رغم أن الإجابة عن هذا التساؤل قد تكون مبكرة، لعدم اكتمال ملامح المشهد الاحتجاجي في إيران، فإن التجربة التاريخية تشير دائمًا إلى أن النظام عادةً ما يخرج منتصرًا في مواجهاته مع الاحتجاجات، ويعود السبب في ذلك ليس لضعف الحالة الاحتجاجية في إيران، وإنما للمبررات الشرعية والدستورية التي يوظفها النظام في هذه المواجهات، وهو ما يعطيه هامشًا واسعًا في استخدام جميع الوسائل المتاحة لإخمادها، حتى إن وصل الأمر إلى استخدام القوة الغاشمة، وهو ما بدأت ملامحه تتضح خلال الأيام الثماني للاحتجاجات الحاليّة.
إن متابعة تطورات الحالة الاحتجاجية في إيران، وتحديدًا احتجاجات 1999 الطلابية واحتجاجات 2009 “الثورة الخضراء” واحتجاجات 2017 التي قادتها الطبقة الفقيرة، أوضحت بما لا يقبل الشك أن النظام في إيران بدأت تتسع أمامه قاعدة الأعداء.
وفي الاحتجاجات الأخيرة التي تشهدها البلاد على خلفية مقتل المواطنة الإيرانية الكردية مهسا أميني، بسبب مخالفتها شروط ارتداء الحجاب، وجد النظام نفسه أمام عدو جديد، فلا يشير التوسع الكبير في الاحتجاجات الحاليّة إلى إيمان جميع المحتجين بقضية الحجاب، وإنما بسبب تراكم المظالم التي أنتجتها سلوكيات النظام، بحيث التحق بهذه الاحتجاجات ليس فقط المدافعين عن حقوق المرأة والحريات العامة، بل الطلاب والطبقات الفقيرة وشعوب غير فارسية مهمشة.
إن المشكلة التي يواجهها النظام اليوم، لا تتعلق بموضوع الحجاب، وإنما بأيديولوجيا النظام نفسه، فهي أيديولوجيا جامدة بطبيعتها، لا تقبل المرونة أو الحلول الوسطى، بل والأكثر من ذلك هي أيديولوجيا براغماتية أيضًا، ففي الوقت الذي تحظر فيه شرطة الأخلاق أي شروط مخالفة لارتداء الحجاب، فإنها لا تحاسب أي امرأة إيرانية إذا لم ترتد الحجاب في أثناء ذهابها لصناديق الانتخابات في أوقات الانتخابات العامة، بل ويتم تعليق عمل الشرطة في ذلك اليوم، ويأتي ذلك في إطار رؤية دينية يؤطرها النظام، بأن ضرورة الولاية والدولة مقدمة على ضرورة الإنسان والشرع.
يدرك قادة النظام أن الحلول الأمنية هي وحدها الكفيلة بإنهاء هذه الاحتجاجات
هذه الإشكالية لا يتمكن النظام من معالجتها دون أن تكون هناك تنازلات حقيقية يقدمها، وهي تنازلات لا تقل خطورة عن التفريط بأي مدخل شرعي من مداخيل شرعية هذا النظام، خصوصًا أن الاحتجاجات الحاليّة تأتي في ظروف استثنائية تمر بها إيران اليوم، أبرزها حالة عدم اليقين التي تؤطر مرحلة ما بعد وفاة المرشد الأعلى علي خامنئي، مضافًا إليها أزمات اقتصادية متصاعدة، كل هذه المسائل تتداخل بدورها في تشكيل المسار الذي ستتخذه الحركة الاحتجاجية في إيران بالمرحلة المقبلة.
النظام يراهن على التاريخ
إن متابعة تصريحات قادة النظام حيال الحركة الاحتجاجية الحاليّة، توحي بما لا يقبل الشك أن الأمور ماضية نحو التصعيد، فالتصريحات اللامبالية التي أدلى بها خامنئي خلال لقائه مع ضباط وجنود إيرانيين بمناسبة ذكرى الحرب العراقية الإيرانية، والتصريحات المتشنجة التي أدلى بها الرئيس إبراهيم رئيسي مطالبًا الحكومة بمواجهة هذه الاحتجاجات بحزم، والتصريحات النافية التي أدلى بها وزير الداخلية أحمد وحيدي عندما قال إن التحقيقات أثبتت بأن أميني توفيت ولم تقتل، كلها تشير إلى أن هناك قرارًا سياسيًا واحدًا يمضي نحو المواجهة.
ليس هذا فحسب، بل إن الاحتجاجات الحاليّة أظهرت وحدةً بالخطاب الأيديولوجي الذي يتبناه النظام، عبر الإشارة بأن هذه الاحتجاجات من صنع مؤامرة خارجية تديرها وسائل إعلام عربية، على حد تعبير حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة كيهان المحافظة، وكذلك نواب آخرين عن التيار المحافظ في مجلس الشورى.
كل هذا يؤشر إلى أن هناك وحدة عضوية متكاملة بدأت تستشعر خطر هذه الاحتجاجات، خصوصًا أنها تمس بمطالبها شرعية النظام وأيديولوجيته الدينية، وليس هذا فحسب، بل بدأت تمس بشعاراتها رأس النظام، عندما رفع المحتجون في جامعة طهران وغيرها من الميادين والشوراع شعار “الموت للديكتاتور” في إشارة إلى خامنئي، وفي هذه الحالة يصبح النظام بجميع شخوصه ومؤسساته مهددًا، وليس فقط رأسه، لأنه مصدر الشرعية بالنهاية.
