قبل 9 قرون من اليوم كانت القاهرة تحيا واحدة من أكثر حقباتها التاريخية ثراءً عمرانيًّا، حين استظلت بحكم الفاطميين قرابة 18 عقدًا بين عامَي 909 و1171 م، وقتها اكتست عاصمة الخلافة برداء تراثي فريد، فتغيّرت ملامحها وتبدّلت صفاتها، وتحوّلت في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات إلى لوحة فنية لا يناظرها أحد في تلك الفترة.
كان إيمان الفاطميين بالقاهرة كعاصمة لهم مقارنة بالأمصار التي فتحوها، وعلى رأسها المغرب والشام، إيمانًا نابعًا بقيمة ومكانة تلك البقعة التي تتوسّط قلب العالم، فأرسلوا إليها 3 حملات متتالية لفتحها، الأولى عام 301هـ ثم الثانية عام 307هـ والثالثة عام 322هـ/ 933م.
وبعد مقاومة شرسة من العباسيين الذين كانوا يسيطرون على مصر في ذلك الوقت، نجحوا في الحصول على مدينة الأسكندرية حين وهنت الدولة العباسية، ونجح الجيش الفاطمي في الوصول إلى الجيزة حيث قضى على المقاومة الإخشيدية هناك، ليتّخذ قائد الجيش جوهر الصقلي مدينة القاهرة عاصمة للفاطميين في مصر عام 358هـ/ 968م.
وبعيدًا عن تقييم حكم الفاطميين لمصر، إلا أنهم أعادوا صياغة القاهرة بلوحات تراثية غاية في الروعة، استطاعوا من خلالها تقديم العاصمة المصرية في حلّة جديدة، ومظهر برّاق، زاد من ثقلها ثقلًا، ورسّخ مكانتها بصورة جعلتها واحدة من أجمل مدن العالم وليس الدولة الإسلامية فقط.
ورغم تعرض القاهرة لموجات متلاطمة من المد والجزر، وتعاقبت عليها عصور متناقضة دينيًّا وأيديولوجيًّا ما بين أيوبيين ومماليك ثم عثمانيين فعصر حديث، لكنها ظلت بتراثها وعمارتها المميزة شامخة في مواجهة الجميع الذين ذهبوا، لتبقى القاهرة قاهرةً لكل من مرَّ عليها دون أن يوقرها حقها.
في الصفحة 113 من الجزء الرابع لكتابه “النجوم الزاهرة“، يصف المؤرخ المملوكي الشهير ابن تغري بردي بعض المعالم التي جرى بناؤها في عهد العزيز بالله الفاطمي بن المعز، قائلًا: “وفي أيَّامه بنى قصر البحر بالقاهرة الذي لم يكن مثله لا في الشرق ولا في الغرب، وقصر الذهب، وجامع القرافة، وقد محى آثار هؤلاء المبانى حتّى كأنها لم تكن”، كذلك يشيد المؤرخ العظيم ويل ديورانت في موسوعته “قصة الحضارة” بالمكتبة الفاطمية في عهد الحاكم بأمر الله، تلك المكتبة التي حوت 100 ألف مجلد، وكانت متاحة للجميع للاطّلاع عليها، إلا أنها أزيلت كما أزيل العشرات من المعالم الأخرى.
وبعد مرور قرابة 850 عامًا على انتهاء الدولة الفاطمية، ها هي القاهرة تواجه واحدة من أشرس حملات التشويه المتعمَّد، فالمعالم الشامخة على مدار عقود طويلة تتوارى خلف موجات الطرق والكباري والمدن الجديدة، والكنوز التراثية يكسوها غبار العصرنة والتطوير الذي أسدل عليها ستائر الأتربة التي غيّبتها عن العيون ومن ثم عن الاهتمام.
في هذه المادة من ملف “مدن مستترة” نحاول إزالة هذا الغبار عن معالم القاهرة الأثرية وتراثها الفاطمي، الذي كان سببًا رئيسيًّا في بقائها على رادار الاهتمام الحضاري والتراثي كل تلك السنوات، نجوب سوية على جناح السرعة في رحلة عاجلة لنكشف النقاب عن البقع الفنية التراثية المدفونة تحت أنقاض التجاهل وما يسمّى بالتمدن.
