يوشك أن يكون الحديث عن النخب العربية حديثًا مجازيًّا، فالمواقف التي نصنِّفها ضمن مواقف النخبة ومنذ الثورة تطابقُ مواقف نخبة موجودة فقط في مراجعنا العلمية التي نتداولها في الدرس الجامعي، أما التي نراها تتحرك وتحدِّد المواقف وتصنع السياسات فتظهر لنا، خاصة بعد انقلاب 25 يوليو/ تموز، أقرب إلى مواقف وحركات كائنات غريزية تدفعها إلى الفعل مطامع فردية ذات طبيعة غنائمية.
حتى إننا نستسهل مرات كثيرة أن نقول ليس هناك لدى العرب نخب سياسية، وإنما عمّال حظائر تتعارك على مساعدات برنامج الغذاء العالمي (P.A.M)، التي كانت توزَّع على فقراء تونس أيام المسغبة في الستينيات والسبعينيات.
محاربة الإسلاميين فعل غريزي
تحت يافطة التقدُّمية والتحديث، وقفَ اليسار التونسي والقوميين بمختلف أسمائهم السياسية جنبًا إلى جنب مع مواقف حَضَرِ العاصمة، من الفرانكفونيين خاصة، واشتغلوا كحاجز مانع لتقدُّم الإسلاميين نحو الدولة.
وقد وقعنا طويلًا في هذا الفخّ، فدافعنا عن حقّ الاختلاف وضرورة التعدُّد الفكري والأيديولوجي، وقلنا إن كل تعدُّد هو مصهر لبلورة الأفكار الجديدة عبر الصراع الفكري، والذي يُترجَم سياسيًّا بالأحزاب والرؤى.
بعد 10 سنوات من متابعة هذه الصراعات، وخاصة بعد الانقلاب، عدنا نربط هذا الصراع بقوة بتعبيراته في مرحلة ما قبل الثورة، ونجدُ من الضروري القول أن الأيديولوجيا ليست إلا غطاء لحماية مكاسب فردية وفئوية حصّلها قوم سبقوا إلى الدولة، وهم يتحركون لصدّ منافس قادم من الأعماق البعيدة ليقاسمهم ما فازوا به، وربما يفوز بنصيب أكثر منهم بحكم العدد والقدرة على التنظيم وبالتالي المنافسة على المواقع.
إن الصراع الظاهر بعناوين فكرية حداثية وتقدُّمية وقومية عربية، هو في جوهره غلاف مزيَّف لحماية المواقع والغنائم من مُنافس شرس وطموح ويملكُ الأسباب، ويصير من الحماقة مواصلة ترويج الرواية المتمكّنة الآن: “تقدمية تحاربُ الرجعيةَ من أجل الحداثة”.
فلا التقدُّمي تقدُّمي فعلًا، ولا الحداثي حداثي، ولا القومي قومي. غني عن القول أيضًا إن الاسلامي ليس إسلاميًّا بل هو طالب غنيمة يتّخذ ذريعة أخرى للدخول في مجال الحوز والغنم الذي يضمنه مكان نظام الحكم (السلطة)، ولا يوفِّره الموقع في المعارضة وإن سُمح لها بالعمل.
لنعيد النقاش إلى الأصل
لنؤلِّف السردية التونسية من جديد. في فجر الاستقلال، النخب المدينية الأرستقراطية التي لم تعارض الاحتلال ونالت من بركاته، عاشت قبل الاحتلال وأثنائه من غنائم الدولة وكانت تنوي البقاء في مواقعها، لكن فئات جديدة قادمة من خارج الأسوار وبخلفيات غير حضرية، استولَت على الدولة وحوّلتها إلى مكسبها الخاص، وكان تغيير الحكم من ملكي إلى جمهوري حركة رمزية وفعلية لإنهاء دور الأرستقراطية الحضرية وتصوراتها.
بعد 10 سنوات (الستينيات) كانت فئات جديدة من أبناء الفقراء قد وصلت بالمدرسة وكشفت رغبتها في المشاركة (ولم نقل الغنيمة)، فطاردتها الدولة (والحقيقة طاردتها النخب التي استولت قبلها على الدولة) وكفّرتها، فقد مالَت الموجة الثانية إلى الفكر اليساري وصرّحت بموقف من الدين جعل مهمتها في الاندماج صعبة، وسهّل ذلك تكفيرها.
بعد عقد من الصراع مع اليسار، تمَّ إدماجه في الدولة ومُنح جزءًا من الغنيمة، لأن موجة ثالثة من أبناء الفقراء قدمت وأعلنت المنافسة وهي الإسلاميون.
الصراع الذي عاشته تونس منذ أول الثمانينيات بين الدولة والإسلاميين هو في الجوهر صراع على مواقع في مغانم الدولة، وهذا يساعد على فهم كل التحالفات التي قامت بين مالكي الدولة من الدساترة واليسار المدمج فيها بعد صراع السبعينيات.
