رغم ما تمتلكه من إمكانات وثروات طبيعية وبشرية، إلا أن المناطق الحدودية المغاربية تعيشُ تهميشًا وحرمانًا كبيرَين من المخصَّصات العادلة للتنمية في جميع المجالات، سواء في البنية التحتية أو التعليم أو الصحّة أو تطوير وسائل الإنتاج، وذلك لأسباب تاريخية وأخرى سياسية ناتجة عن طبيعة الأنظمة والمنوال الاقتصادي.
حدود المغرب
يرسم الجغرافي الأندلسي الكبير أبو عبيد البكري (487هـ) حدودَ بلاد المغرب على طريقة ابن واضح اليعقوبي وابن الحوقل في حديثه عن أفريقيا، بالقول: “وحدُّ إفريقية طولها من برقة شرقًا إلى طنجة الخضراء غربًا، واسم طنجة موريتانية وعرضها من البحر إلى الرمال التي هي أول بلاد السودان، وهي جبال ورمال عظيمة متّصلة من الغرب إلى الشرق”.
من جانبه، أشار الجغرافي ياقوت الحموي (626هـ) إلى امتداد أفريقيا والمغرب، وأوضح في مادة البربر أنّ “البربر هو اسم يشتمل قبائل كثيرة في جبال المغرب، أولها برقة ثم إلى آخر المغرب والبحر المحيط وفي الجنوب إلى بلاد السودان، وهم أمم وقبائل لا تحصى ينسب كل موضع إلى القبيلة التي تنزله، ويقال لمجموع بلادهم بلاد البربر”.
ذهبَ القزويني (682هـ) بدوره إلى التحديد نفسه كسابقَيه، وأشار إلى أنّ بلاد المغرب هي “بلاد واسعة من برقة إلى آخر بلاد المغرب والبحر المحيط، سكانها أمة عظيمة”، وكذلك أوضح المراكشي باعتباره أن أول بلاد المغرب ممّا على ساحل البحر الرومي مدينة إنطابلس المعروفة ببرقة، وآخرها ممّا على ساحل البحر الأعظم مدينة طنجة، ومسافة ما بين ذلك على التقريب 96 مرحلة.
هذا ماتم ذكره عن بلاد المغرب قبل ٧٥٠ عاماً كتاب اثار البلاد واخبار العباد
.
لـ الإمام العالم زكريا بن محمد القزويني
#اعتدا_مغاربه_علي_مبتعث_سعودي pic.twitter.com/MMTpMVG0Ar
— ماجد (@Majnoonha888) July 26, 2018
حواضن اقتصادية وثقافية
تاريخيًّا، شكّلت الحدود المفتوحة في بلاد المغرب العربي فرصةً لتطوُّر التجارة ونمائها بين مختلف الأقاليم، حيث كانت السِّلَع والبضائع تنتقلُ بيُسر في هذا المجال الجغرافي الواسع، دون أي عوائق مدفوعة بشبكة مسالك وطُرُق برّية وبحرية خفّفت من صعوبة التكامل بين المناطق الداخلية والساحلية وأخرى صحراوية غير معزولة.
الطُّرُق البرّية التي سهّلت حركة التجارة في المغرب العربي خاصة وشمال أفريقيا عامة، ساهمت في تشكُّل حواضن اقتصادية وانتعاش المدن الحدودية التي باتَت مراكز التقاء وترابُط كبرى، فالطريق الرئيسي كان يبدأ من القيروان (تونس) وينقسم إلى 3 فروع تلتقي عند المسيلة (الجزائر) التي أُنشئت بفضل الحركة التجارية وازدهارها.
أما الفرع الذي ينتهي في تيهرت الجزائر، فهو يجتاز مرماجنة، وهي قرية من محافظة القصرين التونسية الواقعة على الحدود مع الجزائر وتُعدّ أول مفترق طرق، إذ يتفرّع منها طريقان، واحد باتجاه شمال غرب في ناحية تيجس (عين البرج) في الجزائر والآخر باتجاه الغرب في ناحية مسكيانة ثم باغاي (خنشلة الجزائرية) وصولًا إلى فاس المغربية.
أما الطريق البرّي الثاني، الذي يربط أفريقيا بالمغرب الأقصى، فإنه يسير بمناطق الواحات المغربية وبلاد الجريد، التي أصبحت حلقة اتصال بين أجزاء المغرب المختلفة، وسارت عبرها القوافل التجارية، ويبدأ من القيروان عبر مناطق بلاد الجريد، ثم إلى تيهرت ومنها إلى سجلماسة، مارًّا بأهمِّ المراكز التجارية وهي سماطة من أرض نفزاوة، ونفطة ثم قسيطيلية ومدينة قفصة.