شارع المعز.. قلب القاهرة النابض
حين فتح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الفاطمي القاهرة، وخرج المهنّئون لتهنئته بهذا الفتح، نظر القائد يمينًا ويسارًا بهذا المكان الخالد الذي شيّد فيه جوهر الصقلي قصر المُلك، فأشار لقائده قائلًا: “هنا سنبني عاصمة المُلك الإسلامي، قاهرة المعز لدين الله، قاهرة ستقهر أعداء الأمة الإسلامية، سيكون هناك بابان أمام قصري هذا، باب تخرج منه جيوشي فاتحةً لمُلك الأعادي، أسميه باب الفتوح، وآخر أستقبل منه جُندي العائدين منتصرين، أُسميه باب النصر”، ثم أشار إلى الجنوب قائلًا: “وهناك يا قائدي سأُهدي زويلة بابًا لأنهم أعانوني في فتح مصر”، وما بين النصر والفتوح شمالًا وزويلة جنوبًا، شيّد الصقلي شارع المُعز لدين الله الفاطمي.
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون بالقاهرة دون أن تزور شارع المعز لدين الله الفاطمي، بمنطقة الجمالية بالقرب من الجامع الأزهر والمسجد الحسيني، هذا الشارع الذي دُشن عام 969م، نفس تاريخ القاهرة الفاطمية على أيدي المملوكيين، وأصبح فيما بعد قلب القاهرة النابض، وعُرف بعدة أسماء منها شارع الأعظم، وشارع القاهرة، وشارع القصبة، ويضمّ وفق بعض التقديرات أكثر من 1200 محل لبيع المنتجات التراثية.
وسُمّي الشارع نسبة إلى المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور، المولود بالمهدية عام 932م، وهو رابع الخلفاء الفاطميين في إفريقيا، وأول الخلفاء الفاطميين في مصر، والإمام الرابع عشر من أئمة الإسماعيلية، حكم من عام 953م حتى عام 975م.
لم يكن مسموحًا لعامة الشعب المصري بدخول هذا الشارع إلا بتصريح رسمي، على أن يخرجوا منه قبل غروب الشمس، يحدّه من الشمال بابا النصر والفتوح ومن الجنوب شارع باب الوزير وشرقًا شارع الدراسة وفي الغرب شارع بورسعيد الشهير، كما يحتضن هذا الشارع العشرات من المعالم الأثرية التي حوّلته لأحد أهم وأشهر شوارع الدولة الإسلامية.
ومن أشهر المعالم الأثرية التي يحتضنها الشارع جامع الحاكم بأمر الله، وهو ثاني أكبر مساجد القاهرة بعد مسجد ابن طولون، ومسجد سليمان آغا السلحدار المشيَّد على الطريقة العثمانية، ومقسَّم إلى 3 أروقة وملحق به سبيل ماء وكتاب لتحفيظ القرآن، كذلك جامع الأقمر المبني عام 1125م ويعدّ واحدًا من التحف المعمارية الخالدة.
وهناك قصر الأمير بشتاك الذي أنشأه الأمير سيف الدين بشتاك الناصري (أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون)، وذلك خلال القرن الثامن الهجري، مبني وفق طُرُز معمارية فريدة ويتكون من 3 طوابق، ويعدّ لوحة فنية غاية في الروعة تحتض خيوط جمالية وهندسية غير مسبوقة، إذ يجمع بين الطراز العثماني والمصري في بناء واحد مكتمل الأركان.
وبعد القصر بأمتار قليلة توجد مدرسة وقبة نجم الدين أيوب، الواقعة إلى الشرق بين شارع الصاغة وبين القصرين، والتي أنشأها الصالح نجم الدين أيوب لتدريس المذاهب الأربعة في مصر بدلًا من المذهب الشيعي، وتتميز هي الأخرى بعمارة هندسية لافتة للنظر، أقرب للفن الأوروبي منه للمصري أو العثماني، فالواجهة مكسوة بالرخام الأبيض والشبابيك الخمس مصنوعة من النحاس المصبوب، وفوق كل شبّاك لوحة رخامية تعلوها زخارف، وتغطي السبيل قمة من الخشب المغطى بألواح من الرصاص.
