أثارت الدعوة المتجدّدة للرئيس التونسي قيس سعيّد بـ”التقشف” بعد مطالبته بترشيد نفقات الدولة والحد من الاستيراد جدلًا واسعًا في تونس، وذلك تزامنًا مع ركود اقتصادي وضعف أداء رافعات الإنتاج، خاصة أنّ الدعوة تحمل تناقضًا كبيرًا مع وعوده السابقة بتحسين معيشة المواطنين وتعزيز مقومات الرفاهية.
في هذا التقرير سنبحث في أسباب خطوة سعيد الأخيرة لمواجهة الأزمة المالية وتداعياتها على الجانب الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى الجدوى من سياسة التقشف في الحالة التونسية والتي ستعتمدها لاحقًا الحكومة “بودن”.
التقشف والأزمة
خلال استقباله لرئيسة الوزراء نجلاء بودن، دعا الرئيس التونسي قيس سعيد حكومة بلاده المشكلة حديثًا إلى التقشف في المال العام، مؤكّدًا على ضرورة “التعويل على القدرات الوطنية قبل البحث عن الموارد بالخارج”.
اللقاء، تناول بحسب بيان الرئاسة، “جملة من المسائل التي تتعلّق بالشأن العام، وخاصة تلك المتصلة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية”، كما أشار إلى أنّ الرئيس شدّد على “ضرورة أن يشعر جميع المواطنين بأنهم معنيون بالسياسات التي تنتهجها الدولة”.
تعيش تونس على وقع أزمة اقتصادية بالغة التعقيد في ظل ارتفاع المديونية والأسعار والنقص الحاد في السيولة ما أضاف صعوبات كبيرة أمام تمويل الموازنة فيما تبقى من عام 2021، والأسوأ من ذلك أنّ هامش التحرك بات ضيقًا في السوق المالية الدولية بعد قرار وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني، تخفيض التصنيف السيادي لتونس من B2 إلى Caa1، مع نظرة مستقبلية سلبية.
وكالة موديز للتصنيف السيادي تخفّض تصنيف #تونس وتضيء منبّه المخاطر الائتمانية #العربي_اليوم pic.twitter.com/H5m8zl3Sae
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) October 16, 2021
عجز الميزانية في تونس بلغ 2.63 مليار دينار (947.1 مليون دولار) في الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، وبحسب تقرير لوزارة الاقتصاد والمالية، يتوقع أن يبلغ عجز الموازنة 7.94 مليارات دينار (2.85 مليار دولار) في كامل 2021، بما يعادل 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي.
كما تحتاج البلاد إلى تعبئة موارد إضافية بقيمة تتجاوز 10 مليارات دينار (3.59 مليارات دولار) حتى نهاية العام 2021، وفي وقت الذي ينتظر أن تعلن الحكومة مشروع موازنة 2022 في وقت لاحق من العام الجاري، ترتفع المخاوف من إحجام دول مؤسسات دولية عن إسناد المنح والقروض بسبب الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد.
البنك المركزي حذّر في وقت سابق من أن “تدهور الموازنة العامة التي تعاني وضعية هشة، علاوة على تداعيات ارتفاع الأسعار العالمية للنفط، من شأنه المساس باستدامة الدين العام”، متوقعًا أن يبلغ الدين العام لتونس بنهاية 2021 حوالي 109.23 مليارات دينار (39.18 مليار دولار) منها 74.21 مليار دينار (26.5 مليار دولار) دينا خارجيا
في سياق متصل، فإنّ الأزمة الاقتصادية في تونس تعمّقت أكثر بعد أن قرّر سعيد في 25 يوليو/تموز الماضي تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، ضمن اجراءات استثنائية ما زالت تتوالى حتى الآن، ففي غياب وضوح البرنامج الاقتصادي للرئيس، فإنّ حالة الغموض حالت دون إيجاد حلول للأزمة المالية وبعث برسائل إيجابية للخارج لدفع عجلة التنمية والاستثمار.
