قال عنه الإمام شمس الدين الذهبي: “إمام متفنن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفود عقله وفضله”، فيما وصفه ابن العماد بأنه كان “إمامًا عالمًا غوَّاصًا من الغوَّاصين على معاني الحديث، حسن التصنيف، جيِّد النقل”، أما العلامة الفقيه محمد مخلوف فلقبه بـ”العالم الإمام، الجليل، الفاضل، الفقيه، المفسِّر، المحصِّل، المتقن، الكامل، كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العاملين”، هذا قليل من كثير مما قيل بشأن العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي الأندلسي المكني بـ”القرطبي”.
عاش القرطبي حياته في خدمة الإسلام، دينًا ودنيا، عاش مأساة قرطبة وتجرع مرارة السقوط، وانتقل بعد ذلك إلى القاهرة التي كانت مقصد العلماء في ذلك الوقت، قضى سنوات عمره في البحث والدراسة والتأليف، كان تواضعه وزهده وعلمه عناوين ثابتة لكل من قصده من المسلمين وغير المسلمين، فأثرى الحضارة بمداد فقهي لم يتوقف حتى اليوم.
ويظل كتابه الخالد “الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وأحكام الفرقان” الموسوعة التي لا يمكن الاستغناء عنها، للعلماء وطلبة العلم على حد سواء، ومن ثم سُمي باسمه “تفسير القرطبي”، فهو التفسير الأكثر انتشارًا والأيسر فهمًا والأشمل موضوعًا على موائد الباحثين ورواد العلم، حتى بات القرطبي مفسر عصره وفقيه الأندلس الأبرز ودرة تاج علماء الأمة وأحد أعلامها الثقات.
النسب والكنية والمولد.. جدل لا يتوقف
ظل نسب القرطبي وكنيته محل جدال بين الباحثين لسنوات طويلة، فبحسب الداعية الإسلامي أستاذ الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية في المغرب الدكتور هشام تهتاه، فإن اسمه معلوم فهو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي، أما كنيته “أبو عبد الله” ففيها احتمالان: الأول أنه كُني بأبي عبد الله كما هو معتاد لدى العرب في ذلك الوقت حيث كانوا يسمون بأسماء أبنائهم، فهو محمد وابنه عبد الله، لذا سمي بأبي عبد الله، غير أن هذا الاحتمال ربما يكون مستبعدًا إذ لم يرد في كتب السير أن للقرطبي ابنًا يسمى عبد الله.
أما الاحتمال الثاني وراء تسميته بأبي عبد الله فيرجع إلى تسميته بمحمد في الأساس، حيث كان يطلق على محمد اصطلاحيًا أبي عبد الله، وقد جرت العادة في المجتمعات العربية قديمًا على ذلك، كما هو الحال حين يطلق على أحمد أبي العباس وعلي أبي الحسين.
وعن نسبه فلا خلاف في ذلك بين العلماء، فهو يمتد في جذوره إلى الخزرج وهم أحد فروع الأنصار الذين ذكرهم القرآن الكريم ممن نصروا النبي عليه السلام، وفضائلهم على المسلمين وفي نشر الدعوة لا يمكن تجاهلها بأي شكل من الأشكال، لذلك قيل له الأنصاري الخزرجي.
القرطبي: “كنت في زمن الشباب أنا وغيري ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة”
وكما النسب كان المولد هو الآخر محل بحث وخلاف في ظل ندرة المعلومات، فذهب الكثير من الباحثين إلى أنه لم يرد صراحة مكان ولادة القرطبي، رغم ذهاب عدد من المؤرخين إلى أن قرطبة هي مولده الأساسي ومن ثم جاء لقبه بالقرطبي، وهو ما حدث كذلك مع تاريخ ولادته، فبينما يشير المؤرخ محمد زلط إلى أنه كان بين 580 – 590 هجرية، ذهب الباحث محمد الدسوقي إلى أنه ولد أوائل القرن السابع الهجري.
وعلى الأرجح وفق ما أشار الباحث التاريخي الحسين أزكيت إلى أن القرطبي ولد مستهل القرن السابع الهجري وأواخر القرن السادس في عصر دولة الموحدين التي كانت تحكم بلاد المغرب والأندلس في الفترة بين 515 – 668 هجرية التي أسسها محمد بن عبد الله بن تومرت المغربي.
وقد كتب أستاذ أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، محمد إبراهيم الحفناوي، ترجمة للقرطبي قال فيها: “هو إلامام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المفسر، ولد بقرطبة من بلاد الأندلس وتعلم فيها العربية والشعر إلى جانب تعلمه القرآن الكريم، وتلقى بها ثقافته الواسعة في الفقه والنحو والقراءات، كما درس البلاغة وعلوم القرآن وغيرها، ثم قدم إلى مصر واستقر بها، وكانت وفاته، بصعيدها ليلة الإثنين التاسع من شهر شوال سنة 671هـ. وقبره يزار الآن بالمنيا بشرق النيل، وكان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين، زاهدًا في الدنيا مشغولًا بما يعنيه من أمور الآخرة، قضى عمره مشغولًا بين عبادة وتأليف”.