شوارع ألفية الأعمار
الناظر إلى القاهرة من أعلى يجد أن شوارعها التي تخترق عمقها تتناغم فيما بينها في تناسق أشبه بخطوط الطول والعرض، ومن قام بالتصميم لتلك المدينة كان يعمل فلكيًّا لا معماريًّا، وهو ما يمكن لمسه بشكل أكثر واقعية مع جولة عابرة في شوارع القاهرة التي يعود بعضها لأكثر من ألف عام، كلها بنيت في العصر الفاطمي.
ربما يتوهّم البعض أن شارع المعز لدين الله هو الوحيد الذي يزيّن عنق القاهرة الفاطمية، لكن هناك العديد من الشوارع الأخرى التي لا تقلّ في مكانتها التاريخية والتراثية عنه، منها شارع خان الخليلي، مقصد سائحي العالم والذي يطوق المسجد الحسين، ويمتدّ في مسارات طويلة وعرضية بشكل بديع.
يرجع تاريخ هذا الشارع إلى أكثر من 6 قرون، ومع ذلك ما زال يحتفظ برونقه وتصميمه المعماري الفريد، وتحول إلى سوق شهير للسياح لابتضاع التماثيل الفرعونية والمشغولات الذهبية والأواني النحاسية والفضية التي تعود إلى العصور الإسلامية وما قبلها، هذا بجانب التنوع الواضح في الأزياء والتصميمات.
وما أن تخرج من خان الخليجي حتى يستقبلك شارع الغورية بحي الجمالية بوسط القاهرة، هذا الممرّ التراثي الذي يبلغ عمره 8 قرون كاملة، ويعدّ إحدى التحف المعمارية للمماليك، ويتميز بتنوع بناياته التي تحولت إلى محلات كبيرة تستقطب يوميًّا آلاف السائحين من كل بلدان العالم، وبه العديد من الآثار الفاطمية والأيوبية والمملوكية.
ومن الغورية إلى شارع الأزهر العظيم، المسافة بينهما ليست بالطويلة، أقل من 5 دقائق مشيًا، هذا الشارع الذي أنشأه جوهر الصقلي وأحاطه بالعديد من الأسوار ليكون مقرًّا حصينًا للخليفة المعز لدين الله ورجاله، وتحول هذا الشارع فيما بعد إلى قلعة للحريات الوطنية التي قاومت المماليك والفرنسيين، وكان من أبرز من قادوا ثوراتهم من خلاله الشيخ عمر مكرم ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، بل إن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ألقى خطابه الشهير أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، من خلال منبر الجامع الأزهر الذي بناه الصقلي في يونيو/ حزيران 970م.
وفي الختام يأتي شارع باب الوزير، المنسوب إلى الوزير نجم الدين محمود وزير السلطان سيف الدين أبو بكر ابن الناصر محمد بن قلاوون، وهو أحد المتاحف المعمارية الإسلامية التي تحتوي على عشرات الدرر التراثية الخالدة من مختلف العصور، لا سيما المملوكي والعثماني، كما أنه مزار سياحي جاذب للسائحين من داخل مصر وخارجها.
أبواب القاهرة.. حصن العاصمة وجسور النصر
كانت الأبواب والأسوار أحد مميزات العهد الفاطمي في مصر، حيث كانت ذا دلالة رمزية عن القوة التي تتمتع بها العاصمة القاهرة، كما أن لها بُعدًا استراتيجيًّا أمنيًّا يحسَب للقائد جوهر الصقلي الذي وجد في تلك الأبواب حصنًا ضد أي اعتداءات خارجية، فطوّق المدينة ببعض الأبواب كانت بمثابة حوائط الصد أمام أي استهداف أجنبي.
