قرّر آلاف التونسيين مغادرة بلادهم، نحو الفضاء الأوروبي، في رحلة بحث عن حياة كريمة ومستقرة، ونظرًا لصعوبة الحصول على تأشيرة والهجرة القانونية، اختار عدد كبير منهم الهجرة غير القانونية عبر طرق كثيرة.
منهم من اختار الطريق التقليدي وهو البحر الأبيض المتوسط، ومنهم من اختار الطريق الجديد الذي يمرّ عبر تركيا وصربيا، رغم ارتفاع ثمنه وخطورته التي سبق أن تحدثنا عنها في تقرير سابق لنون بوست، وصل عدد كبير من هؤلاء، لكن في الفترة الأخيرة غيرت صربيا معاملتها مع التونسيين، واستبدلت الترحيب بالإهانة، في ظل صمت نظام قيس سعيد وتركيزه فقط على تنزيل برنامج الرئيس الأحادي أرض الواقع وفرضه على التونسيين.
عشرات المحتجزين
تحتجز السلطات الصربية حاليًّا عشرات التونسيين، لا يُعرف عددهم بالضبط، لكن نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قال النائب السابق في البرلمان مجدي الكرباعي إن عدد التونسيين المحتجزين في مطار بلغراد الصربي بلغ 60 شخصًا.
في حديثه لإذاعة محلية تونسية، وصف الناشط السياسي التونسي عملية الاحتجاز بغير القانونية باعتبار أن التونسيين المحتجزين مستوفون كل الإجراءات القانونية، وإلى الآن لم تفلح جهود بعض المنظمات الحقوقية في إخلاء سبيل المحتجزين.
لم تكتف السلطات الصربية باحتجاز التونسيين بل أمعنت في التنكيل بهم، وقبل يومين نشر مواطن تونسي يدعى معز هوام تجربته حين وصوله إلى مطار بلغراد في رحلة قادمة من إسطنبول التركية، حين وصول الرحلة يقول معز إن الأصوات تعالت “التونسيون ليسوا بسياح، عد إلى بلدك”.
لم يسمح لعدد من التونسيين بالعبور ودخول التراب الصربي، وتم جمعهم في غرفة بعد أن أخذ أعوان السلطات الصربية بالمطار جوازات سفرهم والسخرية منهم في محاولات استفزازية صحبتها عبارات غير لائقة من سب وشتم في غياب تم لكل أساليب المعاملة الإنسانية، وفق قوله.
يستبعد العديد من التونسيين تحرك سلطات بلادهم، فهي لم تضمن لهم الكرامة في تونس فما بالك بخارج البلاد
بعد مرور ساعتين على وجودهم في الغرفة تم تقديم تذاكر العودة لـ15 تونسيًا و إجبار 4 أشخاص على إمضاء وثيقة ترحيل من صربيا بالقوة، وفي حال عدم الإمضاء يقوم الأعوان بالإمضاء عوضًا عنك، في مخالفة تامة للقانون الدولي.
يقول معز إنه حاول طلب الماء، بعد أن تمكن منهم العطش، فتم توفير كأس واحد فقط لأكثر من 60 شخصًا، وفق قوله، وقد تعمد بعض الأعوان هناك شرب الماء والنظر إلى المحتجزين والقهقهة بصوت عالٍ، مع التفوه بالعبارات العنصرية.
بعد ساعات من الانتظار والمعاناة داخل هذه الغرفة تم نقل عدد منهم إلى غرفة الإيقاف في المطار التي كانت صغيرة ومتسخة ومكتظة، وفق ما نقله معز في شهادته، دون أن يعرفوا مصيرهم فالسلطات الصربية لا تصرّح بشيء.
لم ينته التنكيل والإهانات هنا، حيث تم إيصاد أبواب غرفة الإيقاف وفتح مكيفات الهواء رغم برودة الطقس، تم حجزهم هناك لمدة 7 ساعات إلى حين توافر الطائرة التي سترحّلهم نحو تركيا التي قدموا منهم، في معارضة تامة للقانون.
صمت تونسي
في شهادته على ما حصل لهم في مطار بلغراد، يقول معز إنهم حاولوا الاتصال بالقنصلية التونسية لمساعدتهم في استرجاع كرامتهم، إلا أنهم لا يتلقوا من العاملين هناك أي إجابة، فقد باءت محاولات الاتصال جميعها بالفشل.
قبل ذلك، قال مجدي الكرباعي إن التونسيين في أوروبا يتعرضون لممارسات عنصرية في ظل صمت الدولة التونسية، وأشار الناشط السياسي والنائب السابق في البرلمان إلى أن الدولة التونسية تخلت عن دورها في الدفاع عن مواطنيها بالخارج.