أما الطُّرُق الفرعية التي تربط مدينة بأخرى فنجدها كثيفة في أفريقيا، وبخاصة عند مدينة القيروان بوصفها مركزًا تجاريًّا مهمًّا، إذ ارتبطت بطرق تجارية مع مدينة قابس وطرابلس، كما أنها ترتبط بطريق تجاري آخر مع تونس وطريق آخر إلى جزائر بني مزغنة.
هذه الطُّرُق سهّلت الوصول إلى الأسواق التي تُعتبر عصب الحياة الاقتصادية في المجتمع المغربي، فانتشرت الأسواق بأنواعها الدائمة والأسبوعية والموسمية (الدينية) في المناطق الحدودية، كسوق الأربعاء (محافظة جندوبة التونسية) وسوق الثلاثاء بتلمسان الجزائرية وأسواق أهراس وساقية سيدي يوسف، ما ساهم أيضًا في ترسيخ الانفتاح الاجتماعي والثقافي بين هذه المجتمعات.
إلى جانب دفع الحدود المفتوحة لحركة الاقتصاد إلى التطور والتبادل التجاري إلى الازدهار، كان للطرقات والمسالك والحدود أثر بالغ في تعزيز الانفتاح الثقافي والحضاري والاجتماعي بفضل التجمعات في الأسواق والمناسبات الدينية، ما سهّلَ حركة سفر العلماء والجغرافيين والأدباء وانتقالهم من مجال إلى آخر دون قيود أو حواجز.
في السياق ذاته، مثّلت هجرة العلماء والطلبة وتنقُّلهم نموذجًا حيًّا على هذا الانفتاح، حيث ساهمت الرحلات العلمية في تبادل المعارف والعلوم بين الأقطار وحواضر بلاد المغرب وانتشار وتوسُّع المراكز الثقافية، وفسح المجال لإرساء ثقافة قوامها الوحدة الدينية المذهبية وتقارب مناهج التعليم والثقافة والعادات والتقاليد وفنون الحياة الأخرى.
هذه الحدود كانت أيضًا نقطة التقاء لقوافل الحجيج المتّجهة إلى بيت الله الحرام، ما سهّلَ عملية التواصل الثقافي بين حجّاج المغرب والجزائر وتونس وليبيا مع الأجناس الأخرى.
صورة من الجو لحجاج من دول المغرب الاسلامي و مصر بالقرب من قرية في الحجاز خلال توجههم للحج، حينما كنا أمة واحدة لا حدود ولا أسلاك شائكة بين شعوبها، قبل اتفاقية سايس بيكو الملعونة!! pic.twitter.com/BFZDlxeYUW
— Dr.amira aboelfetouh (@amiraaboelfetou) July 31, 2020
نزاعات حدودية
تشكُّل الكيانات السياسية في شمال أفريقيا بعد توحُّدها في منطقة تحت مسمّى المغرب الإسلامي، أدّى إلى التجزُّؤ وظهور دول جديدة وإعادة الفصل بين الأجزاء الجغرافية التي مثّلت الشكل الأولي للوضع السياسي الحالي (تونس والجزائر والمغرب)، ما أنتجَ بدوره صراعات ونزاعات حول الحدود.
على الجانب ذاته، رغم حرص الاستعمار على استثمار الحدود في مدّ نفوذه، وتوسُّعه في شمال أفريقيا وإحكام سيطرته عن طريق شبكات نقل برّي وحديدي تربط تونس بالجزائر وكذلك المغرب، إلا أنه بخروجه ورّث الأنظمة القائمة نزاعات حدودية وإقليمية.
أثّرت هذه النزاعات على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة إلى الآن، فالصراع حول الصحراء الغربية بدأ بدفاع الجزائر عن حدودها كما تركها الاستعمار الفرنسي، في مقابل المغرب الذي طالب بحدوده كما كانت قبل مجيء هذا الاحتلال، والتي تمثّل معاهدة لالة مغنية 18 مارس/ آذار 1845 إطارًا مرجعيًّا لها، وهي المعاهدة التي وقّعها المغرب مع فرنسا بعد هزيمته بمعركة إيسلي في 14 أغسطس/ آب 1844 بسبب دعمه لثورة الأمير عبد القادر الجزائري.