وفي عام 969م أصدر القائد الفاطمي أوامره بتشييد 8 أبواب، هي الفتوح، والنصر، وزويلة، والفرج، والمحروق، وبرقية، وسعادة، وقنطرة؛ ومع مرور الوقت لم يتبقَّ من تلك الأبواب الثمانية سوى 3 فقط، هي الفتوح، وزويلة، والنصر؛ أبرزها بطبيعة الحال النصر الذي شُيّد في عهد الخليفة المستنصر بالله على يد قائد جيوشه بدر الجمالي عام 1087م.
الباب يقع في السور الشمالي لمدينة القاهرة وتمَّ تشييده من الأحجار التي تمَّ تفكيكها من المعابد المصرية القديمة، لمنحها قوة ومتانة في مواجهة أي محاولات للاعتداء، وهو ما يفسّر لماذا تبدو جدران الباب منقوشة باللهجة الهيروغليفية القديمة، ويتكوّن من برجَين كبيرَين يحتويان على نقوش حربية، بجانب بعض النقوش على الأحجار المرسوم عليها أدوات قتالية كالدروع والسيوف، أما على باب المدخل فنقش عليه عبارة “بعز الله العزيز الجبار يُحاط الإسلام وتنشأ المعاقل والسيوف”.
وسمّي الباب بهذا الاسم لأن الجيوش المنتصرة كانت تدخل القاهرة من خلاله بعد انتهاء المعارك التي تخوضها، ومن أبرز السلاطين الذين دخلوا هذا الباب وعبروا بجيوشهم المنصور قلاوون، والأشرف خليل، فيما تشير بعض المراجع التاريخية إلى أن الظاهر بيبرس دخل منه حين زار مصر لأول مرة.
الدرب الأحمر.. ممرّ الجيوش ومقرّ النخبة
ما إن تمرَّ من باب زويلة حتى تستقبل واحدة من أقدم المناطق التاريخية في مصر المحروسة، حي الدرب الأحمر، تلك البقعة الساحرة في خصر القاهرة الجنوبي، من الشمال يحدّها حي الجمالية الشهير، وغربًا حي الموسكي وحي عابدين وحي السيدة زينب، وجنوبًا حي الخليفة، وشرقًا طريق النصر.
وعن تسمية هذه المنطقة، يذهب السواد الأكبر من المؤرخين إلى أنها تعود إلى مذبحة المماليك التي نفّذها محمد علي باشا والي مصر عام 1811م، حيث امتلأت شوارع هذا الزقاق بدمائهم بعدما تخلّص الوالي منهم عقب دعوتهم لوليمة كبيرة في قصره، ومن هنا جاءت التسمية بالدرب الأحمر.
ويعدّ هذا الحي الشعبي أكثر أحياء القاهرة ثراءً بالتراث، وإن كان هناك وصف حقيقي له فيمكن القول إنه “قطعة من قلب التاريخ”، فبه أكثر من 65 أثرًا إسلاميًّا ما بين مساجد وأسبلة وحمّامات شعبية وقصور قديمة، تتنوع فيما بينها لحقب تاريخية متعددة، من المماليك والفاطميين والعثمانيين.
ويفوح عبق التاريخ من ثنايا الدرب وشوارعه العتيقة، فها هو شارع سوق السلاح الذي تباع فيه الأسلحة التقليدية من سيوف ورماح ودروع، ويعود تاريخه لأكثر من 700 عام، كذلك شارع الفحامين المشهور بإنتاج الفحم وبيعه، وأيضًا شارع الخيامية ذو الصيت الكبير في صناعة الخيام، وهناك شوارع السروجية والمغربلين، وكلها تتمتع بطراز معماري فريد وتعدّ إحدى مآثر الدولة الفاطمية الخالدة.
وكانت تلك الأجواء بيئة ملائمة لتخريج العشرات من الأعلام في شتى المجالات الفنية والدينية والثقافية، إذ نشأ في هذا الدرب الشيخ محمد رفعت، والشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، والمفكر والأديب محمود سامي البارودي، والمفكر حسن التلمساني وحسن البنا، والأديب يوسف السباعي، والعلَّامة حامد جوهر، والباحثة الحقوققية عائشة راتب، والفنانة شادية، والمفكر علي باشا إبراهيم، وغيرهم.