لم تكلف الحكومة التونسية، ممثلة في وزارة الخارجية، نفسها عناء التحول إلى مطار بلغراد الصربي والتحقيق في الممارسات التي يتعرض لها العشرات من رعاياها هناك، لم تكلف نفسها حتى الاتصال بالسلطات الصربية والاستفسار.
عن احتجاز تونسيين في مطار بلغراد، النائب السابق مجدي الكرباعي يستغرب صمت السلطات التونسية إزاء الاحتجاز القسري لمواطنين تونسيين #تونس #صربيا #حقوق_الإنسان pic.twitter.com/FA7piVqPXG
— Wejdene Bouabdallah (@tounsiahourra) October 31, 2022
لم يطلب التونسيون قطع العلاقات ولا مقاطعة صربيا، فقط طلبوا أبسط الأشياء، وهي استدعاء السفير الصربي وطلب توضيحات عمّا يحصل للتونسيين في مطار بلغراد، وفي أبسط الحالات الاتصال بالسلطات الصربية والضغط عليها لوقف التجاوزات القانونية والأخلاقية الممارسة ضد التونسيين.
يستبعد العديد من التونسيين تحرك سلطات بلادهم، فهي لم تضمن لهم الكرامة في تونس فما بالك بخارج البلاد، فالسلطات لا وقت لها لهذه المسائل، فهي تسارع الوقت لفرض برنامج الرئيس الأحادي على التونسيين وتنزيله أرض الواقع.
لم تتحرك السلطات التونسية عندما فرض الصرب التأشيرة على التونسيين في قرار فردي دون التشاور مع تونس، فما بالك الآن، وهو ما يؤكد أن نظام قيس سعيد غير مكترث بحياة التونسيين عكس ما يدّعي خلال خطبه المتكررة.
ما الذي دفعهم للسفر إلى صربيا؟
البعض يقول، ما الذي دفعهم للسفر إلى صربيا؟ خاصة أن هذه الدولة الأوروبية فرضت منذ أيام قليلة التأشيرة على التونسيين، ما يعني أنها غيرت سياستها تجاه التونسيين القادمين إليها في ظل ارتفاع عددهم في الأشهر الأخيرة الماضية وبلوغهم قرابة 20 ألفًا.
لن نتحدث عن التونسيين القاصدين صربيا لأجل السياحة فعددهم قليل، ذلك أن صربيا ليست وجهة مفضلة للتونسيين للسياح ولديهم العديد من الوجهات غيرها على رأسها تركيا ومصر والمغرب والأردن، فضلًا عن دول أوروبا الغربية وبعض الدول الآسيوية.
اختار نظام قيس سعيد الصمت، فلا وقت لديه للتنديد بالممارسات المهينة التي يتعرض لها مواطنوه في الخارج
سنتحدث عن دوافع الفئة الأخرى التي تقصد صربيا، للعبور نحو الفضاء الأوروبي، حيث اختار عشرات آلاف التونسيين مغادرة البلاد، نتيجة تأزُّم الوضع السياسي وتشديد القبضة البوليسية والتجاء نظام قيس سعيّد لفرض إجراءات اقتصادية استجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي والقوى المانحة، كانت تداعياتها كبيرة على التونسيين.
دفع انتشار الفقر وبلوغ نسبه مستويات عالية وانتهاك الحريات وارتفاع معدلات البطالة وتعطّل الحياة السياسية، العديد من التونسيين إلى المخاطرة بحياتهم والتوجه نحو أوروبا عبر صربيا، فلا بوادر للإصلاح في القريب أو البعيد، والرئيس أظهر أنه لا يكترث إلا بتعويم مشروع حكمه.
اختار آلاف التونسيين اجتياز الحدود الصربية الأوروبية، رغم خطورة هذا الخط الجديد وتكلفته المالية العالية، وتصدرت محافظة تطاوين جنوب البلاد قائمة عدد المهاجرين غير النظاميين عبر هذا الخط، ولا توجد إحصاءات رسمية لعدد المهاجرين عبر هذا الخط لكن يمكن تقديرها بأكثر من 15 ألف.
كيفاش عايشين التوانسة الموقوفين في مطار بلغراد ؟ شهادة تونسي اثنين من اخواتو بين الموقوفين..#تونس #صربيا pic.twitter.com/I8UdnfCDCZ
— Radio Mosaïque FM (@RadioMosaiqueFM) October 31, 2022
لم تكن صربيا المكان الوحيد الذي يتعرض فيه تونسيون للتنكيل والإهانة، إذ تعرض عشرات التونسيين للإذلال في أماكن عدة منها تركيا وفرنسا ومصر وليبيا وغيرها من الدول التي يتجهون إليها إما للسياحة وإما للعمل وإما الدراسة، ورغم ذلك، لم تصدر عن تونس أية مواقف تذكر لصالح مواطنيها.