في تلك المعاهدة تمَّ النص على استمرارية الحدود التي كانت بين المغرب وتركيا لتصبح هي الحدود بين المغرب والجزائر، إلا أن الاتفاقية أبقَت منطقة الصحراء الشرقية في الجنوب (أي منطقة تيندوف) في وضعية غامضة، وبعد حصول الجزائر على استقلالها في يوليو/ تموز 1962 تجدّدَ طرح إشكال الحدود والمواجهات العسكرية بين البلدَين عُرفت بحرب الرمال في أكتوبر/ تشرين الأول 1963.
كما نشبَ خلاف بين تونس والجزائر حول تبعية النقطة 233 الحدودية بين البلدَين، وطالبَت تونس بالمنطقة بعد استقلال الدولتَين عن المستعمر الفرنسي على اعتبار أنها كانت جزءًا من الأراضي التونسية قبل الاستعمار، لكن الجزائريين تمسّكوا بالنقطة الحدودية، لينتهي هذا النزاع بإقرار تونس زمن الرئيس الحبيب بورقيبة بأن النقطة 233 جزائرية، لكن مع استغلال المنطقة بشكل مشترَك من الطرفَين.
بدورها، فجّرت منطقة الجرف القارّي الحدودية بين ليبيا وتونس نزاعًا معقّدًا، لكن دون الوصول إلى الصراع المسلَّح، ومع ذلك لجأت تونس إلى محكمة العدل الدولية نهاية سبعينيات القرن الماضي من أجل البتّ في السيادة على المنطقة التي تحتوي على آبار نفطية، ورغم خسارة الدعوى إلا أن البلدَين اتفقا عام 1988 على إنشاء شركة للنفط مشترَكة بينهما لتقاسُم خيرات المنطقة.
الاندماج والعسكرة
منذ منتصف السبعينيات ظلَّ المغرب والجزائر محصورَين في عالم خاسر، حيث عرقل تنافسهما الشديد حول الهيمنة الإقليمية والعداء المرير حول الصحراء الغربية، التقدُّمَ في العديد من القضايا وأهمها التنمية والتعاون الإقليمي، بل وصل الأمر إلى إغلاق الحدود بينهما في أعقاب تفجير فندق بمدينة مراكش عام 1994.
الأمر ذاته ينطبق على تونس وليبيا، فالعلاقات بينهما لم تكن على ما يرام منذ عام 1974، تاريخ توقيع اتفاق وحدة اندماجية بين الطرفَين التي سرعان ما تنصّلت منها تونس، لتبرز خلافات واسعة مع العقيد الليبي الراحل القذافي الذي وُجِّهت إليه أصابع الاتهام بالوقوف وراء أحداث قفصة عام 1980.
بعد تلك الحقبة، ضيّعت الأنظمة فرصة تفعيل اتحاد دول المغرب العربي (عام 1989) وآليات الاندماج الاجتماعي والاقتصادي بما يُتيح خلق تكامل على كل المستويات، وعادت الحدود للإغلاق المستمر في وجه المواطنين بسبب صراعات وخلافات أصحاب القرار.
كنتيجة لهذا الوضع، تُعاني المناطق الحدودية في المغرب العربي من التهميش المركَّب القائم على التباعد التراكمي (الثروة) والمكاني (المركزية) والإقليمي (الانفتاح)، ما عمّق حالة الحرمان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وذلك في ظل غياب خطط التوزيع العادل والمتكافئ للثورة والتنمية.
من ليبيا إلى حدود موريتانيا، تعجز المناطق الحدودية بعد أن كانت فيما مضى محطات ترابط اقتصادي وثقافي، عن تحقيق القيمة المضافة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، نظرًا إلى عدم امتلاكها القدرة على إنتاج السلع والخدمات وإيجاد فرص عمل، ولعدم توفر الثروة القابعة في حواضنها المركزية.
التباعد في النطاق الجغراقتصادي في سياسات الدول المتّبعة وخططها التنموية القائمة على المركز والساحل، أدّى إلى تهميش البنية التحتية في المناطق الحدودية، وغياب المرافق الأساسية كالصحّة والتعليم ونقص في الوظائف، ما تسبّب في ارتفاع نسب البطالة والفقر والتخلُّف.
ونتيجةً لذلك، ضربَ التهريب جذوره العميقة في المناطق الحدودية، حيث تمثِّل التجارة أكبر قطاع مشغِّل في المحافظات الحدودية (تونس-الجزائر، تونس-ليبيا، المغرب-الجزائر)، وتُعتبر المصدر الرئيسي للعيش في تلك الربوع المنسية.