نشأة كادحة في كنف العلم
نشأ القرطبي في أسرة كادحة، فكان والده يعمل في أحد الحقول الزراعية بقرطبة، كما عمل هو نفسه على الدواب في نقل التراب إلى من يقومون ببعض الحرف، وكان لديه ثوب واحد فقط يسير به بين الناس دون ارتداء عمامة (طاقية)، وهو ما فسره العلماء بأنه كان نوعًا من الزهد والتقشف، إذ لم يملك أبو عبد الله ثمن تلك العمامة.
يقول القرطبي متحدثًا عن نفسه، في كتابه “التذكرة” واصفًا حاله في فترة شبابه: “لقد كنت في زمن الشباب أنا وغيري ننقل التراب على الدواب من مقبرة عندنا تسمى بمقبرة اليهود خارج قرطبة، وقد اختلط – يقصد التراب – بعظام من هناك ولحومهم وشعورهم وأبشارهم إلى الذين يصنعون القرمد للشقف”، وكانت تلك المهنة مصدر الرزق الوحيد لأبي عبد الله في ذلك الوقت.
وجد أبو عبد الله نفسه وضالته في طلب العلم والتعلم، إذ كانت الدولة وقتها تحتضن كل من يرغب في التعلم وتكرم العلماء وتوقرهم، كمان كانت المؤلفات هناك والوراقة هي التجارة الرابحة
ولم يُنقل شيء عن أسرة أبي عبد الله، ولا يعلم إذا ما كان له أخوة أم لا، فكل ما ذكر هو والده فقط، وذلك حين تحدث القرطبي عن خبر استشهاده على أيدي الأعداء قائلًا: “أغار العدو – قصمه الله – صبيحة الثالث من رمضان المعظم، سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة، فقتل وأسر، وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله”.
وفي المقابل، يبدو أن قسوة الحياة الاقتصادية للإمام عوضها الله ببيئة خصبة علميًا، حيث عاش الفقيه في وقت كانت تحيا فيه قرطبة والأندلس أزهى عصورها ومحطاتها الحضارية، فكانت نموذجًا حضاريًا يحتذى به، وكانت قبلة العلماء وطلاب العلم من كل حدب وصوب، وكانت تعج مساجد قرطبة بالعلماء الأفذاذ والفقهاء العظام.
ففي تلك البيئة وجد أبو عبد الله نفسه وضالته في طلب العلم والتعلم، إذ كانت الدولة وقتها تحتضن كل من يرغب في التعلم وتكرم العلماء وتوقرهم، كمان كانت المؤلفات هناك والوراقة هي التجارة الرابحة، ومن هنا بدأ القرطبي مسيرته نحو بلوغ مقصده في أن يطئ بأقدامه ثرى الفقه والتفسير والعلوم الشرعية ليبلغ مع مرور الوقت مراتب الكبار وأعلام الأمة ومصابحها المنيرة.
مؤهلات النبوغ والنباهة
هناك مقومات وسمات لا بد أن تتمتع بها الشخصية التي تطرق باب العلم والتعلم، فهي المقدمات التي تُبنى على أساسها النتائج التي تتحقق لاحقًا، وكانت شخصية القرطبي تتمتع بحزمة ملامح أهلته لأن يكون إمام الأندلس الأول ومفسرها الأعظم، وكان على رأس تلك الملامح الزهد والورع، فقد كان من الزاهدين الورعين بشهادة المؤرخين دون استثناء، فقال عنه ابن فرحون المالكي: “كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة”، وفي ذلك ألف الإمام كتباين كاملين عن الزهد هما “قمع الحرص بالزهد والقناعة” و”التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة” وفيهما تحدث كثيرًا عن الفساد وانتشار الحرام والوقوع في المحرمات وضرورة الانتصار للفقراء.
ساعد هذا الزهد في أن يكون القرطبي شجاعًا لا يهاب أحد، صداحًا بالحق، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان يعلن رأيه بكل صراحة وقوة دون أي خوف أو قلق أو حسابات شخصية، ما جعله محط احترام الجميع، ساعده على ذلك علمه الغزير ونيته الصادقة في تعلم الدين الصحيح وفق مقاصده الراسخة التي لا تتمايل مع الزمن ولا تتغير بتغير السلطان.
