في الوقت الذي أعلنت فيه دول أوروبا (الغنية) حالة الطوارئ القصوى، مغلقة الأبواب كافة، الرسمية وغير الرسمية، أمام اللاجئين الأفغان في أعقاب الانسحاب الأمريكي من البلاد وسيطرة حركة طالبان على المشهد، إذ ببعض الدول الإفريقية (الفقيرة) تبدي ترحيبها باستضافة بعض من هؤلاء الفارين، في مقارنة أثارت الكثير من السخرية والجدل في آن واحد.
الموقف قد يكون منذ الوهلة الأولى صادمًا ومستغربًا، لكنه لم يكن مفاجئًا، كونه يتسق مع الشواهد التاريخية المتعددة التي تكشف أن بلدان إفريقيا تستقبل بالفعل أكثر من 26% من عدد اللاجئين في العالم، معظمهم من دول مجاورة، وبعضهم قد امتدت فترات إقامته لسنوات طويلة، كما هو حال البورنديين الذين يعيشون في تنزانيا منذ فرارهم من الحرب الأهلية في بلادهم في تسعينيات القرن الماضي.
احتضان تلك البلدان للاجئي دول الجوار ربما يُقرأ في إطار أخلاقي أو مجتمعي يُمرر هذا الوجود عقليًا، غير أن الحالة الأفغانية بسرديتها المعقدة وما تحمله من تخوفات قد تكون الاستثناء الذي يجب التوقف حياله، خاصة أن معظم الدول التي أعلنت موافقتها المبدئية في استضافة الأفغان تعاني من واقع معيشي متدنٍ، كان سببًا في تأجيج الشارع ضد حكوماتها طيلة السنوات الماضية.
وتشير التقديرات الأممية إلى أن ثمة نحو 2.2 مليون لاجئ أفغاني في دول الجوار، بخلاف 3.5 مليون شخص داخل أفغانستان يعيشون دون مأوى، يُضافون إلى قرابة 5 ملايين أفغاني كانوا قدا غادروا بلادهم، فيما تتوقع الحسابات الأولية لمفوضية شؤون اللاجئين أن ما يقرب من 2 – 5 ملايين أفغاني ربما يغادرون وطنهم خلال الـ12 شهرًا القادمة، بينما يُقدر حجم المعارضة لطالبان بما يقارب 14 مليون مواطن، أي ما يزيد على ثلث سكان البلاد، الأمر الذي أثار مخاوف العالم الذي يعاني حتى اليوم من تبعات موجات الهجرة واللجوء المتتالية خلال العقد الأخير تحديدًا.
إفريقيا ترحب بالأفغان
في 17 من أغسطس/آب الماضي أعلنت أوغندا من خلال بيان صادر عن وزارة خارجيتها نيتها استقبال نحو ألفي لاجئ أفغاني ممن فروا من البلاد، وذلك بناء على طلب من الولايات المتحدة، فيما أكد الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني موافقته بصورة شخصية على الطلب، لافتًا إلى وجود مشاورات حاليّة مع واشنطن في هذا الإطار.
وتتصدر أوغندا قائمة دول القارة استضافة للاجئين، إذ تحتل المركز الرابع عالميًا في عدد المقيمين فوق ترابها من أصحاب الجنسيات المختلفة، الغالبية العظمى منهم من أبناء القارة، خاصة جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي.
تحرك كل دولة في هذا المسار يحكمه عدة أمور ترسم بشكل واضح الهدف الأساسي من وراء تلك الخطوة التي لا تتناسب مطلقًا مع إمكانات تلك الدول التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة لا تسعفها في احتضان تلك الأعداد أيًا كان حجمها
ولأوغندا تاريخ طويل في استضافة اللاجئين، منذ أربعينيات القرن الماضي حين استضافت العشرات من البولنديين الفارين من الاحتلال النازي، ثم رحبت بالكونغوليين والإثيوبيين والإريتريين والروانديين، ويشتهر هذا البلد بمنحه للاجئين مزايا لم تمنحها دولة أخرى كالتعليم المجاني وملكية الأراضي وكل الحقوق الممنوحة لمواطنيها.
