من الدرر التراثية أن يجمع عالم بين العلوم والتأريخ، فالغالبية كانوا يتناوبون على مجالات العلم المختلفة، فهذا عالم في الطب والهندسة والرياضيات، وآخر في الفيزياء والكيمياء والفلك، وثالث في علوم الحيل والميكانيكا والمجسمات، لكن أن يجمع أحدهم بين العلم والتاريخ فلم يزخر التاريخ بالكثير من تلك النماذج.
بطل مادة اليوم من ملف “أعمدة منسية” أحد البارزين في الجمع بين تلك الثنائية، فبجانب أنه واحد من أشهر أطباء القرن الثالث عشر الميلادي، كان مؤرخًا عبقريًا، فاستحق عن جدارة لقب “مؤرخ الطب”، إنه موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن أبي أصيبعة السعدي الخزرجي الأنصاري، المعروف بـ”ابن أبي أصيبعة” نسبة إلى جده الطبيب الحكيم الذي كان يعمل في بلاط الناصر صلاح الدين الأيوبي.
عاصر أربعة من الخلفاء العباسيين: الناصر لدين الله (575هـ/622هـ) والظاهر بأمر الله (دامت فترة حكمة تسعة أشهر من عام 622هـ) والمستنصر بالله (622هـ/640هـ) والمستعصم بالله (640هـ/656هـ)، ورافق كبار علماء الطب في مصر وسوريا، فنهل منهم الكثير وأثرى المكتبة الطبية بالعديد من الإنجازات.. فماذا نعرف عن هذا العلم المنسي؟
ابن أبي أصيبعة ..سليل العلم والعلماء
من حسن طالع موفق الدين أنه ترعرع في كنف أسرة اشتهرت بالطب، وكانت من أكبر العائلات المهتمة بالتطبيب في دمشق في ذلك الوقت، ومنذ ولادته عام 1203م احتضنه جده الحكيم الذي كان يعمل في بلاط الناصر صلاح الدين، كذلك والده الذي كان أحد أمهر أطباء العيون (الكحالين) في الشام، فأشبعاه علمًا حتى عشق الطب.
ومما ساهم في إثقال شخصية ابن أبي أصيبعة السمت العام للعصر الذي عاش فيه، فقد قضى معظم سنوات حياته في القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري)، هذا العصر الذي شهد صراعات ونزاعات حادة بين أمراء الدول وحكامها، وكان من إفرازات تلك الصراعات أن أبدت الإمارات وقتها أهمية فائقة بالعلوم كسلاح ردع قوي لتعزيز النفوذ.
وتحت حكم الأيوبيين كانت ترزخ الشام ومصر، حيث اعتنوا بالطب والصيدلة والكيمياء، فأولوها أهمية وعناية فائقة، ووضعوا العلماء في مراتب كبيرة، ليجد الطبيب الشاب فرصته في التأهيل والإبداع، مستفيدًا من الأجواء المحيطة به، في ظل ما يتمتع به من إمكانيات وقدرات كبيرة ورثها عن والده وجده.
وبعد الانتهاء من دراسة الطب في دمشق، سافر ابن أبي أصيبعة إلى القاهرة التي كانت تتمتع وقتها بسمعة طيبة في الطب، فالتحق بالبيمارستان الناصري ليعمل بقسم طب العيون، حيث استفاد من أباطرة علم الكحالة في العالم في ذلك الوقت، وأبرزهم ابن أبي البيان، مؤلف كتاب الأقراباذين المعروف باسم الدستور البيمارستاني.
جاءت أقسام الكتاب الـ15 لتقدم عرضًا شافيًا لتاريخ الطب وأبرز محطاته على مر التاريخ
وخلال فترة عمله في القاهرة، ذاع صيت الموفق وتخطت شهرته الآفاق، فتنقل بين بلد وآخر، حتى جاءته دعوة الأمير عز الدين أيدمر صاحب صرخد (منطقة بجبل العرب في سوريا حاليًّا) بالعودة إلى دمشق للاستفادة من عمله، ولم يتردد العالم الشاب كثيرًا، ليعود إلى مسقط رأسه وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، ليمكث بها ما تبقى من حياته.