الملفت للنظر أنه رغم الأهمية التاريخية لهذا الدرب لكنه يعاني من إهمال رسمي واضح، بحسب الباحث في التراث الإسلامي عمرو صالح، الذي استعرض بعض أوجُه تجاهل الدولة لهذا الكنز التراثي الثمين، لافتًا أن شارع المغربلين الذي يعدّ إحدى التحف المعمارية للدرب تحوّل اليوم إلى أسواق للباعة الجائلين منذ سنوات، كما تحولت المساجد التاريخية بالشارع إلى أماكن للقمامة مثل مسجد قوسون الساقي بالقرب من باب زويلة الذي شُيّد عام 1330م، ومسجد جاني بك الأشرفي الذي كان مملوكًا للسلطان الأشرف برسباي أحد سلاطين المماليك وشُيّد عام 1427م.
القباب.. عناوين أضرحة العظام
نظرة عامة من فوق برج الجزيرة الشاهق القابع على أبواب القاهرة على حدود كوبري قصر النيل ناحية الجيزة، يلاحظ أن القاهرة القديمة وكأنها أشبه بـ”فطر عيش الغراب” حيث تحولت إلى مسطح كبير تغطيه مئات القباب التي تشكّل في تصميمها وطرازها الفريد لوحة جمالية رائعة، تلك القباب التي كانت من أبرز المعالم الأثرية للعهد الفاطمي وما تلاه، حيث تمَّ تشييدها فوق المقابر ولعبت دورًا كبيرًا كأحد عناصر العمارة العربية الإسلامية، واتخذت أشكالًا ورسومًا مختلفة من عصر إلى عصر.
وسنلقي الضوء هنا على أبرز 3 قباب في العهد الفاطمي:
قبة أبو الغضنفر في الدراسة بحي الجمالية، شيّدها وزير الخليفة الفاطمي أبو الغضنفر أسد الفائزي أواخر العصر الأيوبي، كما هو مثبت على اللوحة التعريفية المثبتة فوق باب الضريح، والمدون عليها: “أمر بإنشاء هذا المشهد المبارك الأمير المعظم الهُمام حُصن الإسلام شرف الأنام مقدم الجيوش عصام الدين سيف أمير المؤمنين أبو الغضنفر أسد الفائزي الصالحي ابتغاء لمرضاة الله وطلبًا لما عنده من أجره وثوابه في سنة اثنين وخمسين وخمس مائة رحمة الله عليه”.
وتعدّ تلك القبة المئذنة الفاطمية الوحيدة المتبقية من القرن الثاني عشر الميلادي، ويعتبرها المؤرخون آخر مرحلة من مراحل تطور المآذن الفاطمية وهي تشبه كثيرًا مئذنة مسجد الجيوشي مع اختلاف بسيط هو أنها تخلو من الطبق المربع الثاني، وذكرها كبار مؤرّخي المسلمين مثل النجفي في كتابه “بحر الأنساب” والسخاوي في كتابه “المزارات” وعلي باشا مبارك في كتابه “الخطط التوفيقية”.
قبة الشيخ يونس الداودار، وتنسَب إلى الأمير شرف الدين يونس النوروزي الداودار، وتقع بشارع باب الوداع المتفرِّع من سكة المحجر فى مواجهة سبيل شيخو بمنطقة القلعة بوسط القاهرة، وبنيت عام 783هـ/ 1382م خلال أفول عصر المماليك البحرية وابتداء عصر المماليك الشركسية بحكم الظاهر برقوق.
وكانت لفترة تدشينها تأثيرها الواضح على معالمها وعمارتها، حيث تمتاز بجمال زخارفها الخارجية والبعض بها زخارف حلزونية، كما أنها واحدة من القباب الشهيرة في عصر المماليك البحرية المعروف عنهم طرازهم الفريد في القباب نصف الكروية والمضلَّعة والبيضوية.