ونحن الذين عشنا هذه الفترة الزمنية، ونسمع شعار “سحقًا سحقًا للرجعية دساترة وخوانجية”، لم نكن نرى علامات فعلية على قطيعة جادة بين اليسار والحزب الحاكم، لقد كانت مسرحية مرتّبة وقد وقع الكثير في شركها ظانًّا أنها الحقيقة.
هذه المعركة متواصلة، والحلف اليساري الدستوري التجمعي القومي مستمرّ لحماية المغانم المكتسبة ضد موجة أبناء الشعب التي اتخذت الإسلام ذريعة للدخول، وها نحن نراه متجسِّدًا في حلف الانقلاب الجاري، رغم أن قيس سعيّد يمكن تصنيفه ضمن أبناء الفقراء القادمين من بعيد، لكن كونه فردًا بلا حزب فسهلٌ إدماجه أو استيعابه وإعطائه غنيمة/ رشوة، من أجل الحفاظ على غنائم من سبقه.
والديمقراطية هل هي شاغل حقيقي للنخب؟
في الدرس النظري (المتخيَّل أدبيًّا)، الديمقراطية تشاركية بالقوة بعيدًا عن معارك الغنيمة، لكن درس الواقع يقول بخلاف ذلك. الديمقراطية غلاف آخر يتّخذه الجميع طاقية إخفاء لنواياهم في الغنيمة التي ينالها الفرد بالدولة لا بغيرها، والشعارات كثيرة ولكنها مفضوحة، ويمثّل الإسلاميون موجة كاسحة تهدِّد غنائم الكثيرين، ولذلك يقف الجميع ضدّهم.
يبدو الإسلاميون في المشهد الحالي أكثر الناس حرصًا على الديمقراطية، ولديهم حتى الآن عذر شرعي يسمح لهم بالقول إنهم حرّاس الديمقراطية والمؤسسات، فهم لم يحكموا بشكل تام ليتمَّ اختبار نواياهم.
فبعد مشاركتهم في السلطة من موقع متقدِّم زمن الترويكا (2012-2013)، لم يشُذَّ سلوكهم كثيرًا عن سيرة من سبقهم، بعد ذلك كانوا دومًا في موقع الدفاع عن وجودهم، لذلك الحُكم عليهم عمليًّا يتأخر لكن قراءتنا في سيرة النخب لا تقدِّم لنا أية ضمانات على أنهم مختلفون تجاه الغنيمة، وهذا يعيدنا إلى العنوان الأصلي.
لا أحد يؤمن فعلًا بالديمقراطية بصفتها عملًا تشاركيًّا، وإذا كان لدينا الوقت الكافي لقراءة النخب وأدوارها وأطروحاتها، فأعتقد أن المدخل الرئيسي لذلك هو إنكار إيمان النخب التونسية (يمكن التعميم عربيًّا فالوضع متطابق تقريبًا) بالديمقراطية.
لنبدأ من حيث يجب لتأسيس تحليل سلوك مختَلَف النخب العربية إزاء الغنيمة، هذه النخب تبدو لنا بعد فضيحة مساندة الانقلاب الفاشل قبل انطلاقه والفاشل طيلة بقائه، حيث إن إسناد الانقلاب مثل معارضته هي معارك على غنيمة، ولا علاقة لها بمعارك الديمقراطية التشاركية.
فإسناد الانقلاب يجري أمام أعيننا من قبل فئات متمكّنة من مواقعها وتخشى ضياعها، ولا علاقة لها طبعًا لا بمشروع قيس سعيّد ولا بأفكاره (وهل له أفكار فعلًا؟)، وتعتبر الانقلاب آخر ضماناتها للحفاظ على ما بين أيديها.
أما معارضو الانقلاب فهم نفس القادمين من الموجة الشعبية الكاسحة والمحرومة منذ ظهورها من كل مكسب، وهي تعارض لاستعادة ما وصلت إليه قبل الانقلاب وحرمها منه الانقلاب.
لنتخلَّ بوعي جديد عن الحُكم انطلاقًا من الخطاب السائد (مسرحية الحداثة ضد الرجعية، ومسرحية الوحدة العربية ضد الإخوان عملاء الإمبريالية، وتعبيرات أخرى مشابهة)، ولنعد إلى الجادة.
يمكن معارضتنا بأن التجارب الديمقراطية كانت دومًا بحثًا عن موقع وغنيمة، ولكن السؤال سيفرض نفسه في الجدال، ألم تسمح التشاركية الديمقراطية بمغنم عام تمتّعت به جميع الفئات في السلطة وخارجها؟
إننا نرى ذلك رأي العين، ولذلك نصرُّ على مدخل جديد؛ من آمن بالديمقراطية فعلًا عليه أن يقبل أنها طريق لمغنم جماعي غير فردي وغير فئوي، وأن الموقع ضمن السلطة ليس الطريق الوحيدة المتاحة.
المدخل إلى الديمقراطية هو الإيمان بأن فعلها له أثر جماعي لم ترتقِ النخب التونسية والعربية إليه بعد، إنها نخب تتصارع على برنامج الغذاء العالمي، وفيه كثير من دقيق القمح المصاب بالسوس الأحمر، تمامًا كما في سنين المسغبة.