وفي 28 من نفس الشهر، رحبت أرض الصومال “صوماليلاند” باستضافة لاجئين أفغان، فقد أشار مسؤول بوزارة الخارجية الصومالية إلى وجود مشاورات مع واشنطن لبحث هذا الملف، مؤكدًا “نقبل من حيث المبدأ استقبال لاجئين لفترة انتقالية”، دون تحديد أي تفاصيل بشأن الإجراءات الفنية ومواعيد الوصول وكيفية المعايشة.
اللافت أنه رغم معاناة سكان أرض الصومال من الأوضاع المأساوية الداخلية خلال العقود الماضية، لا سيما ما سُمي إعلاميًا بـ”محرقة هرجيسا” حين دمر أكثر من 90% من عاصمة البلاد وسقط ما يقرب من 200000 شخص بين عامي 1987 و1989، فإن الحكومة أعلنت هذا الموقف الذي يتعارض شكلًا ومضمونًا مع إمكانات البلاد وقدراتها الاقتصادية والأمنية.
وانضم السودان (الغارق في مستنقع الفقر والديون والأزمات الداخلية) لقائمة الدول المرحبة باستضافة أفغان لديها، ففي 3 من سبتمبر/أيلول الحاليّ أعلنت الحكومة السودانية المؤقتة موقفها النهائي من استضافة لاجئين أفغان في البلاد، وذلك بعد بحث ودراسة جميع الجوانب المتعلقة بهذا الشأن، فقد قال وزير الدفاع إبراهيم ياسين، حسب بيان صادر من مجلس الأمن والدفاع الوطني: “المجلس ناقش موضوع استضافة مجموعة محدودة من الجنسيات الأفغانية في البلاد ولفترة معلومة”، مضيفًا “المجلس أبدى موافقته المبدئية استجابة للنداء الإنساني مع إخضاع الأمر لمزيد من الترتيبات والإجراءات التي تحفظ الحقوق”.
وفي الجهة الأخرى هناك عدد من الدول لم تحسم موقفها بعد إزاء الطرح الأمريكي المقدم لدول العالم باستضافة أعداد من الأفغان الفارين من طالبان، غير أن دول أخرى رفضت المقترح بشكل رسمي كما هو حال جنوب إفريقيا التي أعلنت على لسان المتحدث باسم إدارة العلاقات الدولية والتعاون بالبلاد أن “الحكومة ليست في وضع يمكّنها من تلبية مثل هذا الطلب وأن البلاد بها عدد كبير من اللاجئين ومشغولة بتلبية احتياجاتهم”.
الاعتبارات الإنسانية ليست كل شيء
رغم أن السبب المعلن ظاهرًا لترحيب تلك الدول باستضافة اللاجئين بصفة عامة يتمحور حول البعد الإنساني وفتح متنفس أمام الفارين من ويلات الحروب والأزمات والاستهداف الممنهج، لا سيما أن معظم تلك الدول عانت طويلًا من ويلات الاستعمار والتهميش والتداعيات الاقتصادية والمعيشية الكارثية للأزمات التي تعرضت لها سابقًا، فإن هذا البعد ليس الوحيد لا سيما فيما يتعلق بالحالة الأفغانية الراهنة.
الباحثان في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) (مؤسسة بحثية تعني بقضايا السياسة الدولية مقرها واشنطن) جود ديفيرمونت، مدير برنامج إفريقيا في المركز، وإرول يايبوك، زميل أول في برنامج الأمن الدولي، استعرضا في تحليل لهما، نشره المركز، مساعي الدول المستضيفة للأفغان لانتزاع تنازلات جيوسياسية من المجتمع الدولي.
العرض المغري لتلك الدول الإفريقية لا شك أنه سيزيل عبئًا كبيرًا من على كاهل أورويا والولايات المتحدة على حد سواء، وهو ما دفع البعض لضرورة إسراع حكومات الغرب لتقديم يد العون والمساعدة لتلك الدول
المركز أشار إلى أن تحرك كل دولة في هذا المسار يحكمه عدة أمور ترسم بشكل واضح الهدف الأساسي من وراء تلك الخطوة التي لا تتناسب مطلقًا مع إمكانات تلك الدول التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة لا تسعفها في احتضان تلك الأعداد أيًا كان حجمها، فضلًا عما يمكن حودثه من إشعال الموقف داخليًا من خلال استثارة غضب شعوبها الناقمة على وضعها المتدني.