ففي كتابه “التذكرة” يقول: “هذا هو الزمان الذي استولى فيه الباطل على الحق، وتغلَّب فيه العبيد على الأحرار من الخلق، فباعوا الأحكام، ورضي بذلك منهم الحكام، فصار الحكم مكسًا، والحق عكسًا لا يوصل إليه، ولا يقدر عليه، بدَّلوا دين الله، وغيَّروا حكم الله، سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}”.
قدم القرطبي للمكتبة الإسلامية عشرات الكتب والمؤلفات التي أحدثت نقلة نوعية في عالم التفسير، لما اتبعه من منهج علمي رصين وأمانة في النقل والاقتباس مع تبسيط الأمور
لم تكن الشجاعة لدى القرطبي رفيقة التكلف والغرور، بل كان بسيطًا متواضعًا، لم يعرف عنه البذخ ولا الإفراط في أي شيء من مأكل أو مشرب أو ملبس، وكان جادًا صارمًا في أمور حياته اليومية، وكانت لديه مثابرة قوية ورغبة متفجرة في أن ينهل من العلم دون كلل أو ملل، حيث كان مؤمنًا إيمانًا لا يقطعه الشك في قيمة ومكانة العلم الذي يستحق منه كل دقيقة من حياته.
وكان يتمتع الإمام بأمانة علمية كبيرة، فكان يلتزم بالأصول ونسب الفضل لأهله، وإعطاء كل ذي حق من العلماء والباحثين حقه، فما تجاوز أحدهم يومًا ولم يذكر عنه أنه نسب لنفسه ما ليس له، بل كان يتخذ من الأمانة منهاج حياة ودراسة وهو ما أكده في كل كتب تفسيره حين كان يزينها بالعبارة التالية: “وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف إلى قائله”.
كل تلك السمات والصفات كانت كافية وكفيلة لدفع القرطبي نحو المزيد من الاجتهاد وكثرة المطالعات، فقضى الإمام جل حياته في القراءة والتعلم وما كان يسمع عن كتاب أو مؤلف إلا وتسابق لقراءته والنهل منه، وقد ذكر في كتابه “التذكرة”: “وكنتُ بالأندلس قد قرأتُ أكثر كتب المقرئ الفاضل أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان، تُوُفِّي سنةَ أربعٍ وأربعين وأربعمائة”، وفي مواضع أخرى ذكر أنه كان مولعًا بمؤلفات حافظ المغرب (ابن عبد البر)، والفقيه العلامة المالكي (ابن العربي)، في إشارة إلى حرصه منذ نعومة أظفاره على القراءة والاطلاع.
شيوخ الإمام
تربى القرطبي في حجر عشرات العلماء ممن شُهد لهم بالثقل والمكانة الكبيرة، فأخصبوا أرضه وأينعوا زرعه وأزهروا ورده وأروا وديانه فكان نهرًا متدفقًا يروي ظمأ طلاب العلم ويسد رمق الباحثين عن التعلم، ومن أبرز من نهل عنهم الشيخ العلامة الإمام المحدث ظافر بن علي بن فتوح الأزدي الإسكندراني المالكي المعروف باسم أبو محمد عبد الوهاب بن رواج، كذلك العلامة بهاء الدين أبو الحسن علي بن هبة الله بن سلامة المصري الشافعي المعروف باسم اغبن الجميزي.
ومن أعلام شيوخه أبو العباس، ضياء الدين أحمد بن عمر بن إبراهيم المالكي القرطبي، أحد كبار مشايخ الأندلس وأبرز علمائها، وهو من أكثر ممن نهل عنهم القرطبي، والحسن بن محمد بن عمرو التَّيْمِيُّ النيسابوري المعروف باسم الحسن البكري، وأبو علي صدر الدين البكري، المعروف بالدمشقي.
هناك أيضًا العالم الجليل أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد التيسي، المعروف بـ”الإمام ابن أبي حجّة”، قطب قرطبة الكبير، وكان علمًا في اللغة العربية وتعليمها، ومعه القاضي المعروف الفهامة أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف الأنصاري القرطبي المالكي، الذي عرف بالإمام أبو الحسن علي بن قطرال، وكان عالمًا شرعيًا وقاضيًا جليلًا.
ومن أعاظم علماء ومشايخ قرطبة الذين تتلمذ أبو عبد الله علي يديهم، الإمام أبو عامر الأشعري وأبو عامر يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع الأشعري، وكان من القضاة العدول، وأخذ القرطبي عنه الكثير، وهناك كذلك الإمام أبو الحسن علي اللخمي، الشهير بابن الجيزي الذي كان من فحول العلم والفقه في مصر.
عالم قرطبة ومفسر الأندلس
قدم القرطبي للمكتبة الإسلامية عشرات الكتب والمؤلفات التي أحدثت نقلة نوعية في عالم التفسير، لما اتبعه من منهج علمي رصين وأمانة في النقل والاقتباس مع تبسيط الأمور وفق مقتضيات العصر، هذا بخلاف بحار العلم التي غاص فيها على مدار سنوات عمره، فنهل منها اللآلئ والدرر التي أخرجها في تلك المؤلفات.