قبة الجعفري في شارع الأشراف بمنطقة الخليفة، والمنسوبة إلى علي الجعفري الذى ينتهي نسبه عند علي بن أبي طالب، كما هو مدوّن على اللافتة الرخامية الصغيرة الموضوعة أعلى باب القبة، وتعدّ من أبرز النماذج الكاشفة للطراز المعماري الفاطمي المحلّاة بنقوش الأرابيسك وإفريز الكتابة الكوفية المزهّرة حول عنق القبة.
حارة برجوان.. سجن نسل الفاطميين
وفي منتصف شارع المعز لدين الله الفاطمي يتفرّع شارع جانبي تتوسّطه حارة لا تزيد عن عشرات الأمتار، تتسم مبانيها بالانخفاض الواضح مقارنة بجيرانها، مبانٍ تراثية قديمة يفوح من بين ثناياها عبير قرون طويلة من الأصالة، وفي نهايتها يقع مسجد الحسين، إنها حارة “برجوان” الشهيرة.
وتُنسب تلك الحارة إلى أبي الفتوح برجوان، وكان عبدًا مخصيًّا لدى الخليفة الصغير الحاكم بأمر الله بعد وفاة أبيه العزيز الفاطمي، وكان يقوم على رعاية أموره والاهتمام به، حتى تحوّل إلى صاحب السلطة الأكبر في مصر، وكان يعدّه المؤرخون الحاكم الحقيقي للبلاد، أما الخليفة الصغير الذي تولى الخلافة وهو في عمر 12 عامًا، الحاكم بأمر الله، فلم يكن له من الأمر شيء.
وحين كبر الخليفة أراد أن يثبت للجميع أنه قادر على الحكم، وما كان له ذلك إلا بقتل صاحب السلطة الحقيقي، وهو برجوان، وبالفعل أمر بقتله، وهي الواقعة التي ذكرها ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور” حين نقل عن الخليفة الشاب إعلانه لكبار رجال دولته بخبر أمره بقتل خادمه، قائلًا: “إن برجوان عبدي، استخدمته فنصح إليّ، فأحسنتُ إليه، ثم أساء في أشياءٍ عملها، فقتلته”.
وبعد سقوط الفاطميين ضمّت الحارة ما بقيَ من نسل الأسرة الفاطمية، حيث احتجزهم السلطان صلاح الدين الأيوبي في دار برجوان، وكانت تُعرَف حينها بدار المظفر، وذلك قبل أن ينقلهم أخوه السلطان الكامل إلى قلعة الجبل، ومن أشهر من سكن تلك الحارة وعاش بها المؤرخ المعروف تقي الدين المقريزي، صاحب الموسوعة الشهيرة “اتِّعاظ الحُنَفا بذكر الأئمة الفاطميين الخُلَفا”.
ومن أبرز المعالم الأثرية التي لا تزال حاضرة حتى اليوم في الحارة مدرسة القاضي أبو بكر مزهر المبنية عام 885هـ/ 1480م، والبوابة التاريخية التي تزيّن مدخلها، كما تمَّ توثيق مكانة الحارة تاريخيًّا من خلال فيلم سينمائي حمل اسمها، من إنتاج عام 1989 وبطولة الفنان حمدي غيب ويوسف شعبان والفنانة نبيلة عبيد.
عاصمة الألف مئذنة
تلقّب القاهرة بأنها “مدينة الألف مئذنة”، فهي واحدة من أكثر مدن العالم في عدد المساجد التي تحتويها، فوفق آخر إحصاءات صادرة عن محافظة القاهرة هذا العام، فإن عدد المساجد المتواجدة بها والخاضعة لإشراف وزارة الأوقاف يتجاوز 4775 مسجدًا.
وتعدّ المساجد المنسوبة إلى الفاطميين هي الأكثر شهرة في العاصمة المصرية، لما تتمتّع به من طرازات معمارية فريدة ومساحات شاسعة ومواد بناء قوية أهّلتها للصمود في مواجهة عوامل التعرية على مدار مئات السنين، وبعيدًا عن المساجد الشهيرة كالجامع الأزهر ومسجد محمد علي والسلطان حسن وأحمد بن طولون، والتي تستحوذ على الرصيد الأكبر من التغطية الإعلامية، فهناك مساجد أخرى لا تقلّ أهمية وإن لم تحظَ بالأهمية الإعلامية نفسها.
