ترجمة وتحرير: نون بوست
بصفتها من المؤيدين المتحمسين للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ابتسمت نيكول ليوت بعد رؤيته في حملة انتخابية جديدة لكنها كانت قلقة أيضًا بشأن الجولة الأخيرة من الانتخابات الفرنسية يوم الأحد، لأنها لم تشهد في حياتها مثل هذا القدر من الكراهية الشديدة لرئيس فرنسي.
قالت السيدة ليوت (80 سنة): “هناك رؤساء لم يُكرهوا بهذا القدر على الرغم من أنهم ليسوا قدّيسين”، مشيرة إلى أن “العبارات المستفزة” لماكرون هي ما أجّجت هذا النفور. وتعقيبًا على إحراق المتظاهرين المناهضين لماكرون الإطارات وملء السماء بالدخان فوق مدينة لوهافر الشمالية الغربية، ذكرت ليوت: “ربما لن يغفر له الناس أخطاء اللغة والسلوك”.
لم يتعرض أي رئيس فرنسي لمثل هذه الكراهية الشديدة بين شريحة كبيرة من السكان مثل ماكرون، وذلك ـ حسب الخبراء ـ بصفته نخبويًا بعيدًا عن الاتصال بالفرنسيين العاديين الذين هدّد معاشاتهم التقاعدية وإجراءات حمايتهم المهنية في مساعيه لجعل الاقتصاد أكثر ملاءمة للمستثمرين.
ستكون هذه الانطباعات البغيضة عاملاً حاسمًا في الانتخابات ضد منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان. وقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقدم ماكرون بنحو 10 نقاط مئوية – وهو فارق أكبر مما سُجل خلال الحملة ولكنه لا يمثل سوى ثلث الهامش الذي ضمن فوزه قبل خمس سنوات.
قال نيكولاس دوميناك، الصحفي السياسي المخضرم الذي غطّى الانتخابات الرئاسية للرؤساء الفرنسيين السابقين الخمسة ومؤلف مشارك لكتاب نُشر مؤخرًا بعنوان “لماذا كل هذه الكراهية؟” إن “الكراهية التي يثيرها ماكرون غير مسبوقة، وهي تنبع من فكرة أنه رئيس الأغنياء ورئيس الازدراء”.
لا شك أن ماكرون قد يحظى بولاية ثانية رغم قلة شعبيته. وحتى لو لم يُصوّت له عدد كبير من الناخبين، فإن ما يهمّه هو أن يُصوّت عدد كافي من الناخبين ضد لوبان، لبناء “سد” ضد اليمين المتطرف، وهي استراتيجية لإقامة ما يسمى بـ “الجبهة الجمهورية” ضد قوة سياسية يُنظر إليها على أنها تهديد للأسس الديمقراطية في فرنسا.
ولكن بالنظر إلى الاختيار بين رئيس يجدونه ازدرائيًا ومرشحة يمينية متطرفة يجدونها مقيتة، فقد يظل العديد من الناخبين الفرنسيين في منازلهم أو قد يختاروا التصويت للوبان، الأمر الذي سيؤدي إلى قلب الموازين في انتخابات متقاربة.
في كل فرصة تُتاح لها، تبذل لوبان قصارى جهدها لتذكير الناخبين بـ “كلمات ماكرون الازدرائية”، كما فعلت في تجمع انتخابي كبير في المدينة الجنوبية أفينيون الأسبوع الماضي، بقولها “إنها كلمات سلطة لا تعرف التعاطف”، فيما أطلق الحشد صيحات الاستهجان.
تتنافس لوبان وماكرون الآن في الأيام الختامية للحملة الانتخابية لكسب أصوات الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لمرشحين آخرين في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 10 نيسان/ أبريل، والذين تتوقف الانتخابات عليهم الآن.
صوّتت الكتلة الأكثر أهمية لصالح جان لوك ميلينشون، اليساري المخضرم الذي جاء في المركز الثالث. في اليسار، يشعر الكثيرون بالخيانة بسبب ميل ماكرون نحو اليمين خلال فترة رئاسته، بينما تحاول لوبان بشكل خاص جذب الناخبين الذين يشعرون بنفس مشاعر الكراهية والازدراء التي كثيرًا ما تُسمع بين الداعمين الأساسيين لها – وكثير منهم من مؤيدي ميلينشون.