إلى حد الآن تنظر الدول المغاربية إلى التهريب على أنّه صمّام أمان يخفّف بعض الضغوط الاقتصادية التي يشعر بها سكّان الأقاليم المهمَلة، ويعزِّز جهود الأجهزة الأمنية لإبعاد التهديد الثلاثي للمخدرات والأسلحة والجهاديين.
لذلك سمحت هذه الدول ضمنيًّا بتوليد المداخيل في الأراضي الحدودية، حيث ساهمت تجارة البنزين أو المواد الغذائية أو الأقمشة أو الأجهزة الإلكترونية المهرَّبة في تأمين الوظائف، وأتاحت الحركة الاجتماعية، وخفّضت من كلفة المعيشة في المجتمعات الحدودية.
المفارقة الكبيرة هنا تكمن في أن السلطات التي ترى في الأنشطة غير المشروعة على طول الحدود حصنًا يحميها من الجريمة المنظمة والإرهابيين، تعملُ على عسكرة تلك المناطق ومحاصرتها بالجدران العازلة (جداران بين المغرب والجزائر) والخنادق المائية (تونس وليبيا)، ما يعني مزيدًا من التخلُّف والتهميش وعدم المساواة.
Tunisia completes construction of 200km barrier along its border with Libya https://t.co/NyKA2jeD6O pic.twitter.com/JKaoCMbyMW
— Al Jazeera Breaking News (@AJENews) February 8, 2016
والحال أنّ تقوية قدرات الدول على فرض سيطرتها على كامل أراضيها، مرتبط أساسًا بتحسين التعاون الإقليمي وتعزيز التكامل الاقتصادي القائم على الاستثمار في المناطق المعزولة، فهي الحلقة الأقوى لمعالجة انعدام الأمن على طول الحدود المغاربية، فمنع التهريب المعيشي في غياب بدائل تخفِّف وطأة تداعياته الاقتصادية من الناحية الاجتماعية قد يكون قاسيًا جدًّا.
فالمقاربة الأمنية لا يمكنها بأيّ حال من الأحوال أن تكون بديلًا لمعالجة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء تهميش المجتمعات الحدودية، وبالتالي إن استمرار الأنظمة المغاربية على هذا النهج سيعمِّق انفصال المواطنين المعادين للسلطة عن الدولة ومجالها الترابي.
حلول
– إرساء سياسات تنموية مشتركة وشاملة ترتكز على الاستثمار في رأس المال البشري كرافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
– إرساء أُسُس نمو مدمج ومستدام يشمل المناطق الحدودية.
– تبسيط الإجراءات وتحفيز الشركات على الانتصاب والتوسُّع في تلك المناطق.
– التركيز على المسالك البرّية في التجارة البينية.
– تطوير البنية التحتية ومدّ الطرقات لربط الشبكة بين الدول لتسهيل تنقُّل الأشخاص والبضائع.
– عودة قطار المغرب العربي على اعتبار مساهمته في دفع التجارة والتنمية في المناطق التي يمرُّ بها.
– إعادة تهيئة البوابات والمنافذ الحدودية وتعصيرها.
– تشجيع السياحة في المجال المغاربي.
تجارب مقارنة
على خلاف الوضع في شمال أفريقيا وأغلب التكتُّلات العربية الأخرى، صوّت أعلى جهاز تشريعي في الصين، مؤخرًا، لتبنّي قانون جديد حول حماية واستغلال المناطق الحدودية البرّية للبلاد، حيث سيدخل القانون الجديد حيّز التنفيذ والتطبيق اعتبارًا من أول يناير/ كانون الثاني 2022.
ينصُّ القانون الجديد أيضًا على وجوب أن تتّخذ الدولة تدابير لتقوية الدفاع عن الحدود، ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى جانب الانفتاح في المناطق الحدودية، وتحسين الخدمات العامة والبنى التحتية في هذه المناطق، وتشجيع الناس ودعمهم للعيش والعمل هناك، وتعزيز التنسيق بين الدفاع عن الحدود والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق الحدودية.
موضوعيًّا، لا تملكُ دول المغرب العربي أي فرصة حقيقية في الوقت الراهن لوقف منسوب التوتر والتصعيد بين الأنظمة القائمة والمتنافرة أيديولوجيًّا على مستوى الفلسفة السياسية، لكن إعادة الروح والاعتبار لمشروع الاتحاد عبر إحداث ديناميكية تُعزِّز ربط التاريخ وأواصره الثقافية والاجتماعية بخلق الثروة والتنمية، قد تصنعُ أفقًا واعدًا لمنطقة قادرة على الإقلاع والتقدُّم.