البعد الاقتصادي كان حاضرًا بقوة في توجهات الدول الراغبة في فتح حدودها أمام الفارين من ويلات الحروب والأزمات والتحديات، فاستضافة اللاجئين باب كبير للحصول على المساعدات الدولية، وتشير التقديرات بحسب المركز الأمريكي إلى أن تلك المساعدات كانت أحد أضلاع الاقتصاد الأوغندي والرواندي على حد سواء، كونهما البلدين الأكثر حصولًا على هذه النوعية من المساعدات الأجنبية، بحكم استضافتهما للعدد الأكبر من اللاجئين في القارة.
لكن هذا البعد ليس الوحيد مع نظيره الإنساني في تبني هذا التوجه، إذ يواجه البلدان (أوغندا ورواندا) انتقادات دولية متزايدة بسبب ملفهما الحقوقي المشين، فكلا البلدين يُتهم بالنزوح عن المسار الديمقراطي وتعزيز أنظمة الحكم الديكتاتورية، الأمر الذي يجعل من ملف اللاجئين ورقة ضغط جيدة يمكن استخدامها بين الحين والآخر، ومن ثم فإن هذه الخطوة ربما تكون لتحسين تلك الصورة المشوهة، وتلطيف الأجواء مع المجتمع الدولي بما يثنيه عن فرض أي عقوبات أو إجراءات عقابية حيالهما.
أما السودان وأرض الصومال فلديهما حسابات مختلفة نسبيًا عن رواندا وأوغندا، وإن كانت تدور في نفس الإطار، الحصول على مكاسب جيوسياسية من المجتمع الدولي، ففي الحالة السودانية تسعى الحكومة المدنية للحصول على الدعم الأمريكي والدولي لتمرير عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد بشكل سلسل، خشية انقلاب المكون العسكري على الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019، التي بمقتضاها تؤول رئاسة المجلس الانتقالي للمدنيين في نوفمبر/تشرين الثاني القادم بعد انتهاء ولاية العسكر.
كما يحاول هذا البلد الإفريقي إعادة تأهيل سمعته كدولة ظلت لسنوات طويلة منبوذة دوليًا لعدة اعتبارات تتعلق بديكتاتورية الحكم والشروخات التي يعاني منها جدارها الحقوقي، وعليه اتخذت بعض الإجراءات لتحسين تلك الصورة كحظر تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وإلغاء عقوبة الإعدام كردة، كما وافقت على تسوية دعاوى ضحايا الهجمات على سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا والسفارة الأمريكية كول قبالة سواحل اليمن.
هذا بخلاف قرار التطبيع مع دولة الاحتلال بداية العام الحاليّ، وهي الخطوة التي تستهدف مغازلة المجتمع الدولي لا سيما الولايات المتحدة على وجه الخصوص، للحصول على بعض المكاسب السياسية والاقتصادية التي على رأسها رفع اسم البلاد من قوائم الإرهاب، حتى لو كان ذلك على حساب المرتكزات القومية والوطنية التاريخية للبلاد.
ومن السودان المنهك اقتصاديًا إلى أرض الصومال، تلك الدولة التي أعلنت استقلالها عام 1991، وتعاني أزمة الشرعية الدولية، فتحاول قدر الإمكان من خلال تلك الخطوة تقديم أوراق اعتمادها للمجتمع الدولي كدولة معتبرة لها حضور إقليمي مؤثر، على أمل الحصول على اعتراف دولي بها، وهو ما أقره وزير خارجيتها حين أشار إلى أن استضافة اللاجئين يظهر أن أرض الصومال دولة ذات مصداقية ولها مصلحة في الشؤون الدولية.
العرض المغري لتلك الدول الإفريقية لا شك أنه سيزيل عبئًا كبيرًا من على كاهل أوروبا والولايات المتحدة على حد سواء، وهو ما دفع البعض لضرورة إسراع حكومات الغرب لتقديم يد العون والمساعدة لتلك الدول التي أبدت رغبتها في استضافة اللاجئين الأفغان، حتى إن تطلب الأمر حصولها على بعض التنازلات الجيوسياسية، فهل تحقق حكومات القارة باللاجئين ما لم تحققه بالسياسة والعلاقات الدولية؟