إن النائب والمتحدث باسم حزب ماكرون رولاند ليسكيور مقتنع بأن “رفض مارين لوبان” سيكون أقوى من كره الرئيس الحالي، موضحًا أن الرفض ليس لشخص لوبان فقط “بل قبل كل شيء نابع من أيديولوجيا ومسيرة سياسية ضارة للغاية”. لكن لوبان زادت من مستوى الثقة تجاهها بعد اتخاذ خطوات محسوبة لتحسين صورتها لدرجة أنها تجرأت حتى على تبنّي مصطلح “السد” – وتوسلت إلى الناخبين ست مرات لحشدهم لبناء “سد ضد ماكرون”.
أكّدت الدعوات إلى إقامة سدّ من كلا الجانبين أن التصويت النهائي يقوم على التنافس على عدم الشعبية أي أن المرشح الأقل كرهًا يفوز. هذا صحيح بشكل خاص في هذا السباق الرئاسي، الذي يضم نفس المتأهلين كما كان الحال في سنة 2017. ولكن إذا كان يُنظر إلى لوبان على أنها أداة أيديولوجيا اليمين المتطرف في ذلك الوقت، فقد حاولت في الحملة الحالية تقديم صورة أكثر مرونة وجاذبية.
إذا كان يُنظر إلى ماكرون ذات مرة على أنه وجه جديد ألهمت وعوده بتغيير فرنسا المُحافِظة الكثيرين، فإن معارضيه ينظرون إليه اليوم على أنه رئيس خبيث. عمل ماكرون مستثمرًا في البنوك، وكانت سياساته الضريبية تصب في مصلحة الأثرياء. ولم يتمكن ماكرون من التخلص من صورته كرئيس لهذه الطبقة إلا بعد أن قدمت حكومته إعانات ضخمة خلال الجائحة.
“عباراته المستفزة” الموجهة للناس العاديين أو من حولهم رسّخت على مر السنين تلك الصورة غير المتعاطفة مما خلق نوعًا من الانقسام السياسي والثقافي بعدما وصفت هيلاري كلينتون مؤيدي دونالد ترامب في 2016 بأنهم “سلة مخلفات”.
لكن استراتيجية ماكرون لإبعاد نفسه عن مرمى خصومه لم تسعفه بل لم يُكلّف نفسه عناء الإشراف على حملته الانتخابية منذ البداية وانهمك بدلا من ذك في المساعي الدبلوماسية بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا. بالنسبة للعديد من الفرنسيين، لم يرسّخ هذا الأسلوب سوى انطباع بأن الرئيس يترفّع عن تنظيم حملته الانتخابية ويجمع السلطات بين يديه.
بينما ينخرط ماكرون أخيرًا في السباق الرئاسي، فإنه يواجه الآن مشاعر متأججة طغت على معظم فترة رئاسته. أخبره رجل خلال توقفه في إحدى محطات حملته الانتخابية الأسبوع الماضي: “لم أر قط رئيسًا سيئًا مثلك للجمهورية الخامسة”، متهمًا إياه بـ “المتعجرف” و”المتكبر”. وكان رد فعل ماكرون الذي بدا منزعجًا بشكل واضح أن قام بحركة دائرية حول صدغه الأيمن بسبابته.
في الشمال المُعدَم وغير الصناعي – حيث معقل لوبان – لا يحظى ماكرون بشعبية كبيرة لدرجة أنه خسر في مسقط رأسه أميان منذ الجولة الأولى. في دينين، قامت امرأة بتوقيفه في إحدى محطات حملته الانتخابية ووجهت له انتقادات لاذعة بشأن فترة رئاسته وطريقة تعامله مع الجائحة والمدارس. فردّ ماكرون عليها قائلاً: “أنت لا تعيشين في العالم الحقيقي”، فصُدمت السيدة من جوابه قائلةً: “نحن لا نعيش في العالم الحقيقي؟ أأنت من تخبرنا بذلك يا سيد ماكرون؟”.