تأريخ علوم الطب
قدم ابن أبي أصيبعة تجربة رائدة في الجمع بين التاريخ والطب، فحين يتحدث عن الطب فهو الطبيب الماهر المبدع وحين يتجه نحو التاريخ فشهرته لا تقل عن الجبرتي وكبار مؤرخي العالم، لذا استحق لقب “مؤرخ الطب”، ولعل كتابه الشهير “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” أحد العلامات المضيئة في هذا المجال.
جاءت أقسام الكتاب الـ15 لتقدم عرضًا شافيًا لتاريخ الطب وأبرز محطاته على مر التاريخ، مستهلًا الباب الأول بإلقاء الضوء على نشأة علوم الطب ووجوده كصناعة وأدوات
ثم الباب الثاني الذي عنون له بـ”في طبقات الأطباء الذين ظهرت لهم أجزاء من صناعة الطب وكانوا من المبتدئين بها”، يليه “في طبقات الأطباء اليونانيين الذين هم من نسل أسقليبيو” و”في طبقات الأطباء اليونانيين الذين أذاع أبقراط فيهم صناعة الطب” و”في طبقات الأطباء الذين كانوا منذ زمن جالينوس وقريبًا منه” و”في طبقات الأطباء الإسكندرانيين ومن كان في زمنهم من الأطباء النصارى وغيرهم” و”في طبقات الأطباء الذين كانوا في أول ظهور الإسلام من أطباء العرب” و”في طبقات الأطباء السريانيين الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العباس” و”في طبقات الأطباء النقلة الذين نقلوا كتب الطب وغيره من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي وذكر الذين نقلوا لهم” و”في طبقات الأطباء العراقيين وأطباء الجزيرة وديار بكر” و”في طبقات الأطباء الذي ظهروا في بلاد العجم” و”في طبقات الأطباء الذين كانوا في الهند” و”في طبقات الأطباء الذين ظهروا في بلاد المغرب وأقاموا بها” و”في طبقات الأطباء المشهورين من أطباء ديار مصر” وأخيرًا: الباب الخامس عشر “في طبقات الأطباء المشهورين من أطباء الشام”.
نُشر الكتاب لأول مرة عام 1882م على يد المستشرق الألماني أوغست مولر الذي عثر على نسختين خطيتين، وأشرف على طباعته في المكتبة الوهبية بمصر، وقد طبع في جزأين، إلا أن مولر اضطر لطباعته مرة أخرى في ألمانيا بعد عامين فقط من طباعته الأولى بسبب بعض التغييرات التي ألحقها الناشر على النسخة الأولى.
والكتاب ألفه الطبيب ابن أبي أصيبعة خلال فترة خدمته في البيمارستان الناصري بمصر، حيث قضى في تأليفه عدة سنوات محققًا ومدققًا ومستمعًا إلى الرواة من المعاصرين، الأطباء والمؤرخين والشهود، وذلك من أجل تقديمه كهدية إلى أمين الدولة وزير الملك الصالح، ليعم النفع به ومنه على كل أرجاء الدولة.
الطبيب المؤرخ
يستمد هذا المؤلف أهميته من أنه التجربة الأولى في إلقاء الضوء على الأطباء وتاريخ الطب في مختلف الحضارات والأمم، كما يقول في مقدمته “ولم أجد لأحد من أربابها ولا من أنعم الاعتناء بها كتابًا جامعًا في معرفة طبقات الأطباء وفي ذكر أحوالهم على الولاء
رأيت أن أذكر في هذا الكتاب نكتًا وعيونًا في مراتب المتميزين من الأطباء القدماء والمحدثين، ومعرفة طبقاتهم على توالي أزمنتهم وأوقاتهم، وأن أودعه أيضًا نبذًا من أقوالهم وحكاياتهم، ونوادرهم ومحاوراتهم، وذكر شيء من أسماء كتبهم، ليستدل بذلك على ما خصهم الله تعالى به من العلم، وحباهم به من جودة القريحة والفهم، فإنَّ كثيرًا منهم وإن قدمت أزمانهم، وتفاوتت أوقاتهم، فإن لهم علينا من النعم فيما صنفوه، والمنن فيما قد جمعوه في كتبهم من علم هذه الصناعة ووضعوه، ما هو تفضل المعلم على تلميذه والمحسن إلى من أحسن إليه”.
