصف ساعة الأولي والحركة والقطعات السريعة بعد ذلك.
يمكن من خلال ذلك تحديد فيلمين داخل فيلم واحد، فيلم قصير بطيء وهادئ لكنه لا يخلو من الإثارة في أول نصف ساعة، وفيلم بطيء حركي مليء بالمؤثرات البصرية وأصوات الفرقعات والطلقات النارية، وعلى الرغم من ذلك تنجح المخرجة كيت شورتلاند في اقتناص بعض اللقطات الدرامية حينما تهدأ الانفجارات، لكن حتى هذه الدراما تتلاحق بنبرة تهكمية كاريكاتورية تفقدها قيمتها.
النسوية وقهر الرجال
يمكن تصنيف فيلم الأرملة السوداء على أنه فيلم نسوي خاضع لكل الثيمات النسوية التي يمكن أن يحتملها فيلم واحد، لدرجة أن هذه الثيمات كانت لتعطي للفيلم قيمةً فنيةً إذا تم اتخاذها كمتوالية من الموتيفات يتم التلاعب بها على إيقاع هادئ، لكن هذا لم يحدث، والفيلم ككل لم يحتمل هذا الكم من التلميحات.
وجدت الثيمات النسوية، بيد أنها تمر مثل سراب لا يخلّف أثرًا في الهواء، لذلك حينما تصنع فيلمًا جيدًا لا يمكنك الاكتفاء باستحضار الثيمات والأدوات الجيدة، بل يجب عليك أن تصنع بها شيئًا أكثر تعقيدًا وأشد تماسكًا من مجرد أشكال هوائية.
ومحاولة المخرجة كيت شورتلاند أن تبقي على هذه الثيمات ظاهرة خلال الفيلم، محاولة مفهومة ومتوقعة، فهي مخرجة واعدة بجانب كونها ذات نزعة نسوية تطبع أفلامها بشكل واضح، تسعى خلالها لمناقشة مشاكل النساء بشكل أكثر جدية، بغض النظر عن تباين الأزمنة ونوعية الحكايات داخل أفلامها، لكنها تملك قدرة فنية جيدة كانت من الممكن أن تطوعها لإبراز مشاكل المرأة بشكل أكثر جديّة وأقل سذاجة، بيد أن منتجي أفلام الأبطال الخارقين يمارسون ضغطًا قويًا على المخرجين.
وعليه، لا يتعاطى المخرج مع الفيلم كعمل فني أصلي يحمل جزءًا من هويته، بل يتعامل – قسرًا – مع العمل الفني كشيء خارجي غريب عنه، وكانت النتيجة فيلمًا لا يلبث منيرًا ثم ينطفئ وسط كثافة القتالات والفرقعات، ولا يحمل شيئًا ذا قيمة للمشاهد.
والحق أن شورتلاند حاولت إضفاء بعض من لمساتها خلال الفيلم، لتقطع مشاهد العنف والمطاردات الطويلة، وتعطي القصة قدرًا من الجديّة، وهذا يظهر في عدة لقطات، منها لقطة المرآة التي تعكس فيها سكارليت جوهانسون نفسها، ومشد السيارة بين الأختين، وبعض المشاهد التي تساهم في تقديم الأسرة كملاذ حارس وعلاقة مقدسة، ومحاولة حشر الكوميديا بشكل يضفي نوعًا من الحميمية بين علاقة الأب وابنتيه، وعلى النقيض تنكّل في بعض المشاهد بالنظام الأبوي الشمولي.
بجانب مشاهد أخرى تظهر فيها النساء كأدوات ليس لها قيمة، تتعرض للتدجين وينزع عنها هويتها وحتى قدرتها على التكاثر لتخدم كآلة قتل مثالية، لتجعل مهمّة الأرملة السوداء – التي من المفترض أنها كانت واحدة من تلك الأدوات – إنقاذهم ورد حريتهم، لتصنع منها شيئًا مثاليًا وسط الكثير من العبث والقتل والشر الذكوري المطلق.
لكن رغم اللقطات التي حاولت فيها المخرجة أن تنزع عن الأرملة السوداء عباءة القداسة والمثالية، بيد أنها لم تظهر وسط حشد هائل من الفرقعات والحركة الخفاقة، وذابت في لجة بحرٍ من المؤثرات الحركية التي تصنع من الفيلم شيئًا يشبه مشهد مطاردة طويل لكنه ليس مملًا في نهاية الأمر، فهو أشبه بشيء مقولب، يسير بالكود الأخلاقي المنصوص عليه ولا يحيد عنه حتى من أجل صنع الدراما، لذلك يبدو مزيفًا حتى إذا اعتبر فيلمًا نسويًا، ولا يملك أي نوع من الذاتية أو الأسلوب المتفرد، لا يملك حتى رفاهية أن يؤخذ على محمل الجد منذ بداية الأمر.
كان من الأفضل اختيار قصة أو حكاية أفضل من تلك الأقصوصة الباهتة والمفتعلة، فالقصص المصورة تكتظ بحكايات للأرملة السوداء أفضل من تلك الفرقعات والمؤثرات البصرية السيئة، لكنهم رضوا بحكاية شاحبة واكتفوا بتسكين الثيمات النسوية كأنها طفحٌ جلدي.