ولعل موسوعته “الجامع لأحكام القرآن المبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان” هي الأشهر بين مكتبته الخالدة، وهو الكتاب الذي يعده العلماء أعظم كتب التفسير، فعنه قال ابن فرحون “هو من أجلِّ التفاسير وأعظمها نفعًا، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن، واستنباط الأدلة، وذكر القراءات، والإعراب، والناسخ والمنسوخ”، فيما وصفه العلامة الصفدي بقوله: “وقد سارت بتفسيره الركبان، وهو تفسير عظيم في بابه”.
ومما زاد من رصانة هذا المؤلف بحسب الباحثين، الأمانة العلمية التي اتبعها القرطبي في منهج الكتابة، مع خلوه من الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة والموتورة، إذ كان العالم الأندلسي بحرًا في النقد والتمحيص ولديه قدرة كبيرة على التمييز بين الغث والسمين.
ومن المؤلفات الخالدة التي فصلت القرآن الكريم ولاقت إعجاب وتقدير العلماء والباحثين “التذكار في أفضل الأذكار”، وقد ذكر القرطبي في مقدمته نبذة مختصرة شرح فيها فحوى الكتاب حين قال عنه: “وهو كتاب يحتوي ما يدل على فضل القرآن، وقارئه، ومستمعه، والعامل به، وحُرمته، وحرمة القرآن، وكيفية تلاوته، والبكاء عنده، وفضل من قرأه معربًا، وذم من قرأه رياءً وعجبًا..”، وعنه قال ابن فرحون “وضعه على طريقة التبيان للنووي، لكن هذا أتم منه وأكثر علمًا”.
وهناك “التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة” الذي قدم فيه القرطبي العديد من الأخبار عن الموتى والفتن وأشراط الساعة والجنة والنار والحشر والصراط، وهو المؤلف الذي قال عنه محمد مخلوف: “كتاب ليس له مثيل في بابه” وأحد أكثر المؤلفات انتشارًا وتعددًا في طبعاته.
كان القرطبي جامعة عظيمة تخرج فيها عشرات الطلاب والباحثين ممن صاروا أئمة وعلماء فيما بعد، حملوا لواء الفقه والتفسير والشريعة، ونهضوا بالأمة إلى حيث الريادة والتقدم، وكان من أشهر التلاميذ الذين تلقوا العلم على يد العالم الأندلسي، ابنه شهاب الدين أحمد وأبو بكر محمد ابن الإمام الشهيد كمال الدين وضياء الدين أحمد بن أبي السعود المعروف بالسطريجي وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن إبراهيم بن الزبير بن عاصم الثقفي العاصمي الغرناطي.
نهاية الرحلة
قضى القرطبي حياته جلها في العلم وإثراء مكتبته بأمهات المؤلفات والموسوعات التي يسرت على الناس فهمهم للقرآن وقربتهم من الله عز وجل، كما أنها فتحت أبوابًا واسعةً أمام الاجتهاد في النص والتأويل بروح عصرية لا تفارق الأصول والثوابت، وكان ذلك سر شهرته العظيمة التي طبقت الآفاق، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا.
وقد فر أبو عبدالله هاربًا من قرطبة بعدما دخلها الأعداء واستولوا عليها، وقد ذكر معاناته في الهروب والفرار عند تفسيره للأية (45) من سورة الإسراء {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخرةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} حين قال “ولقد اتفق لي ببلاد الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا؛ وذلك أني هربت أمام العدو، وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد، ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ سورة (يس) وغير ذلك من القرآن، فعبرا عليّ ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر: هذا (ديبله) – يعنون شيطانًا – وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله كثيرًا على ذلك”.
واستقر الإمام في مصر بعد ذلك، حيث الأرض الخصبة للعلم والتعلم واحتضان العلماء وتوقير منازلهم، وهناك أبدع وتوهج علمًا ونورًا، وأثرى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات العظيمة، كما تلقى العلم على أيدي كبار علماء القاهرة التي كانت قلعة علم وثقافة تنافس حواضر الخلافة الإسلامية وعواصمها النورانية كبغداد ودمشق.
استقر القرطبي في صعيد مصر في مدينة تسمى “بني خصيب” وبها أكمل رحلته الطويلة التي ما توقفت يومًا واحدًا عن العطاء والبذل، حتى قُبض فيها يوم الإثنين من شهر شوال عام 671هـ، ودفن هناك، بعد أن ترك إرثًا وعلمًا ما زال خالدًا حتى اليوم ينهل منه العلماء وطلبة العلم.