ومن بين تلك المساجد مسجد الحاكم بأمر الله (الأنور) المبني عام 1013م في عهد العزيز بالله الفاطمي، ثم اكتمل بناؤه في عهد ابنه الحاكم بأمر الله، ويعدّ ثاني أكبر المساجد التاريخية بعد جامع أحمد بن طولون، ورابع أقدم المساجد الجامعة في مصر، ويتسم بوجود مئذنتَين على نمط بناء منارة الإسكندرية بحسب وصف الأديب الشهير جمال الغيطاني، الذي خصّص له فصلًا كاملًا في كتابه “ملامح القاهرة في ألف عام” بعنوان “مسجد الحاكم بأمر الله”.
وفي قلب شارع المعز هناك الجامع الأقمر، أحد أقدم الجوامع التاريخية الصغيرة في مصر، إذ تبلغ مساحته 17 مترًا عرضًا بـ 28 مترًا طولًا، بُني عام 1125م تحت إشراف الوزير مأمون البطائحي في عهد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله بن المستعلي، وجُدّد بعد ذلك بقرنَين، ويتخذ شكلًا مستطيلًا وينتصفه صحن صغير محاط بـ 4 أجنحة، وقد شهد حدثًا سياسيًّا مهمًّا خلال العصر الفاطمي حين تحصّن به الوزير المعزول رضوان بن ولخشي، بعد أن فرَّ من سجنه داخل القصر الفاطمي عام 1147م.
وعلى مسافة بعيدة نسبيًّا من منطقة الأزهر والدراسة التي تحتضن معظم المعالم الأثرية الفاطمية هناك جامع الجيوشي، المنسوب إلى أمير الجيوش الفاطمية بدر الجمالي والمبني عام 1085م، أعلى الحافة الغربية لجبل المقطم المُشرف على القاهرة من فوق، ويعدّ أول مسجد في تاريخ مصر الإسلامية مبني بصورة كاملة من الحجارة.
وكان لموقعه الاستراتيجي وظيفة أمنية قديمًا كونه يطلّ من فوق واحدة من أعلى نقاط القاهرة الكبرى، ويصفه الغيطاني في كتابه قائلًا: “وفوق جبل المقطم، بالقرب من مركز السماء تقوم مئذنة الجيوشي، في الشتاء تبدو من خلال الضباب معلَّقةً في فراغ الكون.. تبدو المئذنة كأنها دعاءٌ تجمّد في طريقه إلى أعلى، أو ابتهالٌ غامضٌ خفي، أو رغبةٌ من المعبود في الوصول إلى الخالق”.
أما آخر المساجد التي بُنيت في العصر الفاطمي هو مسجد الصالح طلائع، والذي يربط بين باب زويلة وشارع الدرب الأحمر، بنيَ عام 1160م ويحمل اسم آخر وزراء الدولة الفاطمية الأقوياء، الصالح طلائع بن رُزيْك، الملقّب بأبي الغارات، وبعد بناءه بفترة وجيزة قُتل الصالح من خلال مؤامرة لعمّه الخليفة العاضد آخر خلفاء الفاطميين، لتقع بعدها الفتنة الشهيرة بين وزيرَي مصر شاور وضرغام، التي انتهت بسيطرة الزنكيين ووصول صلاح الدين الأيوبي إلى سدّ الوزارة، ومن ثم إنهاء الدولة الفاطمية رسميًّا.
المحزن في الأمر أن هذا التاريخ العريق لم يشفع لدى الحكومة المصرية الحالية في الحفاظ على تلك المعالم التي تواجه تجاهلًا وإهمالًا غير مسبوقَين، في مقابل الاهتمام بالتحديث العمراني والمدن الجديدة التي تغوّلت على كثير من الآثار والدرر التراثية، بل وصل الأمر إلى هدم بعض الكنوز التراثية لصالح الطرق والكباري، ما أثار حفيظة المهتمين بالتأريخ والآثار، الذين حذّروا من تبعات تلك الاستراتيجية التي تهدد واحدة من أعرق المدن الأثرية في التاريخ الإسلامي.