دعوة تكشف العجز
يبدو أنّ مطالبة الرئيس التونسي بالتوجه إلى آلية “التقشف” لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية التي تعرفها البلاد، تُخفي تراجعه خطوة إلى الوراء في مواقفه وتصريحاته السابقة، فسعيد دأب منذ انقلابه الدستوري في 25 يوليو/تموز على تقديم نفسه منقذًا للبلاد من عشرية حكم الأحزاب التي أثبتت فشلها وفق منظوره، مطلقًا وعوده الوردية للشعب (مناصريه) بدعم القدرة الشرائية وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
هذه الدعوة تتعارض مع إطلالات الرئيس قيس سعيِّد الساخطة على السياسيين والمتوعدة بمحاسبة الفاسدين المتسببين في الأزمة، ومع تصريحاته التي أقر خلالها بوجود الأموال وبأنّ تونس بلد غني لا يحتاج إلى لحاكم “نظيف ووطني”، وأنّ انقلابه (تصحيح المسار) كفيل بإصلاح الأوضاع وإقامة العدل واستعادة ثروات البلاد ومقدراتها.
لذلك، من المؤكد أنّ توصيات الرئيس الأخيرة لـ”بودن” رئيسة وزراءه بسلك سياسية التقشف تعكس الورطة التي وقع فيها سعيّد الذي فشل في استرداد الأموال المنهوبة، وعجز عن الوصول إلى اتفاقات مع الجهات الأجنبية للحصول على القروض والمساعدات.
هذا يعني أنّ الرئيس واجه عوائق حقيقية قلّلت من هامش تحرّك حكومته لاستقطاب التمويلات، وهي في مجملها ضغوطًا خارجية من الشركاء إزاء التدابير الاستثنائية التي أعلنها وتعليقه العمل بمعظم مواد الدستور، من أجل إطلاق حوار وطني مع الطبقة السياسية ووضع خارطة طريق واضحة للعودة الى النظام الدستوري والديمقراطية البرلمانية.
مع تشديد قيس سعيد على “سيادة تونس” وعدم الرضوخ الى الضغوطات الخارجية، وفشله في إدارة معركته ضد الفساد واسترداد الأموال المنهوبة في الداخل والخارج، لم يتبق لسعيّد عمليًا سوى اللجوء الى الدول الصديقة للاقتراض من الدول الصديقة والشقيقة (الإمارات والسعودية)، إلاّ أنّ هذا الخيار يبدو أنّ هو الآخر مستبعد في الوقت الراهن، وهو ما دفعه إلى التقشف.
الخطير في الأمر أنّ سعيد لم يكتف بالدعوة إلى التقشف في المال العام أي الإنفاق الحكومي وأجهزة الدولة، بل ألمح إلى التقشف في مفهومه العام الذي يشمل مناحي الاقتصاد جميعها والتي تؤثر بشكل مباشر في معيشة المواطنين، فبحسب بيان الرئاسة، أكّد سعيّد على ضرورة أن “يشعر جميع المواطنين بأنهّم معنيّون بالسياسات التي تنتهجها الدولة”.
الرئيس التونسي لم يطرح منذ انقلابه الدستوري برنامجًا واضحًا لإصلاح روافع التنمية ومحركات النمو الأساسية، واقتصرت دعواته على التقشف، فهل يقدم على تخفيض ميزانيّة رئاسة الجمهوريّة لسنة 2022 بعد أن رفعها في عام واحد إلى 169 مليون دينار أي بزيادة قدرت نسبتها بـ 17%؟.
قيس سعيّد: “نحن نريد الرفاهة للشعب التونسي ولكن يجب علينا التقشف لأنّنا في حرب”
باقي يكركر فيها علينا ميزانية لقصر زادها شطر مغير فايدة.واخر مرة أكثر من 60 كرهبة حراسة ‼️
ابدى بروحك وبعد اهبط حارب التقشف هههه#قيس_سعيد_إرحل pic.twitter.com/hSawOuhqIB
— كافور الأخشيدي (@NZaccha) October 21, 2021
التقشف وتأثيراته
“التقشف” يعني تبني الحكومة لحزمة سياسات اقتصادية تهدف إلى السيطرة على مديونية القطاع العام وتراكمه إلى درجة أن احتمال التخلف عن الدفع والتقصير في تلبية الدفعات، كبيرة جدًا، أيّ أنّه يساعدها على استعادة العافية المالية، خاصة أنّ تفاقم ديون الدول، قد يرفع في معدلات الفائدة على القروض المستقبلية، ما يعقد عملية حصول المُقترِضين على التمويل.