يدرك قادة النظام بأن الحلول الأمنية هي وحدها الكفيلة بإنهاء هذه الاحتجاجات، فعل ذلك عام 1999 عندما دخلت الدبابات إلى داخل حرم جامعة طهران وأخمدت الاحتجاجات، وفعل ذلك عامي 2009 و2017، عندما نزل الحرس الثوري بجميع قواته وقدراته وأخمدها أيضًا، لذلك ليس من المستبعد أن هذا السيناريو سيتكرر في هذه الاحتجاجات أيضًا، وبدأت ملامحه تتضح شيئًا فشيئًا بعد سقوط مدينة أشنويه التابعة لأذربيجان الغربية بيد المحتجين ليلة السبت، حيث دفع النظام بفرقة عسكرية من الحرس الثوري، من أجل استعادة السيطرة على المدينة.
والأكثر من ذلك، فإن تأخر النظام في استخدام القوة الغاشمة، رغم بعض المظاهر الأمنية التي قامت بها قوات الباسيج، قد يشير إلى أن الاحتجاجات الحاليّة قد تطول وتأخذ حيزًا زمنيًا أكبر من الاحتجاجات السابقة، ومن ثم لا بد من استغلال عامل الوقت في إضعافها شيئًا فشيئًا، عبر تأخير الحل الأمني الشامل، لكن هذا الخيار قد لا يصمد طويلًا فيما لو استمرت خريطة الاحتجاجات بالاتساع وشملت مدنًا أخرى، فالتدابير التي اتخذها النظام توحي بأن الاحتجاجات لم تصل حتى اللحظة إلى مرحلة تهديد بقائه أو حتى التأثير فيه.
الذي يتحكم في إدارة ملف الاحتجاجات حتى الآن هو الحرس الثوري
حتى إعلان إيلون ماسك يوم الجمعة عن اتخاذ تدابير لربط شبكة الإنترنت في إيران، بشبكة الإنترنت الفضائي ستارلينك، بالشكل الذي يوفر دخولًا مجانيًا للإنترنت في إيران، بعد قيام الحكومة الإيرانية بقطع خدمة الإنترنت في عموم البلاد، تبدو غير مؤثرة حتى اللحظة، فإيران بعد احتجاجات 2009 أممت شبكة الإنترنت في البلاد وجعلتها تدار وفق ما يعرف بـ”مشروع الإنترنت الوطني”، وبموجب هذا المشروع لا يمكن لأي تطبيق أو جهاز الولوج إلى أي شبكة أخرى خارج نطاق هذا المشروع، وهو ما أثبت فعاليته حتى اللحظة، فما زالت العديد من المدن تواجه صعوبة في الدخول للإنترنت الفضائي ستارلينك.
الحرس هو من يتصدر المواجهة
يمكن القول بأن الذي يتحكم في إدارة ملف الاحتجاجات حتى الآن هو الحرس الثوري، فيما تغيب المؤسسات الأخرى عن المشهد، فحتى المواقف الصاردة عن المؤسسات الأخرى متناسقة بشكل أو بآخر مع رؤية الحرس، وهذا نابع بالأساس من أنه القوة الوحيدة الضامنة لبقاء النظام صامدًا بوجه الاحتجاجات الحاليّة، إذ حرص خامنئي منذ صعوده إلى منصب المرشد الأعلى على الدخول في علاقة عضوية معقدة مع الحرس، وأصبحت شرعية كل منهما مبنية على بقاء الآخر.
ليس هذا فحسب، بل إن مهمة الحفاظ على النظام الحاليّ هي مهمة حصرية للحرس، لا تنازعه في ذلك أي مؤسسة أخرى، وهي مهمة حددتها المادة 150 من الدستور الإيراني الصادر عام 1979، التي أشارت إلى أنه: “تبقى قوات حرس الثورة الإسلامية التي تأسست في الأيام الأولى لانتصار هذه الثورة، راسخةً ثابتةً من أجل أداء دورها في حراسة الثورة ومكاسبها”، وبموجب هذه المادة تتلخص مهام الحرس الثوري في “احتواء أو تصفية العناصر المضادة والمعادية للثورة، والمواجهة المسلحة للثورة المضادة وعناصرها المسلحة كذلك، إضافة إلى حماية إيران من تحركات القوى الخارجية في الداخل، ومساعدة الجمهورية الإسلامية على نشر الثورة، وذلك تحت إشراف وتوجيه المرشد الأعلى للثورة”.
هذا الحق الدستوري والتاريخي المنوط بالحرس الثوري، هو ما جعله اليد الطولى للنظام في مواجهة جميع الاحتجاجات التي شهدتها إيران منذ عام 1999، وكان المتغير الأهم في إخماد جميعها، وهو حتى اللحظة متصدر للمشهد عبر قوات الباسيج، التي بدأت بالنزول المتدرج للشوارع، وتحديدًا في طهران وتبريز ومشهد وأصفهان والأهواز وغيرها من المدن، وقد ينزل الحرس بجميع قواه فيما لو تجاوزت الاحتجاجات الحد المسموح به.
إجمالًا، يمكن القول بأن النظام في إيران اليوم يقف أمام مفترق طرق، فإمكانية التغيير الخارجي داخل الأنظمة الأيديولوجية هي مهمة صعبة، وعادةً ما تكمن الحلول في داخلها، فقد تخلت الصين عن الأيديولوجيا مقابل الاحتفاظ بالنظام، ونجحت في هذه المهمة حتى اللحظة، في حين احتفظ الاتحاد السوفيتي بالأيديولوجيا وتخلى عن النظام، فكانت النتيجة تفكك الاتحاد، وذات الحالة تطرح نفسها على الواقع الإيراني اليوم، مع فارق أن الأيديولوجيا الدينية الحاكمة في إيران، مبنية على قراءة دينية طوباوية تتجاوز التاريخ، وهو ما يجعل الأيديولوجيا والنظام على المحك، في أي عملية تغيير تجري في إيران.