في ضاحية أرغنتوي الفقيرة في باريس، رددت كلودين باسكي، وهي سكرتيرة مدرسة متقاعدة، بينما كانت تحمل كيسين من البقالة، “عبارات السيد ماكرون المستفزة” عندما وصف محطات القطار بأنها أماكن “حيث يلتقي المرء بأشخاص ناجحين وأشخاص لا قيمة لهم” وعندما أشار “إلى الأموال الطائلة التي يتم إنفاقها على المساعدات الاجتماعية المخصصة للفقراء”. أضافت السيدة باسكي: “لم تغب عن أذهاننا كل هذه العبارات المهينة”، مؤكدة أنها صوتت لماكرون في 2017 لكنها لم تقرر بعد ما إذا ستصوت له هذا العام مرة أخرى أم لا.
قال بيير روزانفالون، المؤرخ وعالم الاجتماع في “كوليج دو فرانس”، إن هذه العبارات المستفزة كانت “كارثية” في تشكيل صورة ماكرون وتأجيج الشعور الواسع بالازدراء الذي قال إنه عامل أساسي في السياسة الفرنسية والمجتمع اليوم. وأضاف: “يتعلق الأمر بالعلاقة بين النخبة المتكبّرة والمجتمع المحتَقر”.
وأشار روزانفالون إلى أن “نزعة التكبر” متجذرة أيضًا بين كتلة المؤيدين الأساسيين للوبان – على الرغم من أن هذه النزعة موجهة ضد المهاجرين والأجانب وغيرهم ممن يُنظر إليهم على أنهم أقل شأنًا من الناحية الاجتماعية. قالت لوبان إنها ستزيد مزايا الأشخاص الذين يصوتون لها من خلال إبعادهم عن المحيط الذي يتواجد فيه المهاجرون. وأضاف روزانفالون أن لوبان أدركت قوة هذا الوضع الراهن، واستوعبت أن الصعوبات الاقتصادية لا تتعلق بالمال فحسب، بل يجب معالجتها “بلغة الكرامة والاحترام وتفهم الشعور بالتخلي”.
قال ليسكو، المتحدث باسم حزب ماكرون، إن الكثير من الاستياء ضد الرئيس نابع من سوء فهم أسلوبه في الحكم الذي قارنه بأسلوب الرئيسين السابقين شارل ديغول وفرانسوا ميتران الملقبين بـ “الملوك الجمهوريين” لأنهما كانا بمعزل عن الشعب. وأضاف: “عندما يوصف ماكرون بأنه متعجرف وبعيد وحتى متكبر، أعتقد أن السبب أيضًا هو أن ممارسته للسلطة تتسم بأنها أقل شعبية بكثير لكونها غير موجهة نحو الناس إذا ما قارناه بالرؤساء الآخرين”، حتى أنه أثار استياء العديد من أنصاره السابقين.
في تجمع حُشِد لدعم لوبان في أفينيون، قالت رشيدة سايدج (53 عامًا) إنها صوتت لماكرون في انتخابات 2017 للوقوف ضد اليمين المتطرف. لكن هذه المرة صوتت لصالح حزب الخضر في الجولة الأولى وكانت تنوي التصويت لصالح لوبان كجزء من الكتلة المناهضة لماكرون فوجدت نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ: “إما أن تختار الطاعون أو الكوليرا”. وذكرت السيدة سايدج: “لم يصرّح بشيء إلا وطبّق نقيضه، لقد احتقر الكثير من الناس”، مضيفة أن ماكرون تصرف وكأنه “ملك”.
في لوهافر، عبّر بلال بن عودة، وهو طالب يبلغ من العمر 22 عامًا ورجل أعمال محتمل ومن أشد المؤيدين لماكرون، عن قلقه أيضًا. صوّت بلال لماكرون في الجولة الأولى. لكن شقيقه ومعظم من حوله أيّدوا ميلينشون وينوون الآن العزوف عن التصويت في الجولة الثانية. قال بن عودة: “في المرة السابقة، كانت الانتخابات تدور حول مناهضة لوبان ولكن هذه المرة، يتعلق الأمر بمناهضة كل من لوبان وماكرون”.
المصدر: نيويورك تايمز