للعالم المسلم الفذ العديد من المؤلفات الأخرى التي كان لها صداها الكبير غير أنها لم تصل للعرب بعد
ويحتوي الكتاب على أسماء أشهر من أثروا الحياة الطبية في التاريخ، مستعرضًا نوادرهم وإسهاماتهم بأسلوب سلسل جميل شيق، كما حاول المزج بين الفلسفة والطب من خلال التعريج على بعض الحكماء والفلاسفة ممن كان لهم عناية وخبرة بصناعة الطب.
وترجع الباحثة التاريخية مريم عبد الله قيمة هذا المؤلف الذي يعد أحد أبرز إنجازات المكتبة الإسلامية العربية في مجال العلوم بصفة عامة والطب تحديدًا إلى عشرة أسباب، وذلك في دراستها التي أعدتها خصيصًا لمناقشة الكتاب وتفكيك أركانه في محاولة للوقوف على حجم ما قدمه للبشرية من إسهامات جليلة.
وتعتبر عبد الله أن الكتاب فريد من نوعه، كونه السابقة الأولى لأن يضع أحد معجمًا تفصيليًا للأطباء، فهو يعد أكبر موسوعة في تاريخ الطب والأطباء، بجانب احتوائه على معلومات قيمة عن الطب الهندي واليوناني، وربط بين مدرسة الطب العربي الإسلامي، والأصول والمنابع التي استقت منها العلم، بخلاف إسهامه في حفظ معلومات قيمة عن المؤلفات التي لم يبقَ منها إلا الإشارة أو التنويه في بطون المصادر وتعدّ ضمن المفقودات.
الكتاب قدم مثالًا صادقًا لأحوال الطب والتطبيب في عصور النهضة العلمية والعربية وأخبار المشاهير من الأطباء العرب وآدابهم ومفاهيمهم لرسالة الطب والطبابة، كما ألقى الضوء على تطور المستشفيات والمراكز الصحية، لذا يعد مصدرًا مهمًا لدراسة تاريخ الحركة الثقافية وتطور الحضارة العربية الإسلامية، ومن ثم غدا مصدرًا مهمًا للكتب التي ألفت بعده فيما يتعلق بتاريخ الطب والأطباء والحكماء.
وعن الكتاب يقول العالم بول غليونجي: “يعدّ مرجعًا أساسيًا لدراسة تاريخ الطب والعلوم في العهد الإسلامي”، أما زميله ألدو مييلي فيصفه بأنه “يزودنا بأهم المعلومات عن تاريخ الأطباء”، وقد حقق المؤلف شهرة فائقة داخل المكتبات الطبية في أوروبا والشرق على حد سواء، وتحول ابن أبي أصيبعة إلى علم له مكانته وثقله في الوقت الذي يجهله الكثيرون من أبناء العرب والمسلمين.
وللعالم ابن أبي أصيبعة من المؤلفات الأخرى التي كان لها صداها الكبير غير أنها لم تصل للعرب بعد، فيما يتبقى أجزاء منها في بعض المكتبات الغربية، منها كتاب “حكايات الأطباء في علاجات الأدواء” وكتاب “إصابات المنجمين” وكتاب “التجارب والفوائد”.
وبعد مسيرة حافلة بالعطاء، لم يبخل فيها ابن أبي أصيبعة بالجهد والعرق لخدمة الإنسانية والعلوم البشرية، توفي بصرخد في سوريا شهر جمادى الأولى سنة 668هـ الموافق 1269م، بعد أن أثرى علم الطب بالكثير من الإسهامات التي ظلت حتى يومنا هذا مرجعًا أساسيًا للمهتمين بدراسة تاريخ الطب والأطباء.