يُطبق التقشف في العادة لتقليص الفجوة بين إيرادات الحكومة ومصاريفها، التي أحدثتها الاستدانة المفرطة أو الزيادة الكبيرة في المصاريف، لذا قد تلجأ الحكومة إلى التقشف عندما تكون مدينةً بأكثر مما تستطيع جنيه من الإيرادات، ويساعد تطبيق هذه الإجراءات على إعادة الثقة في الاقتصاد، إذ تُعد سياسات التقشف مؤشرًا على نية الحكومات باتخاذ خطوات تهدف إلى استعادة عافية موازناتها.
من آلياته المعروفة زيادة الضرائب وتخفيض الإنفاق الحكومي الذي يرى فيه المختصون، خطرًا يؤدي إلى مستويات كبيرة من البطالة، فالتقشف يُطرَح كحل سريعاً وبديهي للعجز والديون لكنه لا يُعالج مشاكل الاقتصاد الحقيقية.
في الحالة التونسية، فإنّ البلد طبّق سياسة تقشفية منذ سنوات، ما أدّى إلى خفض مخصّصات الاستثمار في الموازنات الماضية وتجميد التوظيف في القطاع الحكومي منذ نحو 5 سنوات، وتسبب في تأخير تنفيذ مشاريع استثمارية حكومية الكبرى التي أثرت بشكل سلبي على الخدمات العامة.
أمّا حاضرًا وفي ظل غياب التمويل الخارجي واعتماد التقشف، ستجد تونس نفسها مرغمة على اللجوء إلى التمويل المباشر للبنك المركزي ما يعني رفع الفائدة وهو ما يتعارض مع ما وعد به الرئيس سعيّد بخفض الأسعار وتحسين معيشة التونسيين، وبالتالي فإن تونس ستسير نحو التضخم.
على الجانب ذاته، فإنّ تجارب السياسات التقشفية التي اعتمدتها الحكومات السابقة أثبتت فشلها وتسببت في انكماش اقتصادي قياسي فاقمتها تأثيرات الجائحة الصحية، ولمكافحة هذه الأزمة المالية تحتاج تونس إلى إنفاق توسّعي يساعد على تحريك الاستثمارات العامة وزيادة النمو من أجل خلق الثروة والحد من نسب البطالة.
بدائل
من المؤكد أنّ الحلول البديلة لا تزال قائمة أمام المسؤولين في تونس لتفادي الانهيار الاقتصادي والأزمات الاجتماعي ذات العلاقة، ومن بينها:
- العمل على استعادة مستحقات الدولة لدى عديد القطاعات والأطراف مثل الضرائب المتأخرة والخطايا الجمركية (12.6 مليار دينار).
- مراجعة الامتيازات الضريبية وفرض ضريبة على الأثرياء والشركات الرابحة زمن كورونا مثل المصحات والبنوك.
- اعتماد سياسة اقتصادية مرنة لمقاومة الانكماش وتنشيط محركات الإنتاج
- تخفيف القيود على الاستثمارات الخاصة
- مكافحة الريع لتشجيع القطاعات ذات القيمة المضافة العالية (الشركات الناشئة).
أزمة الاقتصاد التونسي مركبة ومعقدة إلى أبعد الحدود بسبب استمرار التعويل على منوال تنموي أثبت فشله طيلة العقود السابقة، ولكنه اليوم، يعرف لحظة فارقة ستضع قيس سعيد ومنظومة 25 يوليو في ورطة كبيرة أمام الشعب، فـ”عمر” تونس يأمر بالتقشف ولا يأتيه.