أتحدث عمّا بعد الانقلاب كما لو أنه حقيقة واقعة لا ريب فيها. نعم مؤشرات كثيرة تدفع إلى رؤية نهاية مرحلة قيس سعيّد والأمر الآن مسألة وقت. والأمر يتعلق بترتيب المشهد بعده.
لقد انطلقت معركة مرحلة تعويضه في الداخل بتنسيق كامل مع الجهات الراعية، أو بالأحرى قوى الهيمنة المحيطة بالبلد، والتي اعتبرتُها ولا أزال هي الفاعل الرئيسي في ترتيب المشهد التونسي بعد الثورة، وأخصّص على الدور الفرنسي الفعّال في تونس.
من هنا مأتى سؤالي/ العنوان، هل سنشهد تغييرًا في المشهد السياسي وإعادة توزيع السلطة بين فرقاء الوطن على قاعدة الديمقراطية؟ وكأني أجبت ضمنًا أن لا جديد تحت شمس تونس، فالتونسيون لم يقرأوا كارثة الانقلاب قراءة ديمقراطية. سأشرح: إن الأفكار والتكتيكات والتحالفات ما قبل الانقلاب لا تزال تعيد إنتاج نفس المشهد القائم أصلًا على معركة استئصال مدمّرة ولا ترغب في حلّ.
المنظومة الفرنسية في تونس لا تزال تحكم
ما أسميه بالمنظومة الفرنسية هي منظومة حكمَ بن علي بأجهزتها الصلبة وأموالها وإعلامها، لقد استبشرت مكوناتها بالانقلاب بل ساهمت تهيئة الأرضية له، فصنعته وحمته من المعارضة منذ أعلنت المعارضة أنه انقلاب.
مكونات هذه المنظومة هي طبقة رأس المال الريعي التي خلقها بن علي ومكّنها من رقبة الاقتصاد، تعاضدها الأجهزة الأمنية ذات العقيدة المحافظة، والتي قيّدت التجربة الديمقراطية أيديها.
أما عصاتها الغليظة فهي أولًا جهاز إعلامي متمرّس بالتضليل والتحريف ربّته وكالة الاتصال الخارجي، وثانيًا النقابة المنحرفة عن العمل النقابي، والتي عملت على تكسير كل محاولات النهوض بعملية اقتصادية منذ الثورة بعدد لم يعد يحصيه أحد من الإضرابات الوحشية في القطاعات المنتجة والإدارة العمومية.
وفي الإعلام والنقابة سكن اليسار الاستئصالي ودعمه القوميون وواصلوا مهمتهم الوحيدة، وهي العمل على تحطيم حزب النهضة خاصة، وكل من اقترب منه متعاطفًا أو متحالفًا على قواعد الديمقراطية منذ انتخابات 2011.
تجمعت هذه المنظومة في حزب النداء مستفيدة أولًا من حنكة الباجي قائد السبسي السياسية، ومن أخطاء كثيرة ارتكبتها منظومة الثورة التي حكمت بين عام 2012 وبداية عام 2014.
وقد دعمتها فرنسا باغتيالَين سياسيَّين أوشكا أن يحطما الدولة نفسها، وفرضت على التونسيين حوارًا وطنيًّا مغشوشًا خرجت منه المنظومة على الحكم ثانية في انتخابات 2014. لكن حتى نهاية الدورة النيابية ظلت الديمقراطية في المشهد محتفظة بشرعية دستور 2014، وعلى أساسه نظمت انتخابات 2019، لكن القوس الديمقراطي المفتوح ظلَّ يهدد المنظومة حتى انقلبت عليه.
تفكُّك حزب النداء وعودة النهضة كحزب أول في البرلمان، ولو بتراجع حجمه ورصيده الشعبي، لم يكفها لتقبل بنتائج اللعبة، فأجهزت على التجربة بالانقلاب.
لكن أخطاء الانقلاب، وخاصة إصداره لقانون مالية، أشعرها بضرورة الحركة، فالقانون يمسّ كثيرًا من بحبوحتها المالية التي ظلت تستفيد خفية من وراء الرغاء الديمقراطي السائد.
من هنا تولَّد سؤال إلى متى يمكنها الصبر على الانقلاب، وقد بدأنا نقرأ التململ في أوساط المال والأعمال وفي قطاع الإدارة والمهن الصغرى المستهدفة في مداخيلها (لا يجب أن نغفل هنا أن مكوّنًا هامًّا من هذه الطبقة هو رأس مال فرنسي يشتغل في الغالب بواجهات تونسية)، كأن قانون المالية جاء انقلابًا من داخل الانقلاب على من أنجز الانقلاب وحماه.
فرنسا تعيد تشكيل منظومتها
عواء هذه الطبقة بدأ يُسمَع بوضوح، لكن دون حديث عن الرجوع إلى الديمقراطية، بل إعادة التشكُّل على قاعدة غير دستور 2014، ومكوناته تتنادى إلى حلول سريعة محتفظة بمشروعها الاستئصالي نفسه. فكل الحلول ممكنة إلا حلًّا يعود فيه حزب النهضة ومن معه إلى مشهد ما بعد الانقلاب.
هنا مرة أخرى نجد فرنسا تتحرك من وراء ستر المنظومة وتعيد تجميع أنصارها بالداخل، فمعركة الاستئصال ليست معركة تونسية بل معركة فرنسية في تونس تجد لها أنصارًا في الداخل.
أنصارها هم أنفسهم وفي مقدمتهم عصاها النقابية الغليظة التي استعادت صوتها المهدِّد بالويل والثبور فجأة، بعد أن كانت مركوب الانقلاب وسلاحه، أما جهازها الإعلامي فلم يزده الانقلاب إلا قوة وحيلة.
يغيب عن المشهد شخص في قيمة الباجي قائد السبسي يمكنه أن يُتّخَذ ستارًا للتجميع، فالمنظومة تعاني فعلًا من غياب شخصية جامعة (زعامة). لم تتبيّن لنا بعد ملامح هذه الشخصية البديلة، لكننا لا نرى فرنسا عاجزة عن اقتراح شخص من دوائرها القريبة ممّن تربّى في جامعاتها ومؤسساتها، فقد سبق لها أن أرسلت لنا وزراء (مفتاح في اليد) في حكومة 2011.
ليس لدينا علم دقيق بالبديل المحتمل، خاصة أن صراعات جهوية عميقة تشقّ منظومة المال والأعمال بين كتلة الساحل وكتل العاصمة، وكلها تعتبر أنها صاحبة حق تاريخي في السلطة، وهذه نقطة ضعف المنظومة حتى في زمن الباجي نفسه، والتي كان من نتائجها سرعة تفكُّك حزب النداء وانقساماته.
انفجار الدعوات للحوار الوطني
المنظومة قوية لكنها بلا رأس موحّد (والبأس من مكوناتها شديد)، وتستشعر وعورة الطريق بعد الانقلاب وتحتاج غطاء تمسح فيه عجزها. نراها مذهولة من بقاء حزب النهضة متماسكًا رغم الهرسلة الطويلة، ونعتقد أنها تشعر باستحالة التقدم دونه، لكننا نسمعها تقول كيف نستدرجه ونستعمله دون أن نمكّنه من أي جزء من السلطة.
لأن بقاءه في المعارضة (في صورة تشكُّل حكومة طوارئ أو حكومة إنقاذ) سيجعل الحكم عسيرًا، بل سيمنح الحزب موقع المزايد المرتاح من خارج السلطة، ويفتح له باب استقطاب شعبي بخطاب اجتماعي سهل التأليف، ولو لم يكن الحزب ميّالًا إلى ذلك في ما تابعنا من حديثه الاقتصادي الضنين.
لقد بدأت الاقتراحات تتوالى متخلية عن الرئيس المنقلب (فهو لم يعد على أجندة أحد)، وتسلط ضغطًا هائلًا على حكومته ضمن مناورة بعض فصولها حصار الرئيس في قصره حتى نهاية مدته، وإسقاط حكومته وتعويضها بغير إرادته، دون أية إشارة إلى استعادة العمل بشرعية دستور 2014، وإنما الاكتفاء بالتخلي عن نتائج انتخاباته المهزلة، والتقدم بلا دستور ولا برلمان ولا محكمة دستورية ولا هيئات دستورية رقابية.
في هذه الترقيعات المناورة، نستشعر اضطراب المنظومة وقلّة حيلتها (رغم قوتها على الأرض) أمام عدوها الداخلي الماكث في مكانه لا يتزحزح. إنها لا تتخلى عن غطرستها ولا تتنازل لتقبل به شريكًا في أية مرحلة.
هل تنظّم الجزائر لقاء باريس الثاني؟
خرج الرئيس تبون بخطاب هادئ يمجّد النخبة التونسية وقدراتها التفاوضية العقلانية، ولم يمجّد الانقلاب كما اعتاد، وقد رأينا في ثنايا كلامه ضمنًا لا صراحة شعورًا بخطر فوضى تونسية محتملة تعكّر صفو أمنه، بما يجعل حلّ أزمة الحكم في تونس أولوية جزائرية.
ولأننا نعرف ارتباط حكم الجزائر، وخاصة جنرالاتها، بفرنسا، فإننا نرجّح أو نتوقّع دعوة غير بعيدة لمائدة حوار بإيعاز فرنسي في الجزائر، تكون بمثابة مائدة حوار كالتي جرت في فرنسا في صيف 2013 بين الغنوشي والباجي، وتكون مخرجاتها في تونس إنهاء الانقلاب بشكل غير عنيف (لا يمسّ الجزائر بسوء)، وإعادة تقسيم السلطة طبقًا لهوى فرنسا وجنرالات الجزائر أولًا، مع هامش شكلي للاستهلاك الإعلامي يوحي بأن الاتفاق تونسي-تونسي وليس إملاءات فرنسية.
ما زال الغنوشي هنا مفاوضًا يلوح بالحوار بدوره، لكن من يكون مقابله على الطاولة؟ لقد أرخى الحبل مرة أخرى بتصريحه لموقع “عربي 21″، بأن النقابة شريك محترم في الحوار، فهل تمثّل النقابة رأس حربة المنظومة في التفاوض على ما بعد الانقلاب؟
لا يجب أن يغيب عن البال أن المنظومة نفسها لا تحمل التقدير نفسه للنقابة، فهي عندها مجرد عصا غليظة لضرب النهضة فكيف تسلّم لها الحديث باسمها؟ كما لا يجب أن نغفل أن التفاوض مع النهضة يطلق أجنحتها بشرعية الحل القادم، فتصير شريكًا أو أكثر في ما بعد الانقلاب، بعد أن كان ينتَظر منه إنهاء وجودها السياسي والتنظيمي (وهذا مطلب فرنسا الأول).
ما زال المشهد على حاله مقسّم في الداخل ومحكوم بأزمته الاستئصالية، عاجز عن تخريج وجوه سياسية ديمقراطية تقدّم الحل الوطني على الخضوع للإملاءات الخارجية.
لذلك نعود إلى السؤال/ العنوان: الانقلاب يتجه إلى أزمة وجود (وهو ميت سريريًّا)، خاصة بعد الانتخابات المهزلة وقانون المالية الذي سلّطه على الناس، لكن بديله عاجز عن الحلول محلّه، لأنه لم يقرأ خطر غياب الديمقراطية ذات المرجعية الثابتة، ولا يريد أن يقرأ.
هنا سنعتبر أن المسارعة إلى التفاوض معه أو مع المكونات التي ساندته ستمثل إنقاذًا له ولحزامه الاستئصالي، وهي اللحظة (لحظة عضّ الأصابع) التي يكون فيها الصبر على المكاره أفضل من المسارعة إلى حلّ لا يكون حناء ولا حندقوقة (الحندقوقة نبات مرّ يشبه البرسيم لا تأكله السوائم إلا في سنوات المَحل).
لو سألت رأيي في الأمر، لفضّلت أكل الحندقوقة على أن أخضع من جديد لحكم النقابة المجرمة، عصا الجريمة